إبداعات
صالح سعيد بحرق
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 1 .. ص 86
رابط العدد 1 : اضغط هنا
(1)
كنت في تلك الليلة وحدي على الشرفة انتظر انهمارات المساء ،وبيقين مشوب بالتوتر كنت أدخل رأسي إلى الشارع لاصطدمببعض الافكار التي افضي بها الى عوالم التأويل المتاخم للروح.
كان الحي من الاسفل يبدو دروباً متلاصقة تحنو على بعضها البعض يتخللها احساس من الانبهار للوهلة الأولى يعقبه تدفق بالحنين في مسارات المساء الدافئ المتسلل الى روحي وأنا مطل على الشرفة في هذه الليلة منتظراً انهمار القلق لأبدأ في الدخول منذ اللحظة في تفاصيل جديدة وتشعبات تمنحني اتكاءات يائسة على مشارف القلق .
ليس من شك أن كل الأشياء تقود نفسها لتخلق رغبة متصارعة داخلي أو لتضعني على تلال الوعد النامي مع انثيالات هذا المساء المتلاحقة ورأسي ما يزال خارج الغرفة متدليا إلى وسط الشارع وفكرت في خلعه وابقائه على الشرفة ليتصرف مع المارين كما يشاء.
عندما تتخلى الأشياء عني يكون في مقدوري صياغتها من جديد ،قد أقع على أشياء غير منسجمة قلقة تتحفز للوثوب وتبحث عن ارتواء يتطلبها الصوت المأزوم المتقطع داخلي ،ولكن السكون والانزواء يهبني دائما لحظات حاسمة في كبح جماح هذه الارتدادات المنهمرة بالقلق ،فألوذ بصمت فطري يتشعب في مداخل الروح.
بدأت في هذه الساعة الآن تتحرك نحوي الفجاءات، تسكن أعلى طبقة في تفكيري، لماذا لا انزل الشارع واركب وجهي واشتري الجريدة، ولكني تذكرت أن حذائي مقطوع واصابني نوع من الامتعاض ولكم نظرت الى احذية المارة فوجدتها تشير الى بعض صفاتهم تماما . لكني لم أكن لأجزم أن أقول هذا التخمين لأحد البتة.
وعاد رأسي الى العمل وندت عني التفاتة الى الخلف فأبصرت حقيبتي التي رميتها في ركن الغرفة بعد انتهاء فترة عملي ..علي ان ابحث داخلها عن بعض الاوراق والرسومات التي كنت مولع بها وهي مجموعة رؤوس بشرية انفصلت عن اجسادها ..وعاودت النظر الى الشارع ثانية وقد استشرفت كياني فكرة البحث عن عمل وتذكرت ليلى التي تركتها لأني لم استطع توفير حاجياتها وودت ان ابكي لكنني سعلت بشدة حتى احسست ان رأسي يهبط الى الشارع ويتسكع في الطرقات.
واشتدت حلكة الليل. فالتقطت رأسي من النافذة شيئا فشيئا ومشيت به الى الداخل واضيئت الغرفة على لمبة هزيلة بالكاد أرى منها أمتعتي وكتبي، وتشاكلت الأفكار في نفسي ومرت بشكل سريع اللحظات التي هربت منها واستعصى علي نسيانها وتحت اللحاف حاولت ان انام او اسلو فلم افلح الا في المزيد من الانهيار والقلق.
وبدأ الليل يلفني..يزحف ببطء ليكتم أنفاسي، يجذبني تارة إلى اليمين وتارة الى الشمال وعلى ألم ممض اتجرع كؤوس الصبر ولا استطيع ان أحمل رأسي الى النافذة يسيطر على حنين مباغت بالبكاء والصراخ مجددا حتى ينهض ما في داخلي من بؤس ويولي الأدبار ولكن هيهات،تكومت على نفسي بصعوبة وانجرفت الى محاكاة اليقين المتبقي داخلي لكنه لا يحملني إلا على مزيد من القلق .
كان الضوء خافتا جدا. لا يسمح برؤية الليل الممتد داخلي ،وقد ظل يفترش في داخلي يغزو شرايين القلب واماكن اخرى طمرتها الايام حيث راحت تناجي نفسها وتقودني الى حواش مؤلمة عصية عن النسيان وكان وجه ليلى يفد متزامنا مع اضطراباتي.
كل الاسماء القديمة لمكونات ذاتي المهزومة بدأت هي الأخرى تستعد لتلقي بأجنحتها في خضم الليل وتتدافع مع أمواجه التي تهدر الآن بصوت مزدحم بأمنيات الأمس، وخرافات الانتظار من اجل إتقان الهروب إلى شواطئ السلوان.
الليل ينشر اجنحته العنكبوتية في كل مكان من جسدي يعلو الى القلب يفتح ممرات اليقين يعبث بها يتسلق ذاكرة النجوى يتمدد بوحشية في نواح مجهولة لم تستوعب اقدامه المرتجفة بعد خوفي وقلقي، أود أن انهض أن اضع رأسي على طرف النافذة..حاولت أن الملم أشيائي التي انسربت الى حياض موحشة فلم افلح، أسندت ظهري إلى السرير، اتكأت على مجلد ضخم للحرب والسلام، تسلل إلى قلبي العالم الموحش الذي خطه تولستوي، هربت من شخوصه وقذفت بهم من النافذة وانحنيت لأضع رأسي على زاوية بعيدة، وكانت الرطوبة في الداخل تزداد، وأنا اشعر بحاجة إلى ابتعاث القلق إلى صحارى مجهولة ليتوالد هناك، ابحث عن معالم الطريق هناك بعيدا، ثمة امرأة تعبر الشارع بصعوبة من كثرة المركبات تتعثر تكاد تسقط أبصر ساقيها البرونزيين..اتبعها بنظراتي حتى يأتي باص مسرع فيلتهما فاه ليبقى الشارع فارغا يقذف بين حين وآخر بالرعب.
