تاريخ
د. محمد صالح بلعفير
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 2 .. ص 76
رابط العدد 2 : اضغط هنا
كثيرة هي المدن القديمة التي كانت في الماضي تمتلئ حيوية وحياة مزدهرة وصاخبة ثم لم تلبث أن انتهى كل شيء بالنسبة إليها ، وأصبح التاريخ يسعفها بشيء من الذكرى في صفحاته ، ولكن قليلة هي المدن القديمة التي احتفظت بعوامل البقاء وديمومة الحياة التي استمرت فيها دونما انقطاع رغم الكوارث الطبيعية والنكبات السياسية ، ومن تلك المدن تبرز مدينة شبام حضرموت ذلك النصب الطيني الهائل الذي يرتفع في قلب وادي حضرموت منذ زمن بعيد ، المدينة التي التصقت بالتاريخ ورحلت معه في أسفار عهود دون أن يضنيها التعب وتنهكها مشقة الأسفار ، المدينة التي أبهرت العقول وسحرت الألباب وكأن بها تشاهد مارداً عملاقاً من عالم قد انقرض ، عالم ساحر بفنون أهله وملكاتهم الإبداعية .
لقد لفتت مدينة شبام بجاذبيتها السحرية وبتعدد طوابقها وبأسلوب بنائها المعماري المتفرد أنظار المغامرين والرحالة والسياح والمستشرقين ، فوصفوها بأحسن الأوصاف ولقبوها بألقاب قلما حظيت بها مدينة في العالم ، وهي على حد تعبير بودلي تعد من المدن التي تكوّن أصل ناطحات السحاب في العالم الحديث ، وان هندسة بنائها ومنذ قرون خلت أكثر شبهاً بهندسة نيويورك منها بالهندسة العربية ، ووصفها الرحالة الألماني هيليفريتز في القرن التاسع عشر بشيكاغو الصحراء ، ودعاها المستشرق الألماني فون فيسمن ورفيقه الهولندي فاندر ميولن نيويورك حضرموت ، كما وصفتها مجلة العربي الكويتية في استطلاع لها عن المدينة عام 1965م بأنها أعظم مدن ناطحات السحاب …بناها العرب الأقدمون قبل ان يبني الأمريكيون نيويورك بعشرات القرون .
ولسنا هنا في معرض الإشارة إلى كل من زار مدينة شبام من رحالة ومستشرقين بدءاً من أدولف فون ريد ، وليوهرش ، والزوجان بنت ، وفريا ستارك ، وعدد آخر من المستشرقين والضباط الإنجليز الذين عملوا في حضرموت ومحميات عدن الأخرى ، إلا إن ما يمكننا قوله ان أوصافهم – على الرغم من إيجازها – قد أكسبت المدينة شهرة عالمية وتم الاعتراف بها من قبل المنظمة العالمية للتربية والثقافة والعلوم ( اليونسكو ) كأثر عالمي ، وادرجت مع آثار وادي حضرموت مجتمعة في قائمة التراث الحضاري العالمي .
على ان مما يلاحظ في تلك الكتابات وحتى وقت قريب ، انها اكتفت بوصف الشكل الخارجي لشبام وشوارعها ومعالمها التاريخية ، وبعض مظاهر الحياتين الاجتماعية والاقتصادية فيها، ولم تستطع أن تدرس بعمق تاريخ المدينة وفهم الأسباب أو الأسرار التي تقف وراء شغف الشباميين بتشييد ناطحات السحاب .
والحق أن التراث المعماري لمدينة شبام يكتنفه صعوبات جمة ، إذ لم تتناول المصنفات التاريخية على قلتها هذا الموضوع من قريب ولا من بعيد ، وهذ سبب دفعني منتصف الثمانينيات من القرن الماضي ( العشرين ) إلى التوجه إلى المدينة لقرع أبواب ساكنيها للحصول على قدر ولو ضئيل مما يمكن معرفته من حقائق بهذا الصدد . ولحسن الحظ فقد تمكنت آنذاك في زيارات عمل ما هو خاص ومنها ما يتعلق بطبيعة عملي الآثاري ومشاركي مع خبراء منظمة اليونسكو ، ان أجمع ما أمكن لي جمعه ومعرفته عن أسرار البناء في المدينة ، ولذلك فقد اثمرت جهودي واتصالاتي الخاصة بعدد من سكان المدينة وبخاصة المرحوم سالم محمد باعبيد الفوز بثلاث وثائق ، وهي وإن كانت تحمل تواريخ حديثة وتعود إلى الخمسينيات ، إلا ان صاحبها – المذكور آنفاً – قد أكد لي بشهادته وشهادة غيره ، أن الأهالي قد اعتادوا ودرجوا منذ زمن بعيد على تسجيل مثل هذه الوثائق . والوثائق الثلاث المذكورة اثنتان منها تأخذان الطابع العرفي ، أي ما تعارف الأهالي على العمل به فيما بينهم ودون الحاجة للجوء إلى السلطات المحلية ، والثالثة هي أقرب إلى الصفة الرسمية ، إذ إن البناء أو إعادة البناء يستلزم بالضرورة الحصول على موافقة المجلس البلدي بالمدينة ، وهذه موافقة خطية لا تحمل ختماً رسمياً .
