أ.د. محمد يسلم عبدالنور
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 2 .. ص 94
رابط العدد 2 : اضغط هنا
يعد الوقف من الموضوعات التي أشبعها البحث من الناحية الفقهية، ولