تحقيق وتصوير: عبدالله عوض بكير - صالح الفردي
عبدالله عوض بكير - صالح الفردي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 1 .. ص 18
رابط العدد 1 : اضغط هنا
السؤال في المعاوص والإجابة في البقرين
وقفنا – كثيراً – أمام مادة التحقيق الذي نبدأ به مشوار المجلة (حضرموت الثقافية) وعندما حسمنا أمرنا بتتبع قصة بناء (سواقي مدينة المكلا .. عتوم شريان الحياة) لهذه المدينة التي اتسعت رقعتها كثيراً وازدحمت بالقاطنين فيها، وهي المدينة العاصمة لحضرموت، كنا نظن أن المصدر (النبع المائي) يقع في منطقة المعاوص بخارج المدينة من بوابتها الشرقية، فأخذنا (الكاميرا) واعتلينا الدراجة النارية لنبدأ مشوار التحقيق من هناك، لنجد الإجابة الحاسمة من المواطن (عادل هادي بكير) من قاطني هذه المنطقة الذي حسم الأمر بالقول: مصدر مياه المكلا من منطقة البقرين وليس من هنا، فانطلقنا عصر يوم السبت السادس من رمضان الموافق: 11 يونيو 2016م، لنصعد إلى منطقة البقرين، وخلال سلوكنا الطريق كانت تبدو لنا بقايا هذا الشريان المائي العذب مقطع الأوصال، ولم نيأس من العثور على ما نبحث عنه من تاريخ عريق لهذا المشروع الضخم في حياة المدينة مطلع خمسينيات القرن الماضي، وما أن وصلنا قمة الجبل وجدنا الامتداد والاستواء المكاني الذي شهد ملحمة البناء والإنشاء لهذا المشروع الذي سجل قصة الأجداد الأفذاذ الذين تركوا مآثرهم دالة عليهم وعلى علو كعبهم في خوض الصعاب وتذليل المستحيل، وانشغلنا بالتصوير ومتابعة تفاصيل التفاصيل لمكوناته التي مازلت دالة عليه، ولم يفت الوقت لاستعادتها إلى وضعها الذي يليق بها ويعطينا الحق في الحديث عن ذلك التاريخ ووسم أنفسنا بأننا أهله وأبناءه وأحفاده، فما هو كائن ليس بكثير، وما عملت يد العابثين وسارقو التاريخ وأقزام المرحلة على طمسه وتشويهه والبناء عليه وبجواره وفوقه الشيء الكثير، ولكن التاريخ لا يرحم وبالعابثين لن يرحم، وتظل الإدانة لابسة القائمين على أمر هذه المدينة خاصة والمحافظة عامة عند حلول كل مساء واشراقة كل صباح.
النهضة لا تأتي من عدم ولا تنطلق من فراغ
تحتفي الأمم والشعوب بتاريخها وتراثها ومآثرها ومعالمها، ولا تدع سانحة أو فرصة تمر دون أن تؤكد حقيقة هذا الاحتفاء الثقافي والحضاري والإنساني، وتزداد فخراً واعتزازاً وهي تعمق الانتماء والالتصاق بهذا التاريخ والتراث والمآثر والمعالم وعندما تشرع في بلورة مشاريعها النهضوية الكبرى لمواجهة تحديات العصر ومشكلاته تنطلق من إدراكها العميق بأن النهضة لا تأتي من عدم ولا تنطلق من فراغ، وما التاريخ الإنساني إلا هذه الحلقات المتصلة من التجارب الإنسانية في مناحي الحياة كافة، وقوانين العيش المشترك عامة لأي أمة من الأمم أو شعب من الشعوب.
صياغة الهوية وصناعة المستقبل
واليوم يعصرنا الألم ونحن نرى كيف تحاول الكثير من الدول أن تصنع لها تاريخاً وتؤسس لتراث لا يبتعد كثيراً – زمنياً – عن حاضرها الذي تعيشه، إلا أنها وهي تعمل – جاهدة – لصياغة هويتها وتسويقها حضارياً وإنسانياً في هذه القرية الكونية، ترصد الموازنات الكبيرة لاستعادة الذاكرة الوطنية والوعي الجمعي المتشظي، من خلال البعث الجديد لتاريخها وتراثها وأمجادها التليدة، إن كان لها تاريخ، وإن لم، تعمل على صناعته وتوظيفه توظيفاً حضارياً يجعلها محط أعجاب وأنظار المعمورة، ويدفع بها إلى مقدمة الشعوب التي تحمل رسالة إنسانية وحضارية تلملم شتات موطنها ومواطنيها وصهرها في بوتقة واحده هي نتاج لهذا الاهتمام وذلك الوعي العميق بقيمة الجذور واشتغالها في الحاضر وتأمينها للمستقبل.
المكلا تاريخ وذاكرة
عندما بدأنا الخطوة الأولى في متابعة سطور هذا التحقيق، في محاولة للنبش في ذاكرة الناس في مدينة المكلا خاصة، والأمة الحضرمية عامة، في سياق البحث عن علامات ضوء وضياء في تاريخينا القريب، الذي سطره الأجداد وهم يصنعون ملامح حياتهم ورؤى مستقبلهم، كانت مدينة المكلا هي غايتنا، بوصفها، المدينة الحلم التي تشكلت على أسس حضارية ومدنية منذ البدايات الأولى، وظلت، وهي كذلك، عنواناً لعمق الرسالة الحضارية لحضرموت في الداخل الوطني وعمقه الحضاري المهجر، وبوصفها المدينة التي انهالت عليها مطارق ومعاول الهدم والتشويه والتدمير الممنهج لكل ملامحها الحضارية التي كانت، ولم تزل تنزف وتستنزف في مخزونها التاريخي وتراثها الشعبي ومعالمها وآثارها التي صارت جزءاً أصيلاً في دفتر التاريخ المجيد لحضرموت، ومن هذه المعالم التاريخية الشاهدة على عظمة الأجداد وحسن تدبيرهم وجمال أخلاقهم وقوة عزيمتهم (سواقي المكلا – عتوم الحياة) والحكاية تبدأ من هنا.
سواقي المكلا و(العتوم) ما خفي منها والمعلوم
حتى وقت قريب كانت سواقي المكلا القديمة قابضة على صخورها الجبلية، علواً وانخفاضاً، استواءً وتعرجاً، تحكي قصة تاريخ مجيد ونجاح كبير لكوكبة حضرمية، كانت تعمل على راحة الوطن والمواطن، وتسهر الليل من أجل حل مشكلاته وتذويب أزماته، وتطوير مستوى خدماته، إذ حتى مطلع خمسينيات القرن الماضي كان سكان المكلا يتزودن بمياه الشرب من منطقتي البقرين وسقم – ديس المكلا – ويتم جلب الماء على ظهور الحمير أو على ظهور بعض السقاة من النساء والرجال الذين يعتاشون من هذه المهنة.
أما الاستخدامات الأخرى للمياه فتوفرها للساكنين بعض الآبار التي حفرت داخل المدينة، ومن أبرزها: بئر الشيبة وبئر الفرنجي في حي الحارة، بالإضافة إلى آبار المساجد ومن أبرزها: بئر مسجد الروضة ومسجد عمر ومسجد النور ومسجد باحليوة، حيث كان الناس يستخدمون (المقالد) في المساجد للاغتسال والوضوء، أما النساء فيلجئن إلى البحر (بحر المشراف) الذي كان موقعه مكتبة الطفل اليوم وساحتها، للاغتسال وغسل الثياب، وكان مستوراً ويمنع الرجال من دخوله.
معاناة .. مشكلة .. صعوبة حياة
عانى سكان مدينة المكلا – كثيراً – من التعب للبحث عن مياه الشرب النقية والنظيفة الصالحة، وزادت هذه المعاناة مع تكاثر السكان، خاصة، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وما رافقها من تداعيات (المجاعة) التي اضطرت الكثير من الأسر في الداخل والصحراء إلى النزوح إلى مدينة المكلا، فتأزمت مشكلة الحصول على المياه، وصعوبة جلبها من مسافات بعيدة عن مركز المدينة وبطرق بدائية عن طرق (قرب) الماء التي تحملها النساء، أو عن طريق (المعارص) التي يجملها الرجل، وفضل الكثير من الأسر السكن في ضواحي المدينة حيث وفرة المياه في مناطق الحرشيات وثلة باعمر والبقرين والخربة وغيرها من المناطق التي اشتهرت بالمعايين والآبار العذبة التي هيأت لساكنيها فرصة إقامة البساتين والمزارع والحدائق الخاصة.
