محمد علوي باهارون
الشاعر المفلق العلامة جابر بن أحمد رزق الحديدي من شعراء مدينة الحديدة ، كان من رواد الأغنية الصنعانية حيث نشأ وتعلم وتربى بصنعاء ثم انتقل إلى الحديدة لظروف ألمت به واتصل هناك بعلمائها من الاهادلة وغيرهم ونبغ في الشعر الصوفي والمديح النبوي حتى صار علماً مرموقاً بالشعر والتلحين والإنشاد وكانت وفاته سنة 1322هـ كما ذكره مقدم ديوانه ( زهرة البستان في مخترع الغريب من الألحان) وقد جاء في (موسوعة شعر الغناء اليمني) إنه آخر شعراء القرن التاسع عشر ووفاته عام 1905م، بينما يقال إنه جاء إلى حضرموت قاصداً زيارة شيخه العلامة علي بن محمد الحبشي عام 1333هـ فوجده توفي في ذلك العام وحضر تأبينه وأبّنه بقصيدة فريدة فستكون إذاً وفاته آخر ذلك العام أو بعده.
في بدايات القرن الرابع عشر الهجري صاغ الشاعر جابر رزق قصيدة فريدة وابتدع قافيتها ووزنها ولحنها على غير مثال سابق لها معهود باليمن وحضرموت يمدح بها الجناب النبوي ويتشبب بتلك الحضرة النبوية العظيمة وهي من الشعر الشعبي الدارج المعروف في حضرموت بالحميني والذي يكون فيه اللحن أعذب كما يقال عنه قال فيها :
دع ماسوى الله واسأل ألا له التدبيرماشاء يفعل ومن عليه توكل إن شئت عقدا لمدلهات ينحل إلى قوله : بالله قل لي تفضل مامقصدي في الفعل آخر وأول عن كل ماشئت فاسأل في بحر أهل العشق شأني مفضل للخلق خالق تكفل العدل يامحبوب أبقى وأجمل قم ميت الذنب وارحل قل ياغياث الخلق من ضاع أو زل | مولاك إن الذي أنشاك مارد سائل بلى قدير على ماشاءه ذو الجلال مازال طول المدى في حلة السعد رافل صلي على من كساه الله ثوب الجمال منحتك الان فافعل يارشا ما أنت فاعل إلا جنى الجنة الخضراء ورشف الزلال لأنني في الهوى ادري بكل المسائل لا اشتكي من ظمأ أيضا ولا من سؤال والله وبالله إن الله حاكم وعادل والمرء في هذه الدنيا كطيف الخيال إلى الحبيب الذي شدت إليه المحامل إليك ياخير من شدت إليه ام رحال |
وقد انتشرت هذه القصيدة في الأوساط اليمنية بلحنها الفريد وتغنى بها العديد من الفنانين من تلك الفترة إلى اليوم , ولما وصلت إلى حضرموت وغنى بها المغنون وحدا بها المسمعون في مجالس الدان والسماع المعروفة أعجب بها الكثير من أدباء حضرموت وانسجوا على منوالها وزناً وروياً ولحناً العديد من القصائد حتى صارت لاتذكر تلك القصائد إلا بهذه القصيدة فيقال عند ذكر إحداهن على وزن قصيدة جابر رزق كما ذكر ذلك السيد المؤرخ عمر بن علوي الكاف في كتابه تحفة الأحباب عند ذكره لقصيدة ابن شهاب والسيد ابوبكر بن علي المشهور في كتابه لوامع النور عند ذكره لقصيدة جده المشهور وسيأتي ذكرهما .
ويقول العلامة الكاف في كتابه المذكور عن تلك القصيدة : وقد حظيت هذه القصيدة بالمحل الاسنى من الاستملاح والقبول لدى كثير من شعراء حضرموت البلغاء الفحول حتى قالوا قصائدهم الطنانة معارضتها في موضوعها ووزنها ونغمتها كالإمام العارف الولي السيد علي بن محمد الحبشي والعلامة علوي بن عبدالرحمن المشهور والحبيب العلامة عبدالله بن عمر بن احمد الشاطري وغيرهم ممن لا يحضرني الآن ذكرهم.
وسنشير إلى جماعة من أدباء حضرموت ممن وقفنا على قصائدهم وكان من أوائل المعجبين بقصيدة جابر رزق شيخه: الإمام علامة حضرموت وأديبها الحبيب علي بن محمد الحبشي المتوفى بمدينة سيوون سنة 1333هـ وكان جابر رزق قد أخذ عنه وراسله وامتدحه ورثاه بقصيدة فصيحة فائقة.
