استطلاع عادل أحمد القحـوم
عادل أحمد القحـوم
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 1 .. ص 15
رابط العدد 1 : اضغط هنا
كانت السلطنة القعيطية (1820م ـ1967م)على الرغم ممن قلة ومحدودية إمكانياتها ووقوعها كغيرها من الوطن تحت الحماية البريطانية كانت دولة اهتمت بتطوير نواحي الحياة المختلفة ومتقدمة على غيرها من دول اليمن والجزيرة العربية في تلك الفترة.ويأتي بناء المساجد إحداها بل من الاهتمامات الشخصية لسلاطين آل القعيطي, ولعل مسجدي عمر بحي السلام والغالبي بحي الشهيد خير شاهد على ذلك.وخلال استطلاعنا هذا نسلط الضوء بالحديث عن مسجد الغالبي المرتبط تسميته بأحد السلاطين القعيطيين, وحديثنا يأتي بالتزامن مع مرور مايقارب المائة عام على تشييد هذا المعلم التاريخي البارز.
ثالث ثلاثة
في العام 1917للميلاد أمر السلطان غالب بن عوض القعيطي ببناء مسجد جديد على الطرف الشرقي لمدينة المكلا في مايعرف بحافة (العبيد), ليصبح هذا المسجد ثالث ثلاثة مساجد على الواجهة الشرقية للمدينة (جامع البلاد, علي حبيب,الغالبي) وأصبح هذا المسجد على الرغم من صغر مساحته لايقل شهرة و أهمية زمانية وروحانية عن المسجدين الآخرين.يحتل الطرف الشرقي الأخير من مدينة المكلا بأحيائها القديمة فيشكل بحق الطرف الأغر.السلطان غالب بن عوض القعيطي حكم السلطنة القعيطية في الفترة من 1910م الى 1922م.ومن أبرز انجازاته بناء مدرسة مكارم الأخلاق في مدينة الشحر، هذه المدرسة الذائعة الصيت الحسن، والتي كانت ولازالت منارة للعلم والمعرفة.
وللحديث بصورة مركَزة عن مكانة هذا المسجد تاريخياً واجتماعياً ووجدانياً كان لنا حوار واستماع لذكريات شخصيات ارتبطت برباط وثيق مع مسجد الغالبي..
الشيخ أحمد سعيد محمد بوسبعه
ذاكرته تختزل أحداث كثيرة جميلة.في كل مرة أثناء الحوار يذهب بالحديث عن ذكريات الزمن الجميل وتفاصيله البسيطة، وكنت أعود به لذكرياته عن مسجد الغالبي وكأني فتحت له بفكرتي عن المسجد باباً ذا شجون جميلة عنده.
الوالد أحمد سعيد بوسعه أطال الله عمره قال عن مسجد الغالبي:
يعتبر مسجد الغالبي من المساجد القديمة في مدينة المكلا وتأسيسه كان قبل مساجد أخرى، ربما كانت أشهر منه.ولكنه أحد المساجد التي ارتبطت براعي تأسيسه مثل مسجد السلطان عمر (بحي السلام).ومسجد الغالبي أمر ببنائه السلطان غالب بن عوض القعيطي رحمه الله في العام 1917م، وهو غالب الأول تمييزاً له عن السلطان غالب الثاني آخر سلاطين السلطنة القعيطية.والمسجد لم يكن بالاتساع الذي ترونه الآن فقد أضيف له رواق وضاحية.وبنائه كان على تلة مصطنعة تكونت من حزام من الأحجار ووسطها الطين..والشكل العام للمسجد هو مثل ما كان عند الانتهاء من بنائه، وكذلك الأعمدة (السواري) والنقوش التي عليها. وتعرَض جزءه الملامس للبحر أكثر من مرة للانجراف لكن دون أن يتهدم المسجد. ويرجع ذلك لصلابة البناء على الرغم من مواد البناء البدائية المستخدمة، التي تتكون بشكل أساسي من مادة (النورة) والأعمدة التي تحمل السقف قوية وعريضة.وتم بناء له رباط (عُصبي) وذلك في الأربعينيات من القرن العشرين لحمايته من شدة الأمواج، وخاصة أيام (الخريف)، وكما تعلمون أن مياه البحر كانت تضرب البيوت المحاذية له ومنها مسجد الغالبي قبل تنفيذ مشروع مجاري المكلا في الثمانينيات من القرن الماضي. كما أضيفت له أبواب أخرى وهو الباب المواجه الآن للبحر,ومسجد الغالبي تم تجديد بنائه ثلاث مرات خلالها تم تبديل السقف من خشب المنيبار الى السقف الحالي وإضافة الرواق والضاحية طابع البناء الأصلي نفسه على أيدي بنائين من آل مقرم المشهورين بذلك.