وكالعادة هناك في ركن قصي كنت اعقد للأمل مكانا جلست أتأمل الطريق بعد أن أعدت جميع أعضائي إلي، وبدأت حلكة الليل من جديد تلفني وتجتاح كل انفاسي وتتسلل الى مفاصل ذكرياتي فتكبح ما تبقى بها من نضارة الأيام، وتوقد حدسي وأنا جالس، اعبر جسور القلق وأفكر بشيء من اليأس عن مصير توقعاتي وكيف سأقبل على التصديق بكل الوان هذا الانهزام الذي يمنحه لي الليل.
كان الافق يضيء بعتمة السكون ينشر فجيعة مخفية وسط الاشياء المحيطة بي يتلصص من منافذ سرية على تحركاتي يشرب من كؤوس انتظاري ويسكب الهلع في كل مكان،فلا استطيع النهوض مجندلا بين صخور القلق تنفتح لي باستمرار كوى الحزن وتتعامد في داخلي أروقته السوداء فلا أبصر اتجاه الطريق، فيأخذني الليل إلى صحاريه اقتات على الصبوات المتبقية في القلب.
وشعرت بالجفاف،وغصة عميقة في حلقي وجنوح على التثاؤب والخروج من دوائر الوقت، إلى التعلق بمناطق موبوءة بالنسيان والقلق. وشاخت كل أسئلتي عن الأشياء التي تمر امامي وهزأت بي الظنون..
كانت معالم المدينة تذهب في سبات عميق لا تشي بالحركة إلا على فترات متقطعة يعقبها صراخ حاد في مكان ما ووشوشات بالقرب من أشجار الزينة الضامرة وتمر بالشارع آليات كبيرة مغطاة ووجوه معتمة في الظلام، ويمر من الخلف رجال غرباء لا لون لهم.
وهبت على جسدي المنهوك نسائم باردة، وتلاحقت الذكريات لتطمس معالم السرور التي يهبها المكان المفقر في صحراء التيه والغربة والقلق النابت في صخور العمر، وتراشقت نبال الهموم لتغدق على فكري بالوان الغم وتجبرني على الارتماء في احضان لحظات لا اعرفها، وأيقنت بان الليل باق وأنجمه قد شدت بأوصالي وتراخت عليها أستاره الحمقى لتجتذبني في أي حين.
واصخت السمع الى نداء خفي يتصاعد من اصقاع روحي الندية بالآمال في ليل مطبق من كافة الاتجاهات وغدوت احاور شخوصا كانت تسلبني بهجتي وتستفيق كل دقيقة لتقيم مهرجانها الصاخب داخلي مفسحة للظلام بان يتسلل رويدا رويدا حتى يشيخ على اجفاني فاقع في شرك اللا نسيان.
واشعر ان اعضائي تتمدد في ارجاء فسيحة من الاحزان والتكهنات ،وانتظر مجيء القلق
لا ينطفئ شرارة النسيان،فيصعقني تارة وتارة يرمي بي في اتون الانتظار. وافتح صفحة اليأس في مداخل الاسى لاقف على دمعات ودعت بها نهر الأشواق، وتماوجت سفائن الحنين داخلي وانا على الرصيف لا ابرحه في ليلة باردة تغمرني بمزيد من الاشواك. وتساءلت كيف اعود الى غرفتي كيف اكبح جماح هذا التوتر والانهيار ..كيف ازيح الليل عن كاهلي كيف اغدو نهارا جميلا بلا أستار ظلام ولا قلق ولا حزن ولا خوف.
وودت أن أشعل عود ثقاب. أو أن اطرد إلى حين فقط زخات الأسى المتعامدة،وتمالكت على نفسي حتى استويت واقفا فاذا النوافذ مشرعة يهطل منها الليل الباسم هناك خلف الستائر المخملية البنفسجية والاصوات الرقيقة الهامسة التي تنبعث في هدأت الليل.
وراحت الهمسات تتسلل الي في رفقة السكون وتتلاشى من خلدي علامات القلق الا قليلا فاشرع في المشي وادنو من نفسي واتعانق مع الاشياء والحنين.
وبالكاد وصلت الى اقرب نقطة من المنزل..الحنين بالبقاء في العراء لانتظار مزيد من القلق هو ما يسيطر علي ويدفع بي إلى ملامسة أشياء صغيرة عالقة بالقلب، ولا ادري كيف تذكرتها تحت سياط البرد والخوف والقلق. وعلى الفور رحت افتح نوافذ القلب المغلقة.. لتستشرفني اللحظات الجميلة التي عشتها، تحاول أن تفترس هم الليل فلا يجديها ذلك نفعا بيد انها تظل تراوغ في القلب وتتناسل تحت ميلاد الانطفاءات السابقة لتحيا من جديد في هزائم الذات.
وهاهو درج سلم المنزل يبين لي، وهذه الأحجار السوداء قد صنعت توقعاتي وطالما اختلطت بأمنياتي وخوفي وقلقي وكل حجرة ابتدأ عندها مشواري أو انطفئ، اعرف كيف ندمت هنا وكيف بكيت هناك.
وتراءت لي محطات اليأس كلها وتراءت لي تشققات العمر والرغبات ودنوت من الرصيف لالتقط صحيفة ممزقة، لكن الريح سبقتني، فأخذتها بعيدا، وفكرت كم من أحلامنا تذهب مع الريح لننتظر القلق.