تشكل هذه الوثائق الخطوة الأولى لإعادة بناء أي منزل في مدينة شبام ، وهي من أقدم العادات المتعارف عليها من قبل الأهالي ، وفي تقديرنا ان أسلوب تسجيل مثل هذه الوثائق كان شفاهياً في القرون الماضية ، وهذا ما يفسر شحة وجود وثائق من هذا النوع الذي تدرج التعامل به إلى درجة ان أصبح يحمل صفة قانونية .
ونعتقد بشيء من الجزم ان هناك سببين قد دفعا سكان المدينة إلى تسجيل مثل هذه الوثائق :
وتعرف وثائق إعادة البناء باسم ( بيان شل المنافذ ) أي تسجيل عدد ومقاييس المنافذ الخارجية للبيت الذي سيعاد بناءه من جديد ، فقد جرت العادة حتى وقت قريب انه عندما يريد مالك بيت او بيت آخر تؤول ملكيته من شخص لآخر عن طريق البيع والشراء ، لزاماً عليهما أن يذهبا إلى القائم بأعمال الشرع والعدل في المدينة ، وهو في الوقت نفسه ( ناظر السد ) المسئول عن سد المدينة الذي يوزع المياه إلى الحقول الزراعية ويحميها في الوقت نفسه من خطر السيول ، وذلك لتوقيع عقد البيع بحضور عدد من الشهود . ولكن إذا ما أراد المالك الجديد للبيت أن يعيد بناءه من جديد وهو ما ينطبق أيضاً على الملاك القدامى ، فانه لا يحق له بأي حال من الأحوال ان يعيد بناءه دونما سابق إذن من المجلس البلدي ( أنظر وثيقة رقم 3 ) ووفق الطريقة التي يختارها هو ، ذلك أن هذه العادة لا تسمح للمالك الجديد للبيت ان تحدث أية تغييرات في واجهات البيت ، بل إن البيت لا يهدم إلّا بعد أن يعاين القائم بأعمال الشرع ، وكذلك معلم البناء الذي سيقوم بتنفيذ عملية البناء ، إضافة إلى عدد من الرجال المسنين بما فيهم الجيران الذين يتحولون إلى شهود .
وبعد المعاينة يقوم معلم البناء بأخذ ( تسجيل ) عدد المنافذ الخارجية ومقاييسها قبل تهديم البيت من خلاف ( نوافذ ) وحنك وهي فتحات المزاريب ( المراعيض ) ، كما تشمل هذه العملية منافذ الخور وهو مكان تجمع الغائط ، والبكرة وهي الجدار الذي يفصل بين النوافذ ، وكذلك الإشارة إلى السحسوح وهو عبارة عن قناة عمودية في الواجهة الخلفية – استبدل حديثاً بالأنابيب – تصرف مياه المراحيض إلى السلقة وهي حاجز عريض ذو انحدار مطلي بالنورة ومهمته تسهيل وصول المياه المستهلكة إلى المجاري العامة ، وكذلك كحاجز يقي أساس المبنى من خطر تسرب المياه ، وتسجل هذه الفتحات في الوثيقة . وعلاوة على ذلك يقوم معلم البناء باستيعاب عدد ومقاييس فتحات أخرى مختلفة الأحجام كالعكر وهي الفتحات المستطيلة الصغيرة التي تمد الطابق الأرضي بالضوء والهواء .
إن كل خطوات هذه العملية تؤخذ بحضور الجيران كما أشرنا ، لأنهم أكثر الناس تضرراً في حال أخذ المقاييس أثناء غيابهم ، وبعدئذ يلتزم مالك المنزل الجديد وبعد موافقة المجلس البلدي بعدم زيادة ولم مليمتراً واحداً على المقاييس السابقة والحفاظ عليها إلا في حالات الضرورة القصوى ، وذلك عندما يرى مالك البيت بعد سكنه ضرورة فتح إحدى فتحات الحنك أو الفرخ ( مفردها فرخة ) وهي منافذ الضوء في الطوابق العليا وهي أكبر من العكر ، والتي كان بعضها مغلقاً أثناء تسجيل عدد المنافذ ومقاييسها للمنزل ، وفي هذه الحال يتم التوقيع على ما يعرف باسم ( الخط العاري ) وكلمة عاري تعني أن تظل فتحات الحنك أو الفرخ مفتوحة لفترة زمنية مؤقتة في أي واجهة من واجهات المنزل .
هذا فيما يخص الشكل الخارجي للبيت ، لكن في مقابل ذلك هل يحق للمالك إحداث أي تغيرات داخلية في البيت ؟ . وفي هذه الحال يحق له اجراء أية تعديلات داخلية في تصميم الغرف وملحقاتها كيفما شاء على شرط ألّا يخل ذلك بالشكل الخارجي للبيت ، والالتزام بما ورد في ( بيان شل المنافذ ) وهي الوثيقة التي تسجل وتوقع من قبل الأطراف المعنية التي أشرنا إليها .
خلاصة القول ، إن وثائق إعادة البناء تعد من أهم العوامل التي ساعدت مدينة شبام على الاحتفاظ بشكل وتصميم المنازل خلال فترات تاريخية ماضية وحتى الوقت الحاضر ، ومكنها من الصمود أمام تحديات العصر بما حملته من أنماط البناء الحديثة في حضرموت ، وطرز العمارة الأجنبية التي نقلها المهاجرون الحضارم في إندونيسيا وسنغافورة والهند ، والتي وجدت متنفساً في كل من مدينتي تريم وسيئون ، وفي ضاحية السحيل المواجهة لمدينة شبام .
إن التراث المعماري لمدينة شبام الذي ظل محافظاً على أصوله وقواعده فترة طويلة من الزمن يجب أن يحظى في الوقت الحاضر باهتمام جميع الجهات الرسمية منها والشعبية ، خاصة و|أنه لا يمثل تراثاً للشباميين وحضرموت واليمن فحسب ، بل وتراثاً وملكاً للإنسانية جمعاء .
ان إعادة بناء وترميم المنازل المهدمة في الوقت الحاضر وفي المستقبل يحب ان يأخذ بعين الاعتبار مايورد في بيان ( شل المنافذ ) وعلى نتيجة تلك الجهود ومراعاة أعراف البناء نكون قد كفلنا مسألة الحفاظ على جانب مهم من جوانب التراث المعماري لشبام والتراث الإنساني ككل ، وضمنا بالتالي استمراريته إلى الأبد ، والوقوف بحزم امام أية تعديات طارئة تشوه الشكل الخارجي للمنزل الشبامي مثلما حدث في السنوات القليلة الماضية بعدما عمد البعض إلى طلاء المنازل بألوان فاقعة لا تتلاءم أبداً مع العمارة الطينية وغيرها من المصادر المحلية للبناء .
نص وثيقة 1
الحمد لله وبتاريخ يوم الجمعة 27 جماد الآخر 1372 الموافق 13 مارس سنة 1953م بيان شل منافذ حنك دار الشيخ محمد بن سالم باعبيد الكائن ببلد شبام المسما دار أحمد بن علي بن مبارك الذي يحده قبليا دار الشيخ محمد بن أحمد باشراحيل وشرقياً دار محمد باعبيد المذكور المسما دار سالم بن عبدالله بن مبارك ونجدياً المطراق ودار آل محمد بن هيازع ودار محمد بركات وبحرياً الخور
أول ذلك في الوجه النجدي طورحنك مراعيظ في قبليه بينه وبين الخشم القبلي إلى شرق ذراعين وربع <2 إلى شرق وفي جانبه الشرقي طور حنك بينه وبين الحايل الشرقي ذراع وربع ــــــــــــــــــ <1
وفي خور الدار المذكور في الوجه البحري
في جانبه القبلي طور حنك بينه وبين خشم الحايل القبلي ذراع آ
والبكرة عرضها ذراعين ونص والخصر شرقي البكره /2
مع مرعاظ في الوسط في طبقة المحضرة الطالعية شرقي الخصر المذكور
ومنافذ خور دار الصعامر في الوجه البحري
في جانبه البحري طور مراعيظ بينه وبين الخشم البحري ذراعين ونصف /2
عرض البكرة البحري ذراعين وربع 2 <
والخصر نجدي البكرة المذكورة
هذا بيان تقرير شل منافذ الدارين المذكورات بحضور من سيضع مشهده أعلاه وكتبه وشهد به بكار بن أحمد بن عوض بن عمر سديس
شهد بذلك المعلم عبدون بن هويدي وكتب بأمره بكار سديس شهد بذلك محمد عمر بركات سعيدان بن امبارك صابر |
شهد بذلك عمر بن عوض عمر وكتب بأمر كاتبه |
شهد بذلك محمد بن أحمد باشراحيل وكتب بأمره شيخ بن عبود بن جابر |
شهد بذلكعلي بن يسلم بن هيازع |
منافذ حنك : فتحات المزاريب ( مخرج الماء ) الخشم : الركن / الزاوية
قبلياً : غرباً المرعاظ : المرعاض/ المزراب
نجدياً شمالاً البكرة : الجدار الذي يفصل بين النوافذ
المطارق : الشارع الخصر : الكنبار / المرحاض
بحرياً جنوباً المحضرة : الغرفة الكبيرة
الخور ك محل الغائط الطالعية : العلوية
طور : صنف بكار سديس : القائم بأعمال الشرع والعدل
الحايل : الجدار
وثيقة 2
بحمد الله وحده وبتاريخ يوم الاثنين 4 ربيع الأول سنة 1363 ثلاث وستين وثلاثمائة والف بيان شل منافذ حنك دار محمد بن سالم باعبيد واخوانه عوض وعمر وأحمد الكاين ببلد شبام المسما دار معاشر الصاير لهم بالشراء من ورثة عمر بن احمد معاشر الذي يحده من قبلة المطراق ودار المسما دار يعقوب ومن شرق الخور ودار آل باشعيبان الصاير من آل الحبشي ومن بحر الخور ودار آل دحدوح ومن نجد دار آل وحدين والمطراق أول ذلك في جانبه النجدي بالخشم القبلي طور حنك عدد 3 وتحتهن سحسوح منوّر
وفي الخور في جانبه البحري فوق الخصر طور حنك عدد 4 من الخشم البحري إلى خشم الخور النجدي ذراعين والحنك في المثناه وفي جانبه النجدي في المثناه طور حنك عدد 3 في جانبه البحري إلى وسط الخصر ء مع2 ذراع وإلى خشم الخصر النجدي ء/1 ذراع والخصر بينهن وفي جانبه الشرقي إلى الخور خلاف كبار وخيش في كل طبقة من كل ساقط
كتب ذلك وحضره وشهد به بكار بن أحمد بن عوض سديس شهد بذلك وحضر عبدون بن أحمد بن علي بن هويدي
شهد
أحمد بن عبدالله معاشر شهد علي بن محمد باذيب
شهد بذلك عوض بن سالم عفيف
وكتب بأمره أحمد عبدالله معاشر
المثناه: الوسط
خلاف : نوافذ
ساقط : البكرة ( الجدار مابين النوافذ ومقياسه 4 أذرع )
منوّر : مطلي بالنورة
وثيقة 3
المجلس البلدي في شبام
رقم 4/77/1 تاريخ 13/3/53
المكرم الشيخ محمد بن سالم باعبيد المحترم
تحية : إشارة إلى رسالتكم المحررة 13/3/53
فقد وافق المجلس بالسماح في خراب وبناء داركم
المسمى دار احمد بن مبارك وداركم الآخر
المسمى دار الصعامر مع مراعاة المنافذ
حسب بيانكم المقدم المحرر 13/3/53
ولإعلامكم حرر ودمتم
عوض بن سالم باعبيد
نائب المجلس البلدي
المقاييس في الوثائق
آ = ذراع واحد 2/= ذراعين
<1= ذراع وربع ء/2 = ذراعين ونصف وثمن
/1= ذراع ونصف 2 ء مع2= ثلاثة أذرع إل ثمن
<2= ذراعين وربع