السلطان غالب والختايم:
كان السلطان غالب المؤسس للمسجد دائم الحضور في ليلة (الختايم)، الليلة الخاصة بمسجده ليلة السادس من رمضان، يتشارك الجميع في إعداد الحلويات والتمر والقهوة المحلاة بالسكر ويحتفل الجميع بهذه الليلة لابسين الجديد شيباً وشباباً وأطفالاً على ضوء الشموع والأتاريك، فلا يوجد كهرباء وسط زغاريد النساء، ويتم فرش المسجد بفرش جديد، وهو عبارة عن (الحسير) الذي يتم صناعته من القصب المترابط مع بعضه ويتم تلاوة القرآن وإنشاد الأهازيج والموشحات والضرب على الطار.
الغالبي ليلة العيد:
في ليلة العيد يصدح صوت الحق من مسجد الغالبي، كغيره من مساجد المكلا، ويبدأ التكبير ليلة العيد فور إعلان السلطان رؤية الهلال. ومن الأشياء التي أتذكرها عندما كنت فتى صغيراً أنه في ليلة (الحِيا)، ليلة العيد أثناء إمامة الشيخ باحميد، كان لا يوجد ماء صالح للشرب في المسجد لإعداد القهوة والشاي، ذهبت أنا والشيخ حسن سعد الله إلى السقاية وجلبنا الماء (بالكتلي)، وكنت أنا أحد الذين يداومون على الصلاة في المسجد أيام البرد القارس، ففي بعض أيام السنة كان البرد شديداً ولا يستطيع أحد الحضور للمسجد وقت صلاة الفجر، فكنت أحد ستة أشخاص نحضر لصلاة المغرب والعشاء والفجر، عمري لا يتجاوز العشر سنوات كنا نصلي ملتحفين (شملة) من الصوف في (خزانة) غرفة صغيرة بالمسجد برفقة عمر الحداد ومحمد بامفتاح.
الغالبي وبسيم البحر:
يعتبر مسجد الغالبي من أبرد المساجد، وخاصة في فصل الصيف أيام الأربعينية، وهي أيام القيظ، ففي النهار وكذلك ليلاً يكون بادراً بسبب نسيم البحر العليل، ولذلك كان أهالي المنطقة ينامون في هذا المسجد، فكان المسجد مفتوح الأبواب – ليلاً ونهاراً – للأهالي وغيرهم من الوافدين: مثل الهنود والباكستانيين والدراويش، في طريق رحلتهم للحج والعمرة، فكان مسجد الغالبي وغيره من مساجد المكلا محطة ترانزيت لهؤلاء الناس.
الأستاذ يسلم سليم اللحمدي:
هناك عائلات ارتبط اسمها بمسجد الغالبي مثل: آل بوسبعة وآل مقرم وآل باني وآل باسعد وآل مفتاح وغيرهم، وهم من تولوا رعايته وصيانته، بحكم مجاورتهم له، وكل جار له حقوق وعليه واجبات، فكان آل بوسبعة وآل مقرم في ليالي الأعياد يتشاركون أو يتناوبون في إعداد وجبة عشاء لمرتادي المسجد وأطفال حلقات تحفيظ القرآن، وهي وجبة بسيطة من الأرز والسمك. وكان العم يسلم فرج بوسبعة مهتماً بنظافة المسجد واستقراره وعدم العبث بمحتوياته.
غالب الثاني في الغالبي:
حظي المسجد بزيارة خاصة من قبل السلطان غالب بن عوض بن صالح القعيطي (غالب الثاني)، وذلك أثناء زيارته التاريخية للمكلا في صيف العام 1997م حيث أتى للمسجد بعد المغرب. وكان الكثير في استقباله، كما كانت مشاعره جياشة أثناء تلك الزيارة قائلاً لنا: أتيت لزيارة مسجد جدي.
