ملف
أ. صالح حسين الفردي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 1 .. ص 98
رابط العدد 1 : اضغط هنا
يحتاج المتابع لحركة الحياة الفنية والثقافية والإبداعية في حضرموت إلى وقفات متعددة وتأملات كثيرة عندما يقارب رحلة الفنون والإبداع في حضرموت عامة والمكلا خاصة منذ مطلع أربعينيات القرن الماضي وحتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، إذ ستبرز أمامه الكثير من القامات الفنية والإبداعية السامقة التي أثرت الحياة والمشهد الحضاري والثقافي والإبداعي، وظلت تشكل النموذج الحقيقي للمبدع الفنان الذي لا يتردد من تكريس ثقافة الوعي ووعي الثقافة في مجتمعه منشغلاً عن مطامع الدنيا ومصالحها الضيقة والزائفة.
حسنون عنواناً للزمن الإبداعي الجميل:
ليس سهلاً الإمساك – اليوم – وقد غادرنا الراحل المبدع عمر مرزوق حسنون إلى دار البقاء – يرحمه الله – ليس سهلاً الإمساك بتاريخ وتراث هذا الرجل الذي كان عنواناً أصيلاً ومبدعاً للزمن الجميل، وشكل مع غيره من أعلام ومبدعي خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضي ملامح الحياة الثقافية والفنية والمسرحية والغنائية والتشكيلية ولإذاعية والفلكلورية لحضرموت، فكان حسنون (أبو الفنون) إذ تفرد عن كثير من أقرانه بملكاته الإبداعية في فنون التشكيل وهندسة الديكور والخط وتصميم المجسمات للمعالم الأثرية والتاريخية والإخراج المسرحي، كل هذه الملكات رفدها بتاريخ مجيد وعطاء متعدد في الخارطة التربوية والتعليمية لمدارس الإعدادية والثانوية ليختمه بالتعليم الجامعي، يوم تتلمذنا في منتصف ثمانينيات القرن الماضي علي يديه معلماً لمادة الوسائل التعليمية الممتعة التي تمكِّن خريج كلية التربية العليا بالمكلا بجامعة عدن من القبض على أدواته المساعدة لمهنته السامية التدريس، وهي السنوات التي اقتربت، كثيراً، منه بمعية أخي وزميلي الطالب حينئذ الدكتور اليوم طه حسين الحضرمي، فترددنا عليه مراراً وتكراراً بـ(ريم) اتحاد نقابات العمال بالمكلا، عندما كان يقوم بإخراج أعماله المسرحية لفرقة بارادم للمسرح، ولكن لرائدنا المبدع عمر مرزوق حسنون أكثر من محطة إبداعية في مشوار حياته الزاخر بالألق في فنون الإبداع بحضرموت.
حسنون رائد وفنان في مدارس زمان:
لم تشهد مدارس حضرموت الابتدائية زمن الدولة القعيطية في مطلع الخمسينيات من القرن الفارط معلماً كان شعلة نشاط وجذوة حيوية في تفعيل الأنشطة اللاصفية مثل التربوي القدير الفنان الشامل: عمر مرزوق حسنون، فلقد وهب نفسه منذ وقت مبكر لاكتشاف المواهب الطلابية وتدريبها وصقلها، فنياً وإبداعياً، في مجالات الفنون المسرحية والخط والرسم وفن هندسة الديكور وتصميم الوسائل التعليمية، إذ كان شيخنا التربوي عاشقاً كبيراً لفنون الإبداع، وراغباً دائماً في نثر أريجها على بساط المدارس التي تقلد إدارتها، أو كان عضواً فاعلاً في هيئتها التدريسية، ولأنه من ذلك الزمن الجميل الذي راهن على الرقي الحضاري وريادة النبوغ التعليمي والسمو التربوي فقد عمد إلى تعميق عشق الفنون في قلوب تلامذته وطلابه وكان بحق الرائد الذي يشكل الذوات الصغيرة ويصقلها في تلك الفنون لتصبح علامات فارقة في تاريخ هذه الفنون في حضرموت.
حسنون والطفل الحضرمي:
عندما بدأت مصلحة المعارف (وزارة التربية والتعليم) في الدولة القعيطية منتصف ستينيات القرن العشرين التفكير في (حضرمة) المنهج السوداني الذي اعتمدت عليه في نهضتها التعليمية مع مطلع الأربعينيات، اتجهت إلى كتاب المطالعة للصف الأول ووضعت له مسمى كتاب: (الطفل الحضرمي) للدرجة الأولى بالمدارس الابتدائية، فكان شيخنا الفنان عمر مرزوق حسنون ضمن الفريق التأليف للكتاب مترجماً مفرداته بالصورة والأشكال المعبرة، والكتاب الآخر كان كتاب التاريخ للصف الرابع ابتدائي الذي أطلق عليه: (تاريخ حضرموت في شخصيات) وصدر في 6 نوفمبر 1957م، وألفه الأستاذ سعيد عوض باوزير ووضع دروس المراجعة والاختبار والإرشادات الخاصة بطريقة التدريس للكتاب الأستاذ التربوي الرائد عبدالقادر محمد باحشوان ورسم خطوطه الأستاذ عمر مرزوق ، ليتسع دوره في رسم الأشكال الهندسية والصور واللوحات التعبيرية ليشمل الإصدار التربوي صحيفة (الرسالة التربوية) التي صدر العدد الأول منها في العام 1962م، وكذلك جميع الإصدارات السنوية ( كتاب الإحصاء التربوي) التي يصدرها قسم الإحصاء والنشر بمصلحة المعارف بالمكلا، ولم تزل هذه الأعمال شاهدة على موهبته وعبقريته المبكرة في الخط والرسم والتشكيل.
السباحة في بحار المسرح:
على الرغم من تعدد مواهبه الإبداعية وقدراته الفنية، إلا أنه آثر السباحة في بحور المسرح المدرسي وتعميمه وجعله المحك الحقيقي لنجاح هذه الإدارة المدرسية أو تلك، وواصل رحلته الإبداعية ليرسخ قواعده وأنشطته في مدارس مدينة المكلا خاصة، وظل نشطاً في خلق قاعدة مسرحية تليق بتاريخ حضرموت الحضاري وريادتها في الكثير من الفنون والآداب.
ثنائية حسنون الحبشي:
لقد وجد المبدع عمر مرزوق حسنون في التربوي القدير والمؤلف المسرحي سالم عبداللاه الحبشي خير معين في مشوار عطائه الفني المسرحي، فكان أن ظهرت الأعمال المسرحية الرائعة مع عمالقة فرقة بارادم للمسرح: (التحدي، الناس أجناس، ريف بلادي، الناقوس) وجلها أعمال عالجت مشكلات اجتماعية وأسهمت في تأصيل التجربة المسرحية في حضرموت.
حسنون مخرجاً لروائع عربية:
لم يكتفِ المخرج المسرحي ومهندس الديكور للأعمال المسرحية بخوض تجارب مسرحية ذات صبغة محلية، وإنما اتسعت تجربته إلى إخراج الأعمال الروائية والمسرحية العربية ليخلص إلى (حضرمتها) وإسقاطها على الواقع المعيش وجعلها جزءاً مهماً في ذاكرة تاريخ المسرح في حضرموت الذي كانت بدايته مع مطلع العام 1940م، ومن هذه الأعمال العربية المميزة التي أخرجها مبدعنا حسنون: الشهداء تأليف الكاتب العربي سعيد عقل التي أخرجها مبدعنا في العام 1964م ومثلها فريق التمثيل بنادي الأحرار الرياضي بالمكلا ومسرحيات: هاملت يستيقظ متأخرا تأليف الكاتب السوري ممدوح عدوان، وقائع الدقائق الأخيرة تأليف الكاتب الفلسطيني أحمد عمر شاهين، ومسرحية (أصابع بلا بصمات) تأليف الكاتب الفلسطيني محي الدين الدمياطي.
