المَزَّاح .. The Joker

إبداع

أحمد محمد الجذع

جيك ألسوب[1] Jake Allsop

ترجمة/ أحمد محمد الجذع[2]

كان مأتمًا بهيجًا وموفقًا جدًّا، حتى أن الشمس في ذلك اليوم أشرقتْ لأجل المرحوم هنري جراوند، كان ممدَّدًا في نعشه، ولربما كان يقضي وقتًا طيّبًا أيضًا، مرَّةً أخرى، وهي الأخيرة له في هذه الدنيا. كان هنري محطَ اهتمام الجميع، نعم، وكانتِ الأمورُ طيّبةً جدًّا؛ إذ كان الناس يضحكون ويتبادلون النكات فيما بينهم، كان الأقارب الذين لم يتحدَّثوا منذ سنوات يبتسمون في أوْجُه بعضهم، ووعدوا بالإبقاء على اتصال فيما بينهم، وبالطبع كان لدى كل واحد منهم قصة أثيرة يرويها عن هنري.

-“هل تذكرون عندما تنكَّر بزيٍّ غجري، وطاف من بيت إلى بيت، يخبر الناس عن حظوظهم وما يخفيه لهم القدر، لقد كسب ستة جنيهات في فترة ما بعد الظهر!”

-“في أحد الأيام كنتُ أتناول معه وجبة العشاء، في مطعم فاخر، عندما أحضر النادل الخمرة، وسكب كميةً قليلة منه في كأس هنري، وانتظر – وكانت نظرة تعالٍ بادية على وجه النادل – كما لو أنه يقول: “تذوَّقْهُ أيُّها القروي، إنه من الواضح أنك لا تعرف شيئًا عن الخمر، “لذلك هنري، وبدلًا من أن يتذوق الخمر –  كردَّةِ فعلِ أيِّ شخصٍ طبيعي – غَمَسَ إبهامه وسبَّابتَه في كأس الخمرة، ثم وضع يدَه على أُذنه، ولفَّ سبَّابتَه وإبهامَه معًا، كما لو كان يستمع إلى نوعية الخمر! ثم هزَّ رأسه للنادل بجِدِّيَّة، وكأنه يقول له: نعم، هذه نوعية جيدة من الخمر، بإمكانك تقديمُها لنا، كان عليكم رؤية وجهَ النادل! وقد كنتُ مندهـشًا، كيف تَمكَّنَ هنري من الحفاظ على جِدِّيَّتِه!”

وقال آخر: “ألمْ تسمعوا عنِ المَقلبِ المُضحِكِ الذي قام به عندما كان طالبًا، ذلك المقلب المضحك الذي عملَه بعُمّال إصلاح الطرق؟ إذ كان بعض العُمال يحفرون حُفرةً في الطريق، بدايةً اتصل بالشرطة، وأخبرهم أن هناك بعض الطلاب يحفرون حفرة في الطريق، وأن هذا الشيء غريب يقومون به، ثم ذهب إلى العمّال، وقال لهم إن بعض الطلاب قد تنكَّروا بزيّ رجال الشرطة، وأنهم سيأتون إليهم ليطلبوا منهم التوقف عن حفر هذه الحفرة! حسنًا، يمكنكم تَخيّل ما حدث! حيرة تامة!

-“نعم، كان هنري العجوز يُحِبُّ أن يستـفزَّ على سبيل المزاح، ذات مرةٍ تمَّتْ دعوتُه للحضور إلى مَعرِضٍ للفن، كان يعرض بعضَ آخر أعمال أحدِ الرسَّامين التجريديين المعاصرين، وقد تمكَّن هنري بطريقة ما من الدخول في اليوم الذي يسبق العرض، وقام بقَلبِ جميع اللوحات رأسًا على عَقِب، واستمرَّ المعرض لمدة أربعة أيام قبل أن يلاحظ أحدٌ ذلك!”

-“والده المسكين، لم يفهم أبدًا لماذا يفعل هنري مثل هذه الأشياء المجنونة” قال أحدهم.

-“من الصعب التصديق أن هنري كان من عائلة جراوند، عندما تفكر في مدى اختلافه عن إخوته” قال آخر.

نعم كان من الصعب التصديق أنه كان أحد أفراد عائلة جراوند، لقد وُلِدَ هنري لعائلة من الولايات الوسطى الأمريكية، ذات مكانة اجتماعية عادية، ولكنها ثرية. كان هنري أصغر الأبناء الخمسة للعائلة، وكان أفراد عائلة جراوند وسيمين للغاية، وذوي عيون زرقاء وشعر أشقر، أذكياء وطموحين. كان إخوة هنري الأكبر منه قد حقَّقوا نجاحات على مستوى حياتهم الشخصية، فقد تزوج الأربعة من فتيات جميلات، ممتلئات، وجذَّابات من عائلات مرموقة، وأنجبوا منهن أطفالًا شُقرًا، ووسيمين، وأذكياء مثل آبائهم.

أصبح الأخ الأكبر قِسّيسًا، والأخ الثاني انتهى به الحال إلى أن يصبح مديرًا لمدرسة حكومية مشهورة، والثالث اتجه إلى التجارة، فأصبح ذا ثراء فاحش، أما الأخ الرابع فاتبع خُطَى والدِهِ فأصبح محاميًا. وهذا هو سبب اندهاش الجميع عندما تبيَّن أن أصغر أفراد عائلة جراوند – هنري – كان كسولًا عديم الفائدة.

لقد كان هنري، مختلفًا عن إخوته، مختلفًا من حيث المظهر، إذ كانت لديه عينان بُنِّيَّتان، وشعرٌ أسود، ولكنْ كان كلُّ شيءٍ فيه يبدو وسيمًا، وجذَّابًا، مما جعله فاتـنًـا بنظر النساء، وعلى الرغم من أنه لم يتزوج، كان هنري جراوند بلا امتراء زِيرَ نساء، فقد كان يُحِبُّهُنَّ كحُبِّهِ للأكل، وللشرب، وللضحك، وللثرثرة وغيرها من آلاف الأنشطة، التي لا تُدِرُّ المال، أو تُحَسِّنُ من وضع الشخص.

كانت إحدى هوايات هنري المُفضَّلة هي عدم القيام بأي شيء، وكانت فكرتُه عن فترة ما بعد الظهيرة المفعمة بالحيوية عندما تكون الشمس مشرقة، هي الجلوس تحت شجرة ظليلة مع رفيقة جميلة بجانبه، والتحدث طول الوقت في مواضيع لا أهمية لها، كعدِّ ورق العُشب، وتعلُّم أغاني النحل التي تئزُّ حوله.

يا له من رجل تافهٍ! كانتِ الناسُ تتهامسُ عن أن والده الحقيقي لم يكن السيد جراوند المحترم مطلقًا، بل إن غجريًا همجيًّا أتى ذات يومٍ إلى منزل السيدة جراوند، وهامتْ به وشغفَها حُبًّا بعيونه السوداء الراقصة، وطرقه الغرامية الماجنة، لقد كانت هذه قصة جميلة، ومشوّقة، ورومانسية، ولكنها بالتأكيد غير صحيحة، كان هناك شيء واحد مؤكد: وهو أنك لا تستطيع منع نفسك من الإعجاب بهنري جراوند وموهبتهِ في إضحاكك، كان هنري جراوند قبل كلِّ شيءٍ شخصًا مزّاحًا.

على أي حال، استمرت القصص تحكى عن هنري حتى أثناء إنزال التابوت في القبر، وكان الناس يمسكون المناديل، ويغطُّون بها على أعينهم ويمسحون بها دموعهم، ولكنها دموع الضحك لا الحزن.

