” كُلِّن يجمر على قرصه”

توقيع قلم

أ.د. عبد الله سعيد بن جسار الجعيدي

       المقولة في ظاهر معناها دعوة لأن يضعَ كلُّ فردٍ عجينة الدقيق بنفسه على الحجارة التي تحتها الجمر، ويستمر في تقليبها إلى أن تستوي، وتشكَّـلتِ المقولة من منظر سكان الأرياف، وخاصة البدو الرُّحَّل أو من عابري السبيل، عندما يتعاونون بتجهيز حلقة الجمر، والتحلُّق حولها، (اخدم نفسك بنفسك)، وهو موقف يُحِيلُ إلى الإيجابية. لكنَّ المقولة تحرَّكتْ في الثقافة الشعبية، وأخذتْ لها اتجاهات متعدِّدة، غالبُها سلبيٌّ، خاصَّةً عندما تقال من باب النصيحة الموغلة في الأنانيَّة أوِ الفرديَّة، ومن أمثلة ذلك عندما يفشلُ شركاءُ في مصالح تجارية أو غير تجارية، وينفرط عقدُهم، وينفضُّ جمعُهم، تحضُر المقولة؛ بوصفها الحـلَّ الواقعيَّ، ومَنْ يتلفَّظْ بها كأنَّما يَنطِقُهَا بلسانِ حالِ غَالبِ (المنفضِّين). 

      وأحيانًا يَنطِقُ بالمقولة مِمَّن هم خارج دائرة (الجمر)؛ وذلك للتعليق على مشاهدَ سياسيَّةٍ لدُوَلٍ، أوْ مواقفَ لشخصيَّاتٍ مؤثِّرةٍ بارزةٍ في الشأنِ العامِّ، فعلى سبيل المثال عندما سقطتْ سلطنتا حضرموت سنة 1967م دخلتْ (حضرموت الثوريَّة) ضِمْنَ جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، وتحصَّل كبارُ (مناضليها) على النَّصيبِ الأوفرِ من المناصبِ الوزاريَّةِ في أوَّلِ حكومةٍ في الجمهورية الجنوبية، وشكَّلوا بذلك – من الناحية النظرية – ثِقَلًا سياسيًا حضرميًا مَسنُودًا بثقل حضرموت الجغرافي، والثقافي، والاقتصادي، لكنَّ حقيقة الأمور أنَّ الكثير من المسؤولين الحضارمة في هذه المرحلة وما بعدها كانوا مِمَّن تقلَّدُوا مناصب كبيرة بالتوافق الجغرافي  قد تنكَّرُوا لهذه الجغرافيا، التي يسَّرتْ لهم تصدُّرَ تلك المناصب؛ ليتسنَّى لهم وحدَهم اللَّعِبُ بالجمرِ بأمان، وفي هذه المواقفِ تحضُر المقولة؛ بوصفها صرخةً غاضبة، وصيحةً ساخرة..  

        وفي مواقفَ معيَّنةٍ تحضُرُ المقولة الشعبية “كل دجاجة على مرعاض” (ميزاب)؛ لتكون لاحقة لمقولة (الجمر)، ومعزِّزَةً لها، وعلى ما في المقولتين من دلالاتٍ تبدو مُستقِلَّة؛ فإنهما اشتركتا في الجنوح الفردي، والروح الأنانية، وهذه المقارَبةُ بين المقولتين تُحِيلُ إلى مشهـدٍ مُتَخَيَّلٍ متكامِلٍ، له بداياتُه ونهاياتُه، فمَنِ اشتغلوا في بداياتهم لأنفسهم، وعلى حساب أهلهم والقضايا التي كانوا (يؤمنون) بها، حَتْمًا سيكونُ مصيرُهم العَيْشَ معزولين في جُزُرٍ متباعدةٍ عن قضايا مجتمعاتهم.

        أمَّا المَتْنُ لهذا المشهد المُتَخَيَّلِ ففيهِ تُروَى سرديَّاتٌ، قد تختلفُ في التفاصيل، لكنَّها في أصلها جسورُ مرورٍ هامشيَّةٌ، بينَ البدايات والنهايات (المقدمات – النتائج ).

        وهذا الإسقاطُ الافتراضيُّ له ما يُسنِدُهُ من واقع الحياة، وسأكتفي بنموذَجَيْنِ (سلبيَّيْنِ) من صِنفِ المناضلينَ المُعَارِضين، ومن صنفِ النُّوَّابِ البرلمانيين، ففي مجموعة (المعارضين) يُشَاهَدُ نموذجُ النَّقَابِيِّ الصِّنْدِيد، والصوتُ العنيدُ إلى أن يدخل حلقةَ (الجمر)، فيجدُ فيها مغانمَ كثيرةً، فيَصْمُتُ في انتظارِ رافعةٍ، تَضَعُهُ في أقربِ (مرعاض)، وهناك نموذجٌ مُشَابِهٌ في هذه المجموعة (المعارضة) وهم الثَّورِيُّون الجَسُورُونَ، الذين (جمروا) في أوَّلِ عهدِهم معَ الكَادِحين، وزَايَدُوا باسمهم وبمصلحةِ الوطنِ، إلى أنْ حانتْ لحظتُهم التاريخيَّةُ، والتَحَمُوا بالمناصبِ المُغرِيَةِ، تَشَبَّثُوا بالمراعيض.

      أمَّا (المتجمِّرون) من البرلمانيين فهم ذَوُوْ حظٍ عظيمٍ في بدايات المشهد ونهاياته؛ فأكثرُهم من أوَّلِ (حلقة) برلمانيَّةٍ جَمَعُـوا بينَ المقولتَيْنِ (الأُخْتَيْنِ)، وإذا اختلفَ المناضلون مع البرلمانيِّين في البداياتِ فإنَّهمْ يتشابهون في النهايات (المرعاضية)، التي جعـلُوا منها منابرَ للخطابةِ الوطنية والثورية، ومن تحتهِمُ  الجماهيرُ الغفيرةُ، الذين عليهِمُ الاستماعُ إلى النصائحِ، التي تحثُّ على الصَّبرِ مِنْ جُوعٍ، وعلى الثباتِ من قهرٍ، كما أنهم حافظوا على وضعِ الاستعدادِ للهُبُوطِ الآمن، ووضعِ الطيرانِ البعيد، بحيثُ إذا ضمنوا على سطح الأرض الكثيرَ من أقراصِ الخُبزِ الطازجة هبطوا، ومعَ الجماهيرِ سَارُوا ، وإذا ساءَتِ الأمورُ وَحدَهُمْ طَارُوا..