الأخ عبدالله سعيد بوسبعة (عبادي) إمام المسجد:
تولى إمامة المسجد عدد من العلماء من أبناء المنطقة ومن خارجها، بداية بالأخوين عبدالقادر وجعفر باحميد، ثم بالترتيب: السيد حسين بن الشيخ ابوبكر وعبدالرحمن محمد العيدروس وأحمد شرف الدين ومحمد احمد بلفقيه (بوهشوم)، وأخيراً عبدالله سعيد بوسبعة. وكانت أسرة آل بوسبعة تتولى حلقات تحفيظ القرآن الكريم، والآن تتولى إمامة المسجد. ويمتد مسجد الغالبي الآن بمساحة تقدر حوالي 30 × 18متراً, بعد أن تم توسعته بإضافة الرواق والضاحية. كما يلحق به الآن مصلى خاص بالنساء.
عبدالليف عوض مقرم: الغالبي له ارتباط تربوي, تعليمي, وجداني, أخلاقي
مسجد الغالبي ليس اسماً لمسجد مجاور لنا فقط، إنه ارتباط تربوي, تعليمي, وجداني, أخلاقي. إنه ذكريات الطفولة والصبا، هو المسجد الذي تربينا فيه وتعلمنا القرآن الكريم والحديث النبوي والأخلاق والقيم والأدب. كان جدي محمد – رحمه الله – هو من دخلت معه هذا المسجد لأول مرة، وأنا ممسك بيده الكريمة، ومنها كنت دائم المرافقة له وارتياد هذا المسجد، وذلك قبل التحاقي بالمدرسة ولم انفك عن هذه القاعدة التي درجت عليها إلا عند ذهابي للخدمة الوطنية. أتذكر العم فرج عبيد الرباكي – يرحمه الله – والمؤذن العم فرج بامفتاح، وهو من كان يعلمنا القرآن الكريم في حلقات درس ما بعد المغرب. كنت استمتع بقراءة السيد عبدالرحمن العيدروس عندما كان إماماً للمسجد، وكذلك السيد محمد بلفقيه والخال العزيز عبادي بوسبعة، كما كنت استمتع بوقار لصوت احمد بن شبراق وهو يصدح بصوت الحق في الأذان. وكانت الجوابي (المقالد) موجودة على مداخل المسجد وأيضاً في الداخل ثمانية مقالد: أربعة في الجهة الشرقية ومثلها في الجهة الغربية فكنا نترقب فتح أبواب المسجد وخصوصاً وقت الظهر لنغتسل فيها. كنا نحضر كل مناسبة دينية كالأعياد والموالد والختومات، فأتذكر العم سالم عمر مقرم وغيره ممن أهل الخير يقدمون ما تجود به النفس من مأكولات، كطبخات الأرز والتمر والحلوى, فمسجد الغالبي كان لنا بمثابة ملتقى دينياً واجتماعياً، حيث يجتمع فيه أهل المنطقة لتدارس مشاكلهم وهمومهم وعرضها على العقال وكبار السن.
حكاية العم سعد الله:
عن سبب تأسيس المسجد قال العم الحاج حسن سعد الله: إن السلطان غالب القعيطي هو الذي أمر ببنائه، حيث أشار في مقابلة مع الأخ فهيم باخريبة إلى سبب بناء المسجد مضيفاً: إن هناك وباء انتشر يسمى (الكبه) فأمر السلطان غالب ببناء مسجد جديد، تضرعاً إلى الله ليقي العباد من شر ذلك الداء.
الغالبي بعد (100) عام:
مسجد الغالبي كان ولازال باعثاً على الألفة والمحبة والتكامل والتكافل بين الشيوخ والشباب والأطفال لاماً للجميع في أوقات الأفراح والأتراح.
ولكننا ونحن نعمل على انجاز هذا الاستطلاع الذي حرصنا على ألا تمرّ هذه الذكرى (100) عام على بناء هذا المسجد الأثري، وجدناه في حاجة ماسة إلى فرش جديد، لم يحرص أحد من فاعلي الخير في الوطن وخارجه على إلباسه إياه، فهل نكون بهذا الاستطلاع قد ساهمنا في لفت الانتباه إلى حاجة الغالبي ومرتاديه الكثر وهو يدخل قرنه الثاني من العمر؟!.