بعد ذلك أُقيمت مأدبة إفطار مراسم الدفن، وكانت للمدعوِّين فقط، وقد حضرها اثنا عشر شخصًا من أصدقاء هنري المُقـرَّبين، وقد طلب هنري جراوند من شقيقه كولين قراءةَ وصيَّتِه أثناء وجبة إفطار مراسم الدفن، لقد كان الجميع فضوليين بشأن وصية هنري جراوند، لقد كان مديونًـا طوال حياته، أليس كذلك؟ ما الذي عساه أن يترك في وصيته؟

تنحنح كولن: “إِحِم! إذا كنتم مستعدِّين سيداتي سادتي”. استقـر الجميع مترقبين، وفتح كولن الوصية وبدأ بقراءتها بصوت رخيم:

-“أنا، هنري جراوند، بكامل قواي العقلية … وصيتي الأخيرة … وبموجب هذا القانون …” وتوالت العبارات القانونية دون توقف، ونفد صبر الحضور للوصول إلى الجزء المهم، والذي جاء بشكل سريع نوعًا ما، وذلك عندما أعلن كولن أن هنري جراوند، وعلى الرغم من سمعته بأنه إنسان فاشل لكنه استثمر أمواله بحكمة بالغة، وكان في الواقع يملك ثلاثة أرباع المليون في أقل تقدير، عندها شَهَقَ الجميع، ولكن مَنْ هو سعيد الحظ الذي سيحصل على هذا المبلغ؟ ضاقت العيون وجَفَّت الحلوق.

-“أنتم جميعًا أصدقائي الأعزاء”، استمر كولن في قراءة وصية هنري جراوند بصوت رتيب ومُـمِلٍّ، والذي إذا كان في ظروف أخرى لكان سببًا في نوم الجميع، “لا أستطيع أن أقرّر أيًّا منكم أترك أموالي له”، توقف كولن مؤقتًا عن القراءة، وخيَّم صمتٌ مُطبِق على الجميع، ثم استأنف كولن قراءة الوصية، “ولهذا أصدقائي الأعزاء، لقد أعددتُ لكم مسابقة صغيرة، وهي أن يروي كلُّ واحدٍ منكم تباعًا أطرف نكتةٍ يفكِّـر بها، والذي يحصل على أعلى نسبة من الضحك سوف يرث ثروتي، وسيكون أخي كولن المحكّم الوحيد لأفضل نكتة”.

وبعد أن وضع كولن الوصية على الطاولة قال: “إذن، سيداتي سادتي، الأمر متروك لكم الآن. مَنْ سيبدأ؟ هل يمكن أن أقترح عليكم أن تبدأوا بحسب الترتيب الأبجدي لأسمائكم؟”

وقف أول شخص وروى نكتةً مضحكةً جدًا، حول رجل إنجليزي وَقَعَ بِحُبِ مظلته، وعندما انتهى كان غارقًا في دموع الضحك، لأنه كان دائمًا ما يضحك من النكات التي يُلقيها، أما بقية الضيوف فقد التزموا الصمت، ويمكنك أن تعلم من وجوههم الحمراء، وعيونهم المشدودة أنهم وجدوا النكتة مضحكة، ولكن لا أحد منهم كان مستعدًا للضحك وإعطائه فرصة للفوز بالمنافسة. كان الشخص الثاني سيدةً، وقد روتْ قصة عن خنزيرٍ ذي ثلاثِ أرجُل، والذي كان جيدًا لدرجة أنه بعد بضع سنوات أنتجتْ شركة إم. جي. إم. (MGM) للأعمال السينمائية فيلمًا كرتونيًا عنه، عندما جلستْ قام الآخرون – وكانوا يفعلون ذلك تعمُّدًا للتستُّر على ضحكهم – إمّا بإخفاء وجوهِهم في مناديلهم، أو سعلوا، أو تظاهروا بالعطس، أو أن بعض النسوة أسقطنَ أقلام أحمر الشفاه تحت الطاولة وذهبنَ ليتناوِلْنَها، وهكذا استمرَّتِ النُكت الرائعة واحدةً بعد الأخرى، ذلك النوع من النكت التي تجعلُك تشعر بألمِ أضلاعِك من كثرة الضحك، ورغم ذلك لم يجرُؤْ أحد على الضحك.

