تاريخ
محمد علوي عبدالرحمن باهارون
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 1 .. ص 26
رابط العدد 1 : اضغط هنا
نال الوقف الخيري والأهلي في حضرموت حظا وافرا من العناية من قبل الأهالي منذ صدر الإسلام ، وتسابق الحضارمة في حبس بعض أموالهم ووقفها في سبيل الله على الفقراء المساكين والأيتام وإقراء الضيوف وحبسها على أولادهم وذراريهم من بعدهم ، والأوقاف على المساجد والزوايا والأربطة وغيرها من دور العلم والعبادة ، بل وتعدت إلى الوقف على الحيوانات ، وفي ذلك يقول الأستاذ محمد أحمد الشاطري:” كان أسلافنا في حضرموت ينوعون المبرات لحرصهم الشديد على المنافسة في أعمال البر، وكانت الأوقاف كثيرة، بعضها لايزال إلى اليوم ، وبعضها أخذته أيدي الضياع والتلف ومنه الذي استولى عليه الظلمة. وقل أن تجد مالا – خصوصا في دوعن – إلا وتجد فيه وقف ، وفي تريم مبرات كثيرة وصلت الأوقاف إلى درجة أنهم يقفون على حمام الحرم، منها بيت جبير يقولون أيام كانت معمورة كان فيها بعض الجروب وقف على حمام الحرم ، إذا حصد الزرع يحمّل حصيلة وقف حمام الحرم إلى الحرمين الشريفين ليقدم لها، ومن الغريب أن عندنا في تريم وقفا على اللقطاء ممن لايعرف له أب!!. وقد بلغت أوقاف الإمام عبدالله باعلوي على مسجد باعلوي ما قيمته في ذلك العهد (90 ألف دينار)، ويوجد في نويدرة تريم إحدى وعشرين بئرا من أعز الأماكن وقفا لآل منفر الحامد على ذلك المسجد ولهذا كانت الإمامة فيهم. (1) وهناك أيضا أوقاف بساحل حضرموت موقوفة على حمام الحرم منها أرض تقع شرقي مدينة الحامي إلا أنها مندثرة منذ عشرات السنين.
نشأة ثقافة الوقف الخيري مع الحضارمة منذ أن اعتنقوا الإسلام في السنة العاشرة من الهجرة ، وحملوها إلى مهاجرهم المتعددة إبان الفتوحات الإسلامية حتى سجل لهم التاريخ الأسبقية في تنظيم هذه الأوقاف، وحصرها في مؤسسات خاصة تهتم بتصرفها والاعتناء بها.
وكان القاضي توبة بن نمر الحضرمي حينما ولي قضاء مصر سنة 115هـ في زمن هشام بن عبدالملك ، أحدث إدارة خاصة بمصر تشرف على الأوقاف وترعاها، وهو أول قاض بمصر وضع يده على الاحباس وكانت من قبل في أيدي أهلها وفي أيدي أوصيائهم فلما تولى توبة قال:” ما أرى مرجع هذه الصدقات إلا إلى الفقراء والمساكين فأرى أن أضع يدي عليها حفظا لها من الالتواء والتوارث” فلم يمت توبة حتى صار للاحباس ديوان عظيم. (2)
وهذا أول تنظيم للأوقاف ليس في مصر فحسب بل في جميع الدول الإسلامية ، وفي عهد المأمون الخليفة العباسي نظم قاضيه بمصر لهيعة بن عيسى الحضرمي الاحباس، وحكم في احباس مصر كلها، يروي لنا الكندي في تاريخه ما نصه: كان من أحسن ما عمله لهيعة في ولايته أن قضى في أحباس مصر كلها فلم يبق منها حبسا حتى حكم فيه إما ببينة أو بإقرار أهل الحبس ، وكان يقول في ذلك كنت أحب ذلك من زمان، وسألت الله أن يبلغني الحكم فيها فلم أترك شيئا منها حتى حكمت فيه وجددت الشهادة. (3)
وهكذا دأب الحضارمة في الاهتمام بالوقف وخصوصا في موطنهم حضرموت، فلو تتبعناه في كل بلدة من بلدان حضرموت لضاق بنا الوقت في استقصائه ولتطلب الأمر إلى دراسات عديدة ، ولوجدنا المئات من الأوقاف والمبرات الخيرية، ولكن يمكن تقسيم الوقف في حضرموت إلى أربع مراحل:
المرحلة الأولى: منذ فجر الإسلام إلى عهد السلاطين (القعيطية والكثيرية) وهي مرحلة اتسمت بالعطاء الكثير للقرب والمبرات الإنسانية ومن أبرزها أوقاف الحبوظي في دوعن والتي قام بوقفها السلطان سالم بن إدريس الحبوظي عندما حكم حضرموت في سنة676هـ حيث كانت لها مآثر عظيمة وكان يحمل نفساً كبيرة وقلباً عطوفاً على الفقراء والمحتاجين, فقد تصدق بأراضي زراعية واسعة ونخيل في وادي حضرموت ووادي دوعن وغيرها, وتقدر قيمة هذه الأوقاف والصدقات بمبالغ طائلة, تصرف غلتها على المساجد والمحتاجين من الغرباء والمنقطعين وأبناء السبيل, وتعرف هذه المكرمة الخالدة بين الحضارم بصدقة الحبوظي،(4) وقد قام مكتب الأوقاف بساحل حضرموت مؤخرا بحصرها وهي موجودة في عموم مناطق واديي دوعن الأيمن والأيسر كما أخبرني بذلك السيد محمد بن عبدالرحمن جمل الليل.