حسنون أصابع نحتت الوطن رمزاً:
اشتغل الفنان التشيكلي (النحات) عمر مرزوق حسنون، مبكراً، بتصميم المجسمات للمعالم التاريخية والتراثية لحضرموت عامة، فكان مبدعاً وهو يشكل بأنامله تلك المعالم والأمكنة والمواقع التي تحتضنها حضرموت خاصة والوطن عامة، ليصبح الفنان التشكيلي الوحيد الذي كلفه الرئيس الأسبق سالم ربيع علي (سالمين) منتصف سبعينيات القرن الماضي بتصميم نماذج هندسية تشكيلية معبرة عن حضارة وتاريخ الوطن زمنئذ، لتعتمدها القيادة السياسية والملحقيات الثقافية في جميع سفارات بلادنا كهدايا رمزية للدول والشخصيات السياسية والثقافية والعلمية التي تقوم بزيارات رسمية وغير رسمية لبلادنا، وهو التكليف الذي أنجزه بكل اقتدار ونبوغ، وأرسل بهذه النماذج بعد تصميمها إلى دولة اليابان لتنتج بشكل راق فتغدو عنواناً دلالياً رمزياً للوطن.
حسنون والعشق القديم المتجدد:
ظل المبدع حسنون يحمل هموم المسرح في حضرموت، بعد انتكاسته مع غيره من الروافد الفنية الإبداعية الأخرى منذ منتصف تسعينيات القرن الفائت وحتى اللحظة، إلا أنه يهرع مسرعاً إلى أي محاولة لعمل مسرحي يظهر بين الفينة والأخرى، وتغمره السعادة وهو يرى بادرة تعيد إليه الثقة بأن مسرح حضرموت وتاريخه لن يموت، ولقد رأيته أكثر سعادة وحفاوة وهو يقف على المحاولات الأولى للمسرحي الشاب المخرج المعلم أحمد بن مرضاح الذي نجح في السنتين الماضيتين وهو فريقه التمثيلي من طلاب ثانوية (ابن شهاب) بالمكلا في حصد الجائزة الأولى في المسابقة السنوية للأعمال المسرحية التي ينظمها مكتب التربية والتعليم بالمحافظة، وكان أستاذنا المخرج حسنون سعيداً وهو يشاهد الطلاب في غرفة التمثيل يقدمون بروفات العمل المسرحي، فيسارع في تقديم الملاحظات الإخراجية والفنية والأدائية للمخرج الشاب (بن مرضاح) وطلابه، حينها كنت معه، فشاغلته بهذه المحاولات وذكرته بتاريخه المسرحي وأعلام زمنه الجميل، فقال برقة متناهية:
يا عزيزي صالح ثق في الآتي طالما هناك من لم يستسلم أو ينكسر، فهؤلاء الطلاب – اليوم – أعطوني الأمل في أن القادم سيكون أجمل.
الرحيل النبيل:
بعد مشوار حياة حافل بالعطاء الكبير والتواضع الجم والرقي الإنساني، رحل أستاذنا الشيخ الفاضل عمر مرزوق حسنون في مغرب يوم الاثنين النصف من شهر رمضان الكريم، الموافق 20 من يونيو 2016م ليصلى على روحه الطاهرة بمسجد الصديق بفوة ويدفن جثمانه في مقبرة امبيخة بعد صلاة تراويح ذلك المساء الرمضاني، فيكتظ المسجد بأعداد كبيرة من محبيه ورفاق دربه الإنساني والتربوي والمسرحي والإبداعي في لحظة وداع نبيلة لرجل كان النبل ديدنه الوحيد، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته وألهم أهله وذويه وكل محبيه الصبر والسلوان إنا لله وإنا إليه راجعون.