ليس خفيًّا على أحد، كيف يبدو الأمر عندما تُرِيدُ أن تضحك، ولكنك تكبحُ جماحَ ضحكِك! يحدث ذلك في قاعات الدراسة طوال الوقت، حيثُ يبدأ شخصٌ ما في القهقهة، ثم يحاول التوقُّـفَ فلا يستطيع، فيتبعُه على الفور ثلاثة أو أربعة آخرون يريدون القهقهة، فتنتشرُ الرغبةُ في الضحك كالعدوى، وسَرعَانَ ما تختنقُ القاعة بأكملها، في حين يبدو المعلم في حيرةٍ من أمرِه، ومتسائلًا: ما مصدرُ كلِّ أصوات الشخير تلك؟

حسنًا، بحلول الوقت الذي قيلت فيه النكتة الأخيرة، كان كلُّ واحدٍ من الاثني عشر جالسًا، وكأن على رؤوسهم الطير، مُستَمِيتينَ بِكبتِ ضحكهم الذي يحاولُ الانفجار، لقد أدَّى تراكُمُ ضحكهم المكبوتِ إلى زيادة هذا الضغط: كان مِثلَ بُركَانٍ على وشك الانفجار.

كان هناك صمت. صمتٌ مؤلم.

وفجأة، عطسَ كولن “آتشووو”. كانت عطسة طبيعية تمامًا. ثم أخرج منديلًا كبيرًا، سخيفًا، أحمر اللون مرقَّطًا، ونفخ به أنفه “بررريب.”

كانت هذه الحركة هي القشَّةُ التي قَصَمَتْ ظهرَ البعير، انفجرَ شخصٌ ما بالضحك حيث كان غيرَ قادرٍ على الاحتفاظ بها لفترة أطول، ودفع هذا الأمرُ الآخرين للبدء بالضحك. وفي لمح البصر، تضاعف العدد، وبدأت الدموع تنهمر من عيونهم، وكانت أكتافُهم تتصاعد كموجة بعد موجة من الضحك، مثل الحمم المنبعثة من فوهة البركان، لم يكونوا – بالطبعِ – يضحكون على العطس فقط، ولا حتى على النكات الاثنتي عشرة، لا، بل لقد كانوا يضحكون على أنفسهم؛ إذ اتضح لهم أن هنري جراوند قد قادهم إلى آخر أطرف مقلب، وهو أنه وضع حاجتهم للضحك ضد جشعهم في الحصول على المال.

وعندما هدأت الضحكات بعد طول انتظار، تنحنحَ كولن مرة أخرى، وقال وعيناه تلمعان: “اغفروا لي مسرحيَّتي الصغيرة، لقد كنتُ أتدرَّب على هذه العطسة لمدة أسبوع أو أكثر”. وطوى المنديل الضخم ووضعه في جيبه، ثم أضاف قائلًا: “طبعًا، كانت هذه فكرة هنري”. لم يكن لهذه الإضافة من داعٍ، فقد أدرك جميع الضيوف الاثني عشر أنه قد تَم الإيقاع بهم بشكلٍ رائع.

-“إِحِم! هل لي أن أقرأ لكم بقية الوصية الآن؟” سَأل كولن.

بدأت الفقرة الأخيرة من الوصية بـــــ: “أصدقائي سامحوني، ولكنني لم أستطع مقاومة لعب مزحة أخيرة عليكم، وإنه من الجيد معرفة أن حبكم للضحك تغلّب أخيرًا على حُبكم للمال.”

توقف كولن عن القراءة قليلًا، ليترك لمعاني الكلمات أن تُفهَم جيدًا. ثم قرأ الجزء الأخير من وصية الراحل هنري جراوند:

-“أصدقائي، أشكركم للسماح لي بالضحكة الأخيرة، أما بالنسبة للمال: لأني أحبكم جميعًا، ستقسم ثروتي بينكم بالتساوي، استمتعوا بحصصكم واذكروني كلما سمعتم ضحكًا”.

    أطبق الصمت على الضيوف، وللمرة الأولى خيّمت مشاعر الحزن على أجواء ذلك اليوم.


[1] كاتب بريطاني

[2] أكاديمي ومترجم