ومنها أوقاف الشيخ عبدالله بن محمد باعباد المعروف بالقديم المقبور بشبام عام687هـ في مناطق سيحوت والحامي والعيص وغيرها على مساجده ومقامه في الغرفة وشبام وغيرها.
ومنها أوقاف آل باوزير المعروفة بديار الصدقة لعابري السبيل في أرجاء متعددة من أودية حضرموت وكانوا يوقفون النخيل والأراضي الزراعية على هذه الديار لتصرف إيراداتها في إيواء المسافرين والغرباء وإطعامهم مجانا ولوجه الله ويعينون على نفقة الوقف رجالا معروفين بالأمانة والنزاهة لقوموا بواجب الضيافة لعابري السبيل. (5)
ومنها أوقاف الشيخ عمر المحضار بن عبدالرحمن السقاف المتوفى عام 833هـ من أراضي زراعية وعقارات في تريم ووادي عرف والشحر وغيرها على مساجده المتعددة في تريم والشحر والواسط وغيرها.
ومنها أوقاف الشيخ أبوبكر بن علي بامعيبد على موتى الحامي (مقبرة بامعيبد) ومسجدي غبطة والشيخ أحمد بالشحر.
ومنها أوقاف المحسنة المعمرة عائشة بنت محمد حبيشان (جدة الربان الشهير سعيد سالم باطايع) على مساجد الحامي والديس وثوبان وغيرها. (6)
المرحلة الثانية: في عهد السلاطين وهذه كان إنتاجها في مجال الأوقاف عظيما وكبيرا فعمت الصدقات والأوقاف كل أوجه البر من مساجد ومدارس وأربطة علمية دينية، وبيوت إيواء للمسافرين وأبناء السبيل وقرى للضيوف المارين، وفي هذه المرحلة ضبطت الأوقاف وسجلت في سجلات خاصة تابعة لجهات الأوقاف، وشكلت لذلك لجنة عام 1375هـ بعضوية كل من العلامة عبدالله بن محفوظ الحداد والشيخ عمر بن سعيد باغزال وحفظت في أرشيفات مكتب وزارة الأوقاف بمدينتي الشحر والمكلا، وفي عام 1377هـ (1957م) صدر منشور قضائي بتوقيع المجلس العالي ورئيس القضاة القاضي عبدالله عوض بكير يطلب فيه تسجيل الأوقاف وقبول شهادة الحسبة عليها واستخراجها من يد من استبد بها بطريق غير مشروع . (7)
المرحلة الثالثة: في عهد الجبهة القومية والحزب الاشتراكي (1967-1990م) ، وفيه أممت الأوقاف دخلا ومصرفا وتصرفا في عقاراتها وممتلكاتها وحدث ما يجوز وما لا يجوز، حتى جاءت الوحدة اليمنية وتقرر إعادة الممتلكات والأوقاف لوزارة الأوقاف أو النظار الخصوصيين ، ومنا ما لا مطمح لأحد في إعادته.
وهناك أوقاف من مزارع وآبار على المساجد أممت واستحالت إلى بيوت من قبل أولئك المتنفذين فمنهم من قام بدفع إيجار للمساجد ومنهم من امتنع عن ذلك وأصر على اغتصابه متعذرا بأن الدولة منحته إياها كما هو الحال في مدينة تريم.
المرحلة الرابعة: في عهد الجمهورية اليمنية وفيها بدأ سير العمل في الأوقاف وفق قانون الأوقاف رقم (78) 1976م واللوائح المنظمة له ، واتجه نحو طريق التطوير لهذه الأوقاف. (8)
والجدير بالذكر أن عموم مساجد حضرموت القديمة في الوادي والساحل توجد عليها أوقاف من أراضي زراعية وعقارات وبيوت وغيرها، وهذه من أهم المهمات كما أخبرني شيخنا المرحوم السيد حسين بن عبدالقادر بلفقيه أن السابقين كانوا لايبنون مسجدا حتى يقفوا عليه بعض الأوقاف للترميم والإمامة، فحبذا لو يحذو المتصدقين وفاعلي الخير اليوم حذوهم ويتشبهوا بهم إن التشبه بالكرام فلاح.
كما أن هناك أوقاف أهلية يقفها بعض الأثرياء الميسورين على ذراريهم وأرحامهم مازال بعضها مستمرا يدر بدخله على تلك الأسر إلى اليوم، وبعضها توجد في مهاجر الحضارمة كاندونيسيا وسنقافورة ما زالت عامرة ولها هيئات تديرها ومن أبرزها أوقاف السيد محمد بن عبدالرحمن السقاف.
وهناك العشرات من الأوقاف على مساجد حضرموت في الوادي والساحل اندثرت وربما لايعرف أماكنها لقدم السنين وضياع السجلات كما هو الحال عندنا في الساحل، وما دوّن إنما هو قليل من كثير، وأوقاف على طلبة العلم وأوقاف للتصدق على الموتى وأوقاف على مغسلي الموتى وغيرها. فجدير بالقائمين عليها أن يحيوها ويبحثوا عنها وتوثيقها، والدال على الخير كفاعله وبالله التوفيق.
هوامش: