إبداعات
الروائي حسين حسن السقاف
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 1 .. ص 82
رابط العدد 1 : اضغط هنا
(1)
أبناء جيلي يعرفون شيخ المدونين بلا شك فهو الأكثر استخداماً للورق والمداد، كان يدون كل يومياته أحياناً وهو يمشي ويدون حتى وهو في فراش مرضه، كنت أتردد عليه كثيراً عند ما كان يرقد في مستشفي مدينة المكلا الواقعة على ساحل بحر العرب، كان يروي لي حكايات متناهية التفاصيل والدقة؛ حصلت له مع أبي وجدي؛ وكان في وصفه أكثر دقةً وإلماما بالتفاصيل من شريط سينمائي، رغم قدم تلك الأحداث، كان يرويها لي بصوته المبحوح الجهوَري الذي يشبه أصوات مغنيي الراب، كان كلانا يشعر بارتياح بقرب الأخر في هذه المدينة؛ التي نشعر فيها أنا وهو بشيء من الغربة لبعدنا عن الديار، لذلك كنت كثيراً ما أجلس إلى جانبه وهو مريض. وقد ولعت بعملية تدوينه ليومياته رغم صعوبة فك شفرة كتابته، لذلك ليس بمقدور أي أحد قراءة مدوناته غير أنه كان لديَ إصرار لفك رموز كتاباته . ولتحقيق ذلك طلبت منه أن يكتب لي في كراسة خاصة أحضرتها لينسخ عليها بعض من يومياته واحتفظت بها على سبيل التدرب للتعرف على طريقته في التدوين، لذلك فقد أصبح ميسراً لي قراءة ما يكتبه.
في ليلة الخميس المقمرة بتاريخ 23 ديسمبر 1979 ذهبت مع بعض الأصدقاء في رحلة بحرية إلى منطقة بروم ذات الشواطئ اللازوردية الساحرة الواقعة غرب مدينة المكلا، وعند ما عدت وفي صباح الباكر ليوم السبت في 25 ديسمبر 1979 لم أجد شيخ المدونين في سريره، ولم أجد أحدا من مرافقيه الذين أتوا معه من مدينته (تريم) ذهبت إلى أرشيف القسم الجراحي ليتبين لي بأنه قد توفى؛ وعرفت أنه قد تم دفنه في مقبرة يعقوب شرق المستشفى نفسه تأسفت على فقده وتأسفت أيضاً حينما لم أتمكن من حضور مراسيم الوفاة، لعل أخر ما دونه شيخ المدونين هو ما حواه كراسي، كان قد وعدني بزيارة لمنزلنا، وذكر لي بأنه دون كل ما حكاه عن والديً في مذكراته الموجودة في مدينته تريم . كما تبين لي من خلال صحبته أنه عند ما يعد أحدا بزيارة لا يكون ذلك مجرد كلام، بقدر ما يدون ذلك في برنامج تحركاته، ولذلك فقد أسفت أيضاُ على ضياع موعد زيارته لمنزلنا .
كان لي صديق يسكن في مدينة شبام تميز بالإبداع في كتابة الخطوط بكافة أنواعها، كثيراً ما تستبد به شهوة الكتابة وكانت تشطح به خيالاته ليروي قصصاً تميز فيها بتقنية الإيهام بواقعية الوهم، حتى إننا نصدقها . ذكرت له في جلسة جمعتنا اعجابي بشيخ المدونين وأطلعته على الكراسة التي دون عليها أخر ساعات عمره قبل أن يداهمه الموت، وشاركني ذلك الإعجاب، حتى أنه قال لي بمرارة:
آه لا يستحق الموت.
ولعلي قد نسيت تلك الكراسة بمنزله.
بعد أكثر من عقدين من الزمن تم نقل عملي إلى إدارة الوثائق بحضرموت، وأول ما خطر ببالي هو نقل وثائق شيخ المدونين إلى مركز الوثائق وقد كان لنا ذلك.
(2)
بعد مضي سنوات وتحديدا بعد عودتي من خارج البلد أُخبرت من قبل مدير مكتبي بأن شخصا في عقده السابع قد أحضر كراسة مخطوطة لتسليمها لي، لم يذكر مدير المكتب من هو ذلك الشخص، غير أنني بمجرد فتح هذه الكراس عرفت من أول نظرة إلي خطها انه خط شيخ المدونين، قفزت حيرتي إلى أعلى مداها، عند ما وجدت ان أحداث هذه المدونة تُبين أنها قد كُتبت بعد خروجه من المستشفى، أي بعد وفاته، استبدت بي الحيرة عند ما قرأت فيها بأنه تزوج من امرأة جميلة من جزيرة سقطرى وأنها ليست من بنات حواء، وأنه قد أنجب منها ولدين، وأنه متمتع بصحة وسعادة وافرتين بعد أن سقته زوجته من لماها أكسير الخلود، وأن هذه الزيجة قد منعته من العودة إلى عالمه الأول إلا في حدود ضيقة.!! سألت مدير المكتب عن ذلك المُسن الذي أحضر هذه الكراسة عن شكله، عن ملبسه، عن طريقة كلامه . قال لي:
بأنه في عقده السابع تقريبا متمتعا بحيوية لا تتفق مع سنه، ولا يعتمد على عكاز نظيف الملبس أنيق المنظر تتوسط جبهته زبيبة من أثر السجود، خط الزمن على جبينه العريض تجاعيد خفيفة كأسطر نوتة موسيقية، أجش الصوت، بهذا الوصف قفزت صورة وصوت شيخ المدونين إلى مخيلتي وتذكرت صوته المميز . أما طبيعة الخط الذي كتبت به هذه المدونة فلا يمكن لأحد تقليده . استبد بي القلق، حاولت أن أجمع شتات أمري. في صباح اليوم التالي استقليت سيارتي و ذهبت إلى مدينة تريم، قصدت منزل شيخ المدونين استقبلني ابنه . عرفته بنفسي فتذكرني، سألته عن مراسم دفن والده وعتبتُ عليهم بأنهم لم يخبروني بدفنه، حاولت أن أكون لطيفاً معهم وأن لا أخبرهم بأمر المدونة الحديثة حتى لا يتهموني بالجنون، أو يخرجوني من منزلهم إلى سيارة الإسعاف، طلبت من ابنه أن يخبرني بمن حضر معه الدفن وطلبت منه تحديد موقع القبر في (مقبرة ولي الله يعقوب) في مدينة المكلا، فرد على أسئلتي، رغم غرابتها، ولعله يشفع لي تلك الغرابة في استفساراتي هو أننا لم نلتق على الإطلاق منذ ان افترقنا في المستشفي قبل وفاة الشيخ. طلب مني ابن الشيخ أن أتناول طعام الغداء معه فاعتذرت له لرغبتي في مقابلة شخص أخر ذكرت له اسمه، كان هذا قد عرفته في المستشفى في مرض شيخ المدونين، قال لي أنه بصحة جيدة، وأردف بأنه سيدعيه للغداء أن وافقت على ضيافته، فرحبت بذلك. حرصت أن يكون حديثنا حول شيخ المدونين واستعراض تفاصيل ساعات حياته الأخيرة وكنت مبالغاً في اظهار أسفي على عدم حضوري، وعلمت منهم أنه قد تم دفنه قبيل المغرب في يوم الجمعة بتاريخ 24 ديسمبر 1979 وسألتهما – هل هناك من يستطيع تقليد خط شيخ المدونين ؟ – لا يمكن ذلك فأنت تعرف تلك الطريقة الصعبة حتى في قراءة خطه فما بالك في محاكاته.
بعد أن غادرت أسرة شيخ المدونين لُمت نفسي، كان عليَ أن أضعهم في الصورة من تلك المدونة الحديثة، أقل شيء لأتحرر من بعض ما يستولي علي من الحيرة والقلق ولكني لا أدري لماذا لم أفعل، فقلت لنفسي:
المسألة لا تعدوا عن أنها مسألة وثائق بتواريخ غير منطقية ، ربما تكون هناك جنائية ما.
سيطرت علي الظنون و(الربماءت) حتى كاد رأسي ينفجر. فكرت بأن أخبر جهات التحري للبحث عن سر المدونة وعن الشخص الذي جاء بها ولكنني لم أفعل. سافرت إلى مدينة المكلا، ذهبت إلى القبر الذي وصفه لي ابنه، وجدته كما وصفه، وقد كتب على شاهدة القبر المصنوعة من الحجارة الوردية الخرساء اسم شيخ المدونين الرباعي وتاريخ وفاته في بتاريخ 20 صفر 1400 هجرية حاولت إجراء معادلة لتحويل الهجري إلى ميلادي فكان هذا التاريخ مطابقا ليوم24ديسمبر 1979، وهو يوم خروجه من المستشفى. حاولت أتناسى أمر هذه المدونة بعد ان ذهبت كل جهودي في معرفة كِنها أدراج الرياح ، ما عساي أن أصنع ؟
(3)
قررت أن أحج بيت الله العتيق، عل الله ينسينها، فكان لي ذلك، وبين ما كنت أطوف بالبيت مع الطائفين، لمحت شخصاً يحمل صورة شيخ المدونين، صورة تمثل مزيجا من تلك الصورة التي وصفها لي الموظف في مكتبي والصورة التي مازالت مرسوة في ذاكرتي لأخر لقاء جمعني به في المستشفى، كان هذا يصلي عند مقام ابراهيم وكان بجانبه سيدة طافحة النور والبهاء و يافعين هما أكثر شبها به وبتلك السيدة، بذلت قصار جهدي للذهاب إليه غير أن تيار الطائفين يدفعني إلى الأمام بقوة بعكس عقارب الساعة، في دورتي الثانية حرصت أن أكون بعيداً من مركز الكعبة المشرفة لأكون في أطراف التيار البشري حتى أكون على مقربة من مقام إبراهيم، فكان لي ذلك غير أنني لم أجد ذلك الشخص ولم أجد من اعتقدت بأنهما مرافقيه أو أبنيه، شخصت بنظر في غالبية تلك الوجوه المتضرعة و المتضمخة بدموعها، حاولت تناسي ذلك، عمدت إلى مواصلة طوافي لأكمل مناسكي التي أتيت من أجلها، دعوت الله بأن ألاقي ذلك الشخص الذي اعتقدت بأنه شيخ المدونين غير أنني عند ما كنت أتضلع من ماء زمزم كانت نظراتي تتفلت من محجريها لتطيش في الوجوه الخاشعة، أصبحت هذه العادة تتملكني طوال بقية مناسك الحج ورافقتني هذه في كل تحركاتي في مكة والمدينة ولم أتحرر منها إلا عند ما خرجت من الطائرة التي أقلتني من الحجاز إلى بلادي.
بعد مرور سنتين على ذلك أخبرتني أسرتي بأن شخصاً كبيراً في السن عليه هالة من الوقار والجلال قد سأل عني في المنزل وكان وبرفقته شابين، سألتهم عن صوته وعن بقية الصفات التي ذكرها لي الموظف في مكتبي فقالوا لي: بأنه لم يخرج من السيارة الجميلة التي كانت تقله.
– ألم يخبركم باسمه؟ .
– لم يخبرنا باسمه.
ولكن الشاب قال: بأنهم سيعاودون الزيارة.
– ألم يمنحكم رقم هاتفه.
– ألم يخبركم من أي جهة هو؟.
تذكرت الزيارة التي وعدنيها شيخ المدونين لوالدي ولكن السنين قد أخذت والدي وأخذته أيضاً. وتذكرت بأن شيخ المدونين لا يخلف مواعيده ولكن الأجل يعطل كل المواعيد وكل الطموحات والآمال، ولكن هل يكون هو شيخ المدونين الذي جاء لزيارتي بصحبة ابنيه، هل هما ذلك اليافعين الذين شاهدتهما برفقة الشيخ وهو يركع عند مقام إبراهيم، أم أنها الهواجس التي تستولي عليَ وكلما حاولت نسيانها بردمها ببعض السنين والأيام التي رسمت خطوطها البيضاء على مفرقي أجد ما يعيدها إلى واجهة همي ومهامي واهتماماتي ، ما الذي جرى لي، ما سر اهتمامي البالغ بهذا الشخص وبقصته الغريبة، أحاول أن أقنع نفسي بأن ذلك وهم لم يهتم به غيري، لماذا أدفع ثمن ذلك لوحدي، لماذا لم يكن لأولاده وأحفاده مجرد المشاركة في ذلك الهم.
زرت مدينة تريم، قصدت للمرة الثانية منزل ابن شيخ المدونين، عله يخبرني بما يبدد حيرتي بشأن زيارة ذلك الشخص الغريب لمنزلي ولكنه لم يُحدث لي منه ذكرا. غريب أمر ذلك الشيخ الذي زار منزلي في غيابي لو كان هو شيخ المدونين لكان أولى به أن يزور أولاده وحفدته، من أكون بالنسبة له ليخصني بزيارة ينتقل بها من عالمه الغريب الذي لا يعرفه أحدٌ إلى عالمي، هل يخفي الشيخ سراً عن الناس؟ أو وذا كان الأمر كذلك فلماذا يسعى إلى زيارتي ومن أكون بالنسبة له، ومن يكون هو أيضا بالنسبة لي لأتعذب بكل تلك الحيرة والقلق والتعلق بأرواح ذهبت إلى بارئها وأجسادٌ جيفت بعد أن هجرتها أرواحها .. ولكن ما سر هذه المدونة التي أعرف أنا قبل غيري بأنها لشيخ المدونين وأنها قد كتبت بعد وفاته وان الأحداث التي بها قد حدثت أيضا بعد وفاته.
