كتابات
د.عبدالقادر علي باعيسى
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 1 .. ص 36
رابط العدد 1 : اضغط هنا
أن يكون منطلق الخطيب في خطبته جوهريا نابعا من ذاته وإيمانه شيء، وأن يكون منطلقه وظيفيا يؤدي من خلاله وظيفة تقنية ترسم له من خارجه بحيث ينفعل ويتفاعل في إطارها دون أن ينطلق من ذاته، ومن ثم تأتي خطبته جزءا من مصفوفة أو منظومة شمولية هو الإطار الخارجي لها أو الناطق الرسمي فقط، شيء آخر. هو خطيب غائب إذن، وإن بدا حاضرا شكليا، يرتبط بنسق أكبر منه يسيطر عليه ويوجهه، وكثيرا ما نرى أن الخطبة أكبر من الخطيب سنا وعقلا وتجربة، بل أكبر منه نفوذا !! هي الحاضرة وهو الغائب، وهو مرتب وفق مستوى من المستويات إذ تقل عنه درجات من الخطباء وتعلوه درجات أخرى في المصفوفة نفسها ارتقاء إلى المرجعية الأخيرة المسيطرة على الأمر كله والموجهة لفكر الدولة أو الجماعة أو الاتجاه أو التنظيم أو الحزب.. إلخ.
ودائما ما يتم طلاء الخطبة أيا كان اتجاهها بروح أخلاقية يمكن أن يتحدث فيها أي أحد، أشبه بالأصول الكلية التي يتفق عليها الإنسان في إنسانيته من قيم العدل والفضيلة والوطن والحق والخير والأمور النافعة.. تساق في إطار كوكبة من الاستشهادات الممتازة الواقعة في إطار المنطقة القيمية المتحدث فيها، وأول ما يوحي به الخطيب أنه صادق فيما يقول، يعرف الحقيقة معرفة دقيقة، بل يمتلكها، وأنه سيحل عددا من المشكلات في علاقة تبدو غير منطقية بين لغته ومبادئ موضوعه وإشكالاته، ليجد المستمعون أنفسهم بعد سماع خطبته بل مئات الخطب قبلها في إطار المشكلات الكبيرة الكثيرة التي تزداد تفاقما. فلم يظهر تبشير الخطب السريع بحل بعض الأزمات الاجتماعية والسياسية والأخلاقية؟.. قليلا من الترشيد إذن في الوعود الجميلة، ولنكن واقعيين في معالجة قضايانا وأمورنا.
ونحن –المستمعين- نمر بحالة ربما لا يشعر بها الخطباء، هي فحصهم والمقارنة بينهم على اختلاف اتجاهاتهم تعطينا تصورا عنهم أكثر مما تعطينا تصورا عن موضوعات خطبهم، وقد نختلف عليهم قبل أن نختلف على الموضوعات التي يسوقونها إلينا، نفحصهم أولا، ونلاحظ سلوكاتهم، فلا يمكن أخذ أحدهم خطيبا فقط، أو خطيبا وظيفيا فقط، بل هو خطيب ورجل في المجتمع، أو موظف لدى الدولة أو في القطاع الخاص، أو صاحب بقالة تجارية، أو صاحب جمعية خيرية، أو غير ذلك، وله علاقاته المعروفة مع الناس سلبا وإيجابا بحيث يتحدد جدوى ما يطرح من خلال هذه التوصيفات ومدى صدقه ونشاطه وإخلاصه العملي فيها، بوصفها منطلقات عملية يقرأ من خلالها الخطيب قبل أن تقرأ خطبته، ولا يجديه نفعا بعد ذلك أي ملامح مظهرية ترسم بها، ولا أي بلاغة قديمة أو وسيطة ملأ بها شدقيه.
وفي إطار ملاحظات المستمعين يلاحظ أن حالات بعض الخطباء تتغير وفقا ومتغيرات المراحل والمصالح إذ لا علاقة وطيدة تبدو في ما بينهم وبين أنفسهم، وبينهم وبين قيمهم، فالنجاح بالنسبة إليهم اغتنام المرحلة، والخروج منها بحصيلة أكبر، قبل أن تأتي ظروف ومتغيرات جديدة يتغير من خلالها خطابهم قليلا أو كثيرا، وبعد ذلك يريدون منا أن نثق في خطابهم، وأن نتأول الخير لصالحهم، فيما لم يتأولوه لنا، رامين شرائح المجتمع بشتى الأوصاف حسب تغيرات المراحل.
ربما كان مثل هؤلاء الخطباء بحاجة لأن يتفقهوا في أدب العلاقة بين الخطيب والجمهور قبل أن تبدأ ألسنتهم أول كلماتها بل أول خطواتها في المرور على رؤوس المستمعين المطأطئ الرؤوس تحتهم بغلظة وجفاء، وكما يحلو لهم.