السلطان صالح ومشروع مياه المكلا
منذ أن تقلد السلطان صالح بن غالب القعيطي شؤون السلطنة (1936 – 1956م)، شرع في وضع خطط تطويرية في كثير من مجالات الحياة، مستفيداً من استتباب الأمن في ربوع حضرموت بعد الصلح الحضرمي للسلام (صلح انجرامس) ليهتم بكثير من القطاعات، من بينها (المياه) حيث سعى – جاهداً – للتخفيف عن ساكني المدينة ورفع معاناتهم اليومية جراء جلب مياه الشرب من منطقتي (البقرين) و (سقم).
وبحكم تعدد قدرات السلطان صالح وملكاته وثقافته الموسوعية واطلاعه على تجارب الدول التي زارها، ووله بالعلوم والاختراعات، ظهر مشروع مياه المكلا في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، لتتم الاستفادة من معالمة البناء وبعض الفنيين المهتمين بشأن المياه الذين اقترحوا على السلطان جلب الماء إلى قلب المدينة بدلاً من ذهاب الناس إليه في أطرافها البعيدة، فوضعت الخطة المحكمة لتنفيذها بدقة متناهية في انجاز تنموي وعمراني بيئي قل نظيره في دول الجوار زمنئذ، وهو المشروع الذي حسم مشكلة المياه لساكني المكلا وبما يتوافق والامكانات المتاحة يومئذ وطبيعة الظروف والتطور الهندسي والتقني في الوطن العربي في منتصف القرن الماضي.
مشكلة .. فكرة .. خطة .. تنفيذ .. نتائج
لم يدع السلطان صالح بن غالب الفرصة تفلت من بين يديه، فانطلقت الفكرة لحل المشكلة، بعد وضع الخطة والتصميم وقياس جدواها ومردودها الاجتماعي والاقتصادي على المدينة، فتمحورت خطة التنفيذ على الآتي:
فالساقية الأولى تنطلق من نبع البقرين في أقصى منطقة الديس بمحاذاة الجبل بطول: (3000) متراً تقريباً، أما الساقية الثانية فتم إنشاؤها في الجانب المقابل، حيث تحمل الماء من نبع (سقم) الذي يقع في أقصى جول الشفاء بمحاذاة المنطقة الجبلية عند الغار لحمر بطول: (1150) متراً تقريباً.
قوانين توزيع المياه .. نظام اجتماعي دقيق
بعد الانتهاء من المشروع ودخوله حيز التنفيذ، استقبله الناس بالبشر والترحاب، إذ كانت المشكلة تقلق الكثيرين، وبعد أن تم حلها وحسمها، كان الحكومة القعيطية تبحث عن قوانين للتوزيع والاستفادة من هذا المشروع وبما يعود بالنفع العادل لجميع قاطني المدينة، الأمر الذي دفع الجهات المسؤولة إلى صرف بطاقات تموين خاصة تصرف لكل أسرة وتحدد حاجتها بحسب عدد أفرادها، وكان السقاة من الرجال والنساء يقومون بجلب الماء للمواطنين من الخزانات الستة المنتشرة في أحياء المدينة إلى بيوتهم حيث تحفظ في (الزير) أو (الجوابي) المنزلية الصغيرة، وبعضها يتم وضعه في (الحجلة) أو (الكوز) بغية تبريدها، إذ كان أصحاب البيوت يمنحون السقاة بطاقاتهم التموينية ويدفعون لهم أجرتهم الشهرية اليسيرة مقابل خدمة جلب الماء إلى المنازل.
خدمة منزلية وتفتيش صحي وبيئي
لم يكتفِ القائمون على انجاز المشروع على استكماله وبدء خدمته الاجتماعية وحسب، بل كان مشروعاً خدمياً أسس لقوانين ومعايير اجتماعية واقتصادية وصحية وبيئية تكمل الوجه المشرق لهذا المشروع العملاق لحظتئذ، فكانت صحة البيئة – ونحن هنا نتحدث عن خمسينيات القرن الماضي – تقوم بالتفتيش الدوري في البيوت ويقوم عمالها بمعاينة (الزيار) و (الجوابي) للتأكد من خلوها من يرقات البعوض وغيرها من اليرقات، حيث تتخذ الإجراءات العقابية بحق أولئك الذين لا يعتنون بنظافة أوعية مياههم حماية لهم وللمجتمع من مخاطر الملاريا التي تنقلها أثنى البعوض، كما يتم رش أماكن توالد وتكاثر البعوض بالأدوية المخصصة لذلك.
وهنا نرى كيف كانت الدولة (الحكومة) ومؤسساتها الخدمية تسهر على راحة الناس وحماية المجتمع، حداً جعلها، تضع قواعد وأسس لصحة والبيئة ومتابعتها إلى المنازل دون تردد، والمواطن يلتزم بآلية النظافة والصحة والبيئة حتى في عقر منزله، ولا يستطيع الرفض أو الامتناع وعدم الامتثال لهذه القواعد والقوانين، فشتان بين زمن كانت الصحة والنظافة تذهب إلى (الجحلة والكوز والجابية المنزلية)، وزمن الآن ….!.
تطوير المشروع بعد عشر سنوات من انطلاقه
كغيرها من الدول المتحضرة، كانت السلطنة القعيطية، تعود إلى مشاريعها الخدمية والتربوية والتعليمية والصحية والكهربائية والطرقات وغيرها، لتعيد تقييمها وتقويمها ومدى الاستفادة منها والاستمرارية فيها، في ظل الارتفاع المتزايد في عدد السكان بمدينة المكلا، ففي مطلع ستينيات القرن الماضي وفي عهد السلطان عوض بن صالح القعيطي تم حفر آبار للمياه في منطقة ثلة باعمر وتم إحضار مواسير للمياه لأول مرة إلى المكلا، من خلالها تم نقل المياه إلى (الجوابي) المعروفة في المدينة، كما تم ربط المياه إلى بيوت بعض الميسورين والقادرين على دفع تكاليف الربط من أبناء مدينة المكلا، أما أحياء المدينة فقد استمر الحال فيها عبر السقاة من الجوابي المحددة لكل حارة.
تطوير باستشارة بريطانية
في العام 1965م تم إنشاء وحدة تشغيل أول مشروع مياه حديث وبخبرات واستشارات بريطانية من شركة (جورج استو) تتبع لإدارة الأشغال العامة بالسلطنة القعيطية، وفي العام نفسه تم تنفيذ أول مشروع مياه حديث بالخبرات البريطانية للشركة ذاتها، وتم في يوليو من العام 1966م تشغيل المشروع لتغطية احتياجات المدينة المتطورة كعاصمة للسلطنة، حيث تضمن مكونات المشروع الآتي:
قصة نجاح .. وحكاية عبث وتدمير
واليوم، ونحن نعود لنسجل قصة النجاح هذه، وعظمة الأثر الذي خلفه الأجداد للأبناء والأحفاد، فإنما نحاول تحريك بقايا الانتماء، و نستنهض ما تبقى من صدق لهذا التاريخ المجيد لهذه المدينة الحلم، التي يعتصرها الجميع ويمتصها مصالح ومنافع ومغانم ومكاسب في أبشع صورة ويمضي لا يلقي لها بالاً لما يصيبها من تدمير وما يتركه من عبث يتسع مداه يوماً بعد يوم، من كل الجهات الرسمية المسؤولة عنها التي تعاقبت على شؤونها، وهي تستنزف مخزونها المجيد وأحفادها لاهون، وفي غيهم سادرون، وعن تاريخهم ومآثرهم غائبون، وهي مصيبة المكلا التي لا يستشعرونها ولا يدركون، فمن لهذه المآثر والأمجاد يهتم ويرعى ويصون؟!..