(4)
ذهبت لزيارة صديق قديم في مدينة شبام أسمه جمعان كان خطاطاً يجيد كل الخطوط ببراعة، عرضت عليه المدونتين : الجديدة والقديمة لشيخ المدونين وسألته:
– هل هي بخط شخص واحد ؟.
نظر فيهما مليا ثم قال وهو ينقل عينية بين المدونتين وبيني بشيء من المكر صمت ملياُ ثم أردف :
وهل ترى غير ذلك؟
– ولكن لماذا تسألني ذلك؟
– فقط لنعتمدها في مركزنا ضمن وثائق شيخ المدونين.
حاولت تناسي شيخ المدونين ومحرراته رغم أنه كل ما قرع جرس منزلي كنت أتوقع أنه هو الطارق الذي جاء ليوفي بوعده بزيارتي غير أنني كنت أشك أحياناً في أن كل ذلك ما هو إلا أحد قصص ومقالب الصديق جمعان وأنه هو الذي كتب المدونة الأخيرة مستغلاً براعته في تقليد الخطوط وصناعة القصص والمقالب التي أشتهر بها أهل مدينته.
في يوم من الأيام وتحديداً بعد الظهيرة كنت رائق المزاج بسبب تحرري من كوابيس المدونة والتدوين وشيخ المدونين مما أهلني لعقد اجتماع أسري ثنائي مغلق، كان في منتهى النجاح، حينها رن هاتفي النقال، لم تكن هناك اشارة أو أسم الذي طلبني رغم أن هاتفي مزود ببرنامج كاشف الرقم كان المتصل واثق من رقم هاتفي إذ أنه لم يسألني عن أسمي بقدر ما ابتدرني :
– كيف السيد حسين؟.
قلت: وأنا أزدرد ريقي وأحاول كبت أنفاسي المتلاحقة:
– بخير ولله الحمد !!
سرعان ما ميزت صاحب الصوت رغم مضي ثلاثة عقود على سماعي له.
كيف لا وهو صاحب الصوت المشروخ المبحوح، ربما تخونني عينيَ، ربما تخونني الذاكرة، غير أن أذني لا تخطئ أبداً، فأنا إنسان سماعي بحسب تصنيف علماء اللغة البرمجية العصبية، لذلك فإنني أثق كثيراً في أذني.
أجل إنه شيخ المدونين إذاً فقد أضيفت إلى عمره ثلاثة عقود بسبب تذوقه اكسير الخلود من زوجته التي لا تنتمي إلى بنات حواء ذوات الجمال المحدود والعمر الافتراضي المحدد بسنوات إهلاك معينة،
إذاً فهذا الصوت يعيدني إلى الدوامة التي كدتُ أنساها واسلوا من قلقها وهمها الذي أرَّقني وعذبني، كثيراً.
دخلت مكتبي المتصل بغرفة نومي أغلقت الباب من دوني لأستجمع قدراتي لأستوعب كل ما يقوله محدثي .رغم كل ذلك إلا أنني بشيء من النفاق قلت لمحدثي :
– من المتحدث؟ –
لا أظنك إلا تعرفني.
وأردف : فقط للاذ كرك.
لقد افترقنا في ليلة الجمعة بتاريخ 24 ديسمبر 1979 حينما ذهبت إلى بروم في رحلتك البحرية.لا شك بأنك تتذكرني .
– أنت شيخ المدونين إذن.
– أنتم من أسماني بذلك.
– من أين تتصل ؟
– من تحت منزلك!
(5)
هرولت في الدرج ولم تكن بي إلا ملابسي الداخلية واتزرت بمنشفة الغسل وفتحت البوابة وأطليت برأسي مستطلعاً لرؤية ضيفي ومعذبي في الآن نفسه. لقد كان شيخ المدونين يترجل من سيارة فاخرة وأغلق باب السيارة وبقي بها شابين لم أتبين ملامحهما . لقد عرفته أنه فعلا شيخ المدونين بلحمه وشحمه ودمه وقضه وقضيضه ما ان وصل إليَ حتى عانقني عناقا أكثر حرارة من عناق (تشي جيفارا) كادت عظامي أن تنخلع وتسمع اصطكاكها . كان بشوشاً ويحمل وجهه ابتسامة ثابتة ووقورة كسحابة الشتاء .
– مرحبا ..هلا أدخلت مرافقيك معك ؟
– لا داعي. سنتحدث أولاً على انفراد. ربما تكون لنا لقاءات كثيرة في المستقبل.
