مدار
د. طه حسين الحضرمي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 1 .. ص 65
رابط العدد 1 : اضغط هنا
هل للإبداع الأدبي هوية خاصة تميّزه عن بقية الأنشطة الإبداعية الأخرى ؟
ظل هذا التساؤل يشاغبني مدة من الزمن، لا أدري سعة مساحته الفضائية في أعماقي. بيد أنه ظل كامنا في مخبئه الإجباري محاولا بين آن وآخر أن يزلزل كياني الفكري في محاولة مستميتة للخروج من مكمنه متشبها بمارد مصباح علاء الدين السحري؛ مستخدما الاحتيال نفسه لمجاراته في لعبة الترغيب بمتع فكرية لا تُعدُّ ولا تُحصى؛ إنْ سمحت له بأن يطلّ برأسه قليلا من فتحة مخبئه على العالَم الفسيح. ولكنني كنتُ استبقه إلى إغلاق الفتحة الضيقة التي كان يستشرف ضوءها الخافت؛ إذْ كنتُ أناجيه من حين إلى آخر في غفلة من عفاريت الفكر المقلقة.
وعود على بدء. هل لهذه الكينونة الخفية هويةٌ محددة ؟ أتساءلُ اليوم وقد جمحتْ بي السنونُ بعد معاناة مع الحروف المتلألئة أنوارُها والسطور الساطعة أضواؤها, وقد كان لهما نصيب الأسد في مضغ وبلع وهضم مجمل هذه السنين. تراني أقف اليومَ متسائلا مثل التلميذ الخائب الذي فاته حلُّ واجبه الإجباري بسبب لهوه وعبثه الدائبين ! هل لهذا التساؤل جدوى فكرية تحرك مياهنا الآسنة ؟ ربما ! فلا بأس من خوض هذه المغامرة التي تأخر أوانها كثيرا.
(2)
الإبداع-في عمومه- ظاهرة متعددة الأبعاد على حد تعبير ألكسندرو روشكا؛ بما تحمله في أعماقها من مشكلات فلسفية ونفسية ومعرفية. لستُ هنا بصدد تبيانها؛ فلكلّ منها ميدانها وفرسانها ونظرياتها المتعددة المتجددة؛ بوصفها مشكلة مهمة من مشكلات العلم المعاصر. ولكن بما أن الحكم على الشيء فرع عن تصوّره –كما يقول الأصوليون- كان لزاما عليّ أن أقف قليلا أمام هذا المفهوم المعقّد –بكسر القاف وفتحها- ابتداء من المعنى اللغوي الذي يدور حول الإنشاء على غير مثال سابق، ومنه قوله تعالى ﴿ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ البقرة 117؛ أي خالقها ومبدعها على غير مثال سابق، بيد أن هذا الأمر خاص بالله عز وجل. أما ماله صلة بالإنسان المبدع فيشير المعنى اللغوي السابق إلى الدلالة على مطلق الإنشاء القائم على تصوير المشاهدة الحيّة للكون ثم تخصيب هذه المشاهدات بخصوصية (الخلق التواصلي) بحسب تعبير الديكارتيين للدلالة على التشكّل المتجدد للخلق؛ لاستحالة تصوّر ما لا وجود له سابق.
أما المفهوم الاصطلاحي للإبداع فلا يبحر كثيرا عن كونه نشاطا عقليا (في الإبداع العام) وشعوريا (في الإبداع الأدبي) متجددا ومفيدا وأصيلا ومقبولا اجتماعياً. يحل مشكلة ما منطقياً أو وجدانيا.
وبعيدا عن هذا المفهوم العام للإبداع الذي تتعدد أسهمُ دلالاته؛ ينحصر الإبداع الأدبي في الحديث الخاص عن تشكّل العملية الإبداعية وفقا للمقولات النقدية المنطلقة من سياقات فكرية ومعرفية تتعامل مع النص الأدبي بخصوصية منهجية لكل منها.
(3)
نظر أصحاب الاتجاه النفسي -في إطار المناهج السياقية- إلى النص الأدبي من جانبين (المبدع – الإبداع): ففي الجانب الأول كانوا يسعون إلى دراسة سيكولوجية المبدع وما الذي يجعله مبدعا، فتوصلوا إلى نتائج تكاد تكون متقاربة فحواها: أن مفتاح شخصية المبدع شيئان: الحرمان والألم. فهذان الأمران ينشطان موهبته الفنية، وكأنه يعوض عن حرمانه وآلامه بإبداع فن عظيم. وعلى رأس هؤلاء سيجموند فرويد الذي وقف أمام إبداع الروائي دوستويفسكي، فوجد أنه نتاج أربعة وجوه (الفنان الخالق/ الأخلاقي/ العُصابي/ الآثم) فمن هنا جاء اهتمامهم بدراسة أحوال المبدع دون الإبداع نفسه.
وقد تفرد في مدرسة التحليل النفسي، شارل مورون في دراسته الرائدة عن الشاعر الفرنسي (مالارميه) ؛ لأن دراسته تميزت عن غيرها من الدراسات النفسية بأنها تلقي على الأثر الأدبي أضواء تحمل إلى النقد الأدبي فوائد جمة بخلاف الدراسات الأخرى التي تعامل المبدع بوصفه مريضا يُشخص على ضوء أطروحات علم الأمراض العقلية وعلم الطباع. فقد قدّم مورون في دراسته خدمات جليلة للنقد الأدبي حين ربط بين مالارميه وإبداعه بإشارات نقدية ثاقبة. فعمل على إيصال الجسور بين شطي العلم والفن وإن كان سهمه في اتجاه دائم نحو الفن. كما جاءت أهمية مورون من إعلانه أن النص الأدبي يقبل المشابهة بقطعة نسيج، فكل صورة مجازية لا تحيا إلا نسبة إلى صورة أو صور مجازية أخرى، تترابط لتؤلف لحمة مستمرة تميّز شخصية الكاتب اللاشعورية.
أما الجانب الثاني فقد سعت هذه الدراسات إلى تفنيد العملية الإبداعية من خلال العمليات النفسية التي تعدُّ مركز الإبداع، ومنها الصراعات اللاشعورية والتوازن بين اللاشعور والأنا المبدعة و مظاهر التخيل و تشكلات أحلام اليقظة وسوى ذلك في العمل الأدبي.
في أدبنا العربي الحديث كان لدراسة الدكتور مصطفى سويف للأسس النفسية في الإبداع الشعري دلالة متميزة على أهمية مثل هذه الدراسات النفسية للإبداع الأدبي شعرا ونثرا؛ فقد سار على خطاه تلميذاه الدكتور مصري عبدالحميد حنورة والدكتور شاكر عبدالحميد اللذان درسا الأسس النفسية في السرد.
على الرغم من أهمية مثل هذه الدراسات تظل العملية الإبداعية عملية معقدة لا تنحصر في الجانب النفسي للمبدع بل هي أمشاج مختلطة من العمليات النفسية والفكرية والمعرفة الثقافية والقدرة المتميزة على تخصيب كل ذلك في إطار بوتقة التشكيل الفني واللغوي.