كتابات
أ. نجيب سعيد باوزير
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 1 .. ص 40
رابط العدد 1 : اضغط هنا
لما كنت مترجمًا بمحض الهواية والممارسة وليس من خلال تدريب منهجي منتظم، فقد فضلت أن أتحدث في هذا المحور الموسوم بـ(آليات ضمان دقة الترجمة) من واقع تجربتي الشخصية وليس من خلال العودة إلى المراجع والكتب التي تبحث في موضوع الترجمة بالرغم من أن في مكتبتي بعضا طيبا منها باللغتين العربية والإنجليزية.
كما إنني أعطيت نفسي حرية تفسير عنوان هذا المحور، فبدلًا من دقة الترجمة يمكن أن نقول صحة أو جودة الترجمة، وبدلا من كلمة آليات أو بالإضافة إليها يمكن أن نقول العوامل المساعدة على صحة وجودة الترجمة.
أولا: حب اللغة: فأنا أرى أن أول هذه العوامل هو حب اللغة؛ لأن حب الشيء مدخل إلى إتقانه أو يمكن أن نستعمل كلمة عشق، ويجب أن يشمل هذا العشق اللغتين المنقول عنها والمنقول إليها. وأن تكون مترجمًا تعني في طياتها بالضرورة أن تكون مترجمًا جيدًا. فإذا أمكن أن يكون هناك أدب متوسط أو حتى أدب رديء فلا يمكن أن تكون هناك إلا ترجمة صحيحة وجيدة، لأن الأديب حر فيما ينتج ومسؤول عن نفسه أما المترجم فيتحمل مسؤولية وأمانة نقل إنتاج الآخرين. ولا يعني هذا أن الترجمة الجيدة تخلو تمامًامن العيوب، ولكن ما نقصده أن هذه العيوب إن وجدت لا تخدش الصورة العامة للحد الأدنى من الجودة والدقة الذي يجب أن تكون عليه الترجمة. هذا هو ما يجب أن يكون عليه الحال، ولكن المتتبع كثيرا ما يقع على ترجمات صادرة في بعض البلاد العربية – بصرف النظر عن وجود عجمة أو عدم وجودها في الأسلوب – تفتقر إلى تحري الدقة والصحة في ترجمة بعض العبارات والألفاظ، وهذا ما يجعلنا نضع من بين الآليات والعوامل المساعدة على صحة وجودة الترجمة أن تكون هناك ضوابط وقوانين تحمي المؤلفين من أن تشوه مؤلفاتهم ويساء إليها وتحمي القراء أيضًا من أن تقدم لهم بضاعة دون المستوى.
ثانيا: الثقافة: يجب أن يكون لدى المترجم خلفية ثقافية مناسبة ولا يعني هذا بالطبع أن يكون مثقفا بثقافة عميقة تلم بكل شاردة وواردة، ولكن يكفي أن يكون على قدر من المعاشرة للكتب والمؤلفين ومن تعدد الاهتمامات وأن تكون عنده موهبة القدرة على الوصول إلى المعلومة في مظانها الصحيحة، وأن تكون لديه مكتبة جيدة تسعفه بما يجعله يثري ترجمته. فلا شك أن على المترجم الجاد أن يعود إلى كثير من الكتب المتصلة بالمادة التي يترجمها. وقد خطر لي أن أدون أسماء الكتب التي رجعت إليها عندما ترجمت كتاب هارولد إنجرامز (اليمن أئمتها وحكامها وثوراتها) وهو أول كتاب مترجم يصدر لي وكان ذلك في عام 2007م فوجدت أنها بلغت خمسة وعشرين كتابًا عدا القرآن الكريم. ومن بين هذه الكتب: (الكتاب المقدس)، و(فلسفة الثورة) لعبدالناصر و(سنوات الغليان) لحسنين هيكل و(زعماء الإصلاح في العصر الحديث) لأحمد أمين و(التاريخ العسكري لليمن) لسلطان ناجي و(لمحات من تاريخ العالم) لجواهر لال نهرو. كما خدمتني الظروف فمكنتني من الاتصال ببعض الشخصيات الإنجليزية التي عاصرت وعايشت الأحداث التي يعالجها الكتاب فأمدتني بكتابات ووثائق فكت لي مغاليق بعض الإشارات التي لم أكن لأتمكن من فهمها دون الاطلاع على تلك الوثائق. وهذا مما يؤكد أن الترجمة ليست بالسهولة التي يتصورها البعض وأنه كلما تمكن المترجم من إعطائها حقها ومن الخوض في أبعادها المتشعبة كان أقرب للوصول إلى الغاية التي هي موضوع هذا المحور: الدقة والصحة والجودة.
ثالثا: كتب اللغة الإنجليزية: منذ وقت مبكر تعرفت على آلية ساعدتني في ممارسة الترجمة بنوع من الثقة وهذه الآلية هي الاستعانة بنوع من الكتب المعجمية التي هي ليست قواميس اعتيادية وإنما هي شبيهة إلى حد ما بنوع من التأليف عرفه أجدادنا العرب في ما سمي بفقه اللغة أو كما في بعض المؤلفات اللغوية لإبراهيم اليازجي من المحدثين مع الاختلاف في أن الباحث عن كلمة معينة يدخله كما يدخل أي قاموس ولكن لا ليبحث عن معنى الكلمة بل عما أسميه ظلال المعنى فيجد هناك العديد من الكلمات يمكنه أن يختار منها ما يهديه حسه وذوقه اللغوي إلى أنها هي الكلمة المناسبة للسياق. ويسمى هذا النوع من التأليف المعجمي في الإنجليزية thesaurus وأضرب مثالًا على هذه الآلية بكلمة tell التي أول ما يتبادر إلى الذهن من مدلولها هو الفعل أخبر، ولكن في أحد السياقات من كتاب (أيامي في الجزيرة العربية) لدورين إنجرامز لم أستسغ استعمال هذا المعنى فرجعت إلى أحد هذه الكتب التي أشرت إليها فوجدت أن من ظلال معنى كلمة tell معنى النصح الذي وجدته مناسبًا للسياق فاستعملته.
وهناك نوع آخر عجيب من التأليف المعجمي يجمع فيه المصنف الأقوال والعبارات السائرة أو المشهورة في التراث الثقافي العالمي مع التركيز بطبيعة الحال على التراث الإنجليزي. ويسمى هذا النوع في الإنجليزية Dictionary of Quotations أي معجم الاقتباسات. وقد وجدت هذا المعجم مفيدًا لي في الترجمة في بعض الحالات القليلة. وأضرب هنا مثالًا واحدًا: فقد وجدت في كتاب دورين إنجرامز السالف ذكره عبارة وردت في وصف أحد الأشخاص من ذوي المناصب الهامة في السلطنة القعيطية ووجدت المؤلفة وضعت هذه العبارة بين فاصلتين مما يعني أنها عبارة مقتبسة من مكان ما، ولكن دورين وزوجها هارولد دأبا على أنهماعندما يقتبسان لا يشيران إلى مصدر الاقتباس، وتقول العبارة بالإنجليزية: smile and smile and be a villain . ولم يكن أمامي إلا أن أجرب البحث عنها في معجم الاقتباسات في حرف s فوجدتها فعلًا وعرفت أنها مأخوذة من مسرحية (هملت) لشيكسبير ولكنني ابتعدت عن مسؤولية ترجمتها بنفسي واستعملت ترجمة الأديب جبرا إبراهيم جبرا مترجم بعض مسرحيات شيكسبير ومن بينها (هملت) الذي كانت ترجمته للعبارة هكذا: يهش ويبش وهو نذل.