شيخي الجليل أنت لم تغب عني مطلقاً .
– أعرف أنني غبت عنك فقط لأيام قلائل ..
لقد أزعجتك كثيرا.ً
كنت أنا وهو نصعد الدرج إلى غرفة الاستقبال التي وجدتها مفتوحة وقد تم تشغيل المكيف. و ما أن جلسنا حتى قال :
– لقد أبليت بلاءاً حسناً، لذلك فأنني أعتذر أليك لكل ما سببته لك من متاعب.
سكت قليلاً ليقرأ تعبير وجهي ثم أردف :
– كان امتحاناً صعباً أهلكَ لأن أعرض عليك صفقة الخلود التي لا تتيسر لأحد .
– لست من أصحاب الصفق. ولم أعهدك كذلك.
– أجل ولكنها صفقة أخرى تختلف عن التجارة وصفقاتها وحساباتها..
ساورتني بعض الشكوك في ما طرأ على الشيخ لذلك قلت له :
– هل زرت أهلك في تريم؟.
– الأموات تُزار ولا تَزور.
– ولكنك حي ترزق.
– تلك حياة أخرى.
– أنها ليست حياة أدمية كما ترى.
– أريدك أن تحكي لي حكايتك من بدايتها.
– بل سأحكيها من أخر ما انتهت إليه مدونتي الأخيرة.
(6)
مرت لحظة سكون كنت أخالها ساعات حتى خرقها بصوته المبحوح :
– ولكنني يجب أن أختصر حديثي. أنت بلا شك بفطنتك ومعاناتك تعرف الكثير ولكنني سأحجم عن أي حديث أخر، سأكتفي بعرض الصفقة التي حدثتك عنها. لقد تم اخيارك لأن تُمنح عمراً آخر تعيشه بعيداً عن الأمراض والأسقام والأوصاب، عمراً بعيدا عن عالم الأحقاد والنفاق والجريمة والدماء والإرهاب عمر ليس له نهاية .
– هل تقصد بأن تأخذني إلى عالمك بعيداً عن عالمي، بعيداً عن أسرتي، بعيداً عن كل ما أحببته في هذه البسيطة؟ .
– تستطيع أن تستوفي أجلك في هذه الدنيا كما كتبه الله لك، ليبدأ سريان الصفقة من حال دفنك.
سكت قليلا وكنت وقتها أخال نفسي في حضرة عزرائيل وهو يساومني، غير أنه قطع علي حبل أفكاري حين أردف :
– أنت في كل الأحوال سيد الخيارات وصاحبها وتستطيع أن تحدد سريان العمل بموجبها في أي وقت شئت .
– معذرة كلام غريب عليَ يحتاج مني بعض الوقت لاستيعابه.
قاطعني قائلاً:
– أنا كما ترى لفرط محبتي لأولادي الآدميين اخترت أن يبدأ سيريان الصفقة معي بعد وفاتي .. وتستطيع أن تختار لنفسك ذلك. أيضاً تستطيع أن تختار لنفسك الفئة العمرية التي تناسبك ليتم تسكينك فيها، شباب وكهولة، وشيخوخة، وأنا اخترت لنفسي الكهولة كونني قد ألفتها .
– كنت في حيرة من أمري وكنت أفكر في زوجتي التي أحببتها كثيراً وقد أدرك حيرتي لذلك قال:
– العرض هذا يخصك لوحدك فقط، لا يشمل زوجتك سكت برهة ثم أضاف:
لا تشغل نفسك بالتفكير. فلديك الكثير من الوقت لتفكر. فإذا ما أردتني لأمر يتعلق بهذه الخيار – ولا غيره- ستجدني بجانبك .وإن لم تحتاج إليَّ سأحضر قبيل وفاتك بعد أن تستوفي أجلك كاملاً غير منقوص.
– هل أستعين بك لأمر لآخر؟.
– جماعتي هم خلقُ من خلق الله لذلك ليس بمقدور أحد تغيير مشيئته وهم فقط ماضون في طريقها. وهم جزء من أدوات تحقيقها.
– عندما أكون معكم هل تنتهي علاقتي بعالمي هذا؟.
– تستطيع أن تحج وتستطيع أن تصنع المعروف لمستحقيه. لكن ليس بمقدورك مخالطة الناس في حياتهم إلا ما قضت به الضرورة. بالتأكيد ستكون لك زوجة لا يمكنك تصور جمالها وسيكون لك منها أولاد وستكون بينكم مودة ورحمة..
سكت هُنيهة ثم أردف: وهو يستعد للنهوض :أستودعك الله. انتهى!.