لقد نظم الإمام الحبشي على غرارها مديحة نبوية عظيمة مذكورة في الجزء الثالث من ديوانه الحميني المسمى (الجوهر المكنون والسر المصون) يقول فيها :
لطيبة شد وارحل في مشهد كم فيه من صب يذهل إلى أن قال: ياجامع الحسن الاكمل أنت الذي في الحسن أعلا وأجمل أنت الجميل المجمل عقدك لدي والله ما قط ينحل | إلى حمى سيد السادات نطوي المراحل لله من حي فيه الكأس صافي زلال يابهجة القلب ياحاوي جميع الفضائل يامفردا قد تجمع فيه وصف الكمال يانورنا في الضحى يانورنا في الاصايل حاشا لعقد الهوى يكون فيه انحلال |
والثاني : هو السيد الأديب أحمد بن عيدروس بن محمد بن شهاب المتوفى مهاجراً بسربايه نسج على منوالها قصيدة يمدح بها مدينة تريم وأسلافه الصالحين الذين ضمتهم مقبرة زنبل وبشار قال فيها :
يا رائحاً نحو زنبل وقل لهم جسمي من البعد معتل إلى أن قال : يا رب غيثاً معجل ويحصل المطلوب والستر يسبل | بلغ سلامي على من حل به من أفاضل قد صار من كثرة الهجران شبه الخلال ويشرب الوادي الميمون عالي وسافل ياربنا ياصمد يافرد ياذا الجلال |
والثالث: هو العلامة الأديب السيد علوي بن عبدالرحمن المشهور المتوفى بمدينة تريم سنة 1341هـ أنشأ مديحة نبوية غراء مطلعها :
الفضل واسع وأجزل لابد من ذو الفضل يعفو لمن زل لذ بالنبي خير مرسل والله ما في الكون أعلا وأفضل | لمن عصا ثم بالإقبال أضحى معامل ويفتح الباب في الدنيا ويوم المآل زين الخلائق كثير الجود خير الوسائل ممن سقي ليلة المعراج كاس الوصال |
والرابع : السيد العلامة الأديب عبدالله بن محمد باحسن جمل الليل المتوفى بالشحر سنة 1347هـ ، ربطته علاقة فنية بالشاعر جابر رزق عندما زار حضرموت عام 1333هـ، وتأثر بقصائده وألحانه الشجية وقد ذيل على قصيدته السابقة بعد الأربعة الأبيات الأولى بقوله:
أما ترى الجسم معتل اليوسفي البهكلي المدلل كم لي ونا فيه أنا فيه مشغل وهاك عني الكرى قد ترحل ما هكذا كان يفعل كن راقب الرحمن يا خل توسل صلى الإله المبجل طه النبي الهاشمي المفضل | من عشق سيد الغواني أصبح الجسم ناحل الفاتن الناعس الخرعوب زين الدلال وأعيني بالدموع الساكبات الهواطل إي والنبي إنني أمسيت له في انتحال ولا يجوز أنني أضحى حليف الشواغل فليس طبي من الأسقام إلا الوصال على إمام الورى الجامع لكل الفضائل والآل والصحب ما هبت هبوب الشمال |
والخامس: العلامة الأديب السيد عبدالله بن عمر الشاطري المتوفى بتريم سنة 1361هـ لقد نظم على قصيدة جابر رزق قصيدتين مذكورة في ديوانه الأولى على نفس نمطها في التوسل والالتجاء إلى الله قال في مطلعها :
بالله يا محكم الشل غطرف بصوتك بالمغاني تجمّل عبدك ببابك توسل ظهره من الأوزار يارب مثقل يارب جد بالمؤمل اغفر وسامح للعبيد الذي زل إلى إن قال: ذا بارق الخير يشعل الحمد للرحمن لي قد تفضل | نسنس بصوتك فان الصوت ينفي الشواغل واذكر لنا المصطفى المختار باهي الجمال مذنب مقصر من الأهوال يارب ذاهل ماله عمل غير دائم بالمعاصي موال لمن ببابك قرع يرجوك بالجود واصل يا سيدي يا إله الخلق يا ذا الجلال وسحب ذي الوصل والإيصال بالجود هاطل كم قد تفضل وكم انعم نعم كالجبال |
والقصيدة الثانية على قافية القاف قال في مطلعها :
قف بالأدب ياموفق هذا الحمى هذا المقام المرونق | يامدعي الحب يا من مجانيه ذائق احطط رحالك فكاس الوصل والأنس راق |
والسادس: الأديب الشيخ عوض بن سالم بن عبدالله بن احمد ابن الربان سعيد باطايع المتوفى بالحامي سنة 1388هـ. أبدع قصيدة فريدة على بديعية جابر رزق وذلك عندما حج بيت الله الحرام وزار قبر نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام بمعية النقيب محفوظ بن احمد الكسادي حاكم الحامي فعندها هاجت مشاعره وانشأ هذه المديحة العظيمة في النبي صلى الله عليه واله وسلم استهلها بقوله :
يا من عليه المعول يا من إذا قد جاء في خير أجزل إلى إن قال : حديث نظمي مسلسل أنت ملاذ الخلق آخر وأول | عبد ضعيف القوى واقف على الباب سائل فلا تخيب عبيدا مد كف السؤال في مدح خير الورى المختار ابن الأفاضل فكن شفيعي نهار العرض يوم السؤال |
ثم قال يشكي حاله واعترافه بالتقصير طالبا منه الشفاعة:
ها قد أتيتك مكبل وبالمعاصي والخطايا محمل | لأنني عن طرق الحق والرشد مائل فاشفع لنا يوم لا ينفع بنون ومال |
ثم قال مخاطباً النقيب واصفاً تلك الطلعة النبوية وعجزه عن أن يفئ بمدحها :
حزت الجمال المكمّل وقف بفكرك في قريضي وخمل | ذا بحر يا بو محمد ماله قط ساحل واحذر من اللائم الواشي وقيل وقال |
إلى هنا ولنكتفي بمن ذكرناهم من أولئك الأدباء الفطاحل وقصائدهم المبدعة التي حوت من التراكيب الجمالية البديعة أقصاها مع جزالة فصاحتها، بل أن وزن وقافية جابر رزق أضفت إليها جمالا مرونقاً ويزيدها جمالا إذا أنشدت بلحنها الشجي المتميز الذي ترق له الأفئدة عند سماعه , إذ أن قافية اللام الساكنة من أحسن وأروع القوافي عند علماء الأصوات وموسيقى الشعر .. والله من وراء القصد .