رابعا: ترجمة الاقتباسات ذات الأصل العربي: وسميتها هنا ترجمة تجوزًا فهي ليست ترجمة وإنما إعادة للنص المقتبس إلى أصله العربي. وقد صادفتني في كتاب هارولد إنجرامز (اليمن أئمتها وحكامها وثوراتها) الكثير من النصوص التي أوردها المؤلف أو استعارها وهي ذات أصل عربي. وهذه إحدى مشكلات الترجمة المهمة التي ينتصب فيها أمام المترجم هذا السؤال: هل يركن إلى الكسل ويكتفي بترجمة النص ذي الأصل العربي بلغته وصياغته هو أم لا بد أن يجهد نفسه بالبحث عن هذا الأصل العربي حتى يعطي ترجمته المصداقية والموثوقية؟ أما أنا فقد اخترت الطريق الثاني فرجعت من بين ما رجعت إليه إلى مقدمة ابن خلدون وإلى الرسائل المتبادلة بين جمال عبدالناصر والرئيس الأمريكي كندي التي أوردها هيكل في كتابه (سنوات الغليان) فوجدت ضالتي في إحداها، وبحثت عن أبيات الإمام أحمد الموجهة ضد عبدالناصر فوجدتها في أكثر من مصدر وهي التي تقول:
هيا بنا لوحدة مبنية على أصول بيننا مرضية
قانونها شريعة الإسلام قدسية الأوصاف والأحكام
ليس بها شائبة من البدع تجيز ما الإسلام عنه قد منع
من أخذ ما للناس من أموال وما تكسبوا من الحلال
بحجة التأميم والمعادلة بين ذوي المال ومن لا مال له
لأن هذا ما له دليل في الدين أو تجيزه العقول
وقد وجدت أن كل المصادر تستشهد تقريبا بنفس الأبيات التي ترجمها نثرا إنجرامز في كتابه، ولكن بعد مدة من صدور الكتاب علمت أن القصيدة كاملة موجودة في كتاب (أشعة الأنوار) للشيخ محمد سالم البيحاني وهو عبارة عن منظومة جيدة في التاريخ الإسلامي مع شرح وتعليقات فسعيت للحصول عليها واحتفظت بها في أرشيفي.
وعلى مشقة البحث عن الأصول العربية لهذه النصوص، فقد كان الأمر هينًا عندما يكون صاحب النص أو قائله معروفا. ولكن هارولد استعار مثلًا عبارة على الطريقة التي استعارت بها زوجته عبارة شيكسبير واضعا إياها بين فاصلتين فترجمتها في الطبعة الأولى بصياغتي الخاصة لأنني لم أجد حينها أمامي أي مدخل لمعرفة مصدرها. ولكنني عندما كنت أحضر للطبعة الثانية من الكتاب اهتديت مصادفة بينما كنت أراجع أحد الكتب عن تاريخ اليمن إلى أن مصدر العبارة ربما يكون هو كتاب (العقود اللؤلؤية في تاريخ الدولة الرسولية) للخزرجي. ولما لم يكن الكتاب في مكتبتي فقد استعرته من المكتبة السلطانية ووجدت فعلا أن هناك علاقة وثيقة بين نص الخزرجي واقتباس إنجرامز. نعم إنها عملية مرهقة وتحتاج إلى لوثة معاشرة الكتب التي كنت قد تكلمت عنها سابقًا والتي تجعل البحث ممتعا رغم المعاناة. ولكن قد لا يحالف الحظ المترجم في كثير من الحالات ولذلك علينا أن نلتمس له العذر إذا بذل ما في وسعه لإتقان ترجمته في المجال الواسع الذي يمكنه العمل فيه.
خامسًا وأخيرًا: الهوامش والتعليقات: من الأسئلة التي تعترض المترجم وعليه أن يقرر بشأنها سؤال ما إذا كان مطلوبا منه أن يضيف إلى الكتاب هوامش وتعليقات من عنده يُعتقد أنها ستكون ذات فائدة للقارئ العربي أو المحلي. وقد استعملت أنا عددا من الهوامش والتعليقات بعضها طويل في كتابي الأول المترجم عن هارولد إنجرامز، وأيضا إلى حد ما في ترجمتي لكتاب دورين. ولكن مؤخرا ربما تكون عندي اقتناع طبقته في الكتاب الثالث الذي سيصدر قريبا عن هذا المركز المبارك وهو أن على المترجم أن يوجه اهتمامه إلى تجويد وإتقان ترجمته أكثر من الاهتمام بشرح النقاط التي يعتقد أنها تحتاج إلى شرح أو تعليق. فأفضل للمترجم أن يشكر على مستوى ترجمته من أن يشكر على مستوى علمه وثقافته التي يحاول أن يظهرها من خلال تلك التعليقات وإن إثقال الكتاب بمثل هذه التعليقات يجعل منه كتابا آخر غير الكتاب الأصلي وربما يكون هذا الصنيع انتهاكا وتعديا على الأصل أكثر منه إثراء وخدمة له. نعم يمكن أن يقوم شخص آخر بعمل ما يشبه التحقيق للكتاب. وهناك كتاب معروف اشتهر كاتب تعليقاته أكثر من شهرة مؤلفه الأصلي ومن شهرة المترجم أيضا، وهو كتاب (حاضر العالم الإسلامي) الذي تأثر به والدي رحمه الله من بين ما تأثر به من الكتب في بداية حياته. فمؤلف هذا الكتاب بالإنجليزية أمريكي اسمه لوثروب ستودّارد وعنوانه الأصلي The New World of Islam وترجمه إلى العربية الاستاذ عجاج نويهض، ويقال إن المترجم تقدم بعد تمام الترجمة إلى شكيب أرسلان المعروف بأمير البيان يسأله تقريظ الكتاب، إلا أن الأمير شكيب استرسل في التعليق وإلحاق البحوث بالكتاب حتى جاوزت حجم الأصل لتصدر الطبعة العربية باسم (حاضر العالم الإسلامي)، وهو ما رآه مترجمه أقرب إلى موضوعه. هذه نقطة رأيت أنها مهمة وليست بعيدة عن موضوع المحور فأحببت إضافتها وهي أهم مما يعرف بعملية المراجعة التي أرى أنها ليست بذات فائدة تذكر في الترجمة.
وأود أن أستشهد في الختام بكتاب أعتبره نموذجيا في هذا المجال هو كتاب (مملكتا قتبان وسبأ.. استكشاف الممالك القديمة التي تناهت إليها رحلة الشتاء) للمستكشف الأمريكي وندل فيليبس الصادر عن المجمع الثقافي بأبوظبي، والذي ترجمه الفاضل عباس ومكتوب على الغلاف مراجعة وتقديم الدكتور أحمد عبدالرحمن السقاف، ولكن في حقيقة الأمر فإن ما قام به الدكتور السقاف هو عملية تحقيق للكتاب، فاجتمع لهذا الكتاب جمال أسلوب الترجمة ودقة وثراء التحقيق. ومن حسن الحظ أنني اطلعت على هذا الكتاب في الوقت المناسب لأنه أفادني كثيرا في تحقيق ومراجعة الطبعة الثانية من كتاب والدي (الفكر والثقافة في التاريخ الحضرمي)، الذي تحدث فيه بشيء من التفصيل عن بعثة وندل فلبس هذه التي مرت بالمكلا في سنة 1950م في طريقها إلى بيحان. وما دمنا نتحدث عن الترجمة تجدر الإشارة إلى أن هناك ترجمة عربية قديمة غير موفقة للكتاب فيها تشويه وتحريف خاصة في أسماء المناطق، وقد اطلعت على نسختها الموجودة في المكتبة السلطانية وتأكد لي أنه نفس الكتاب، ولكن شتان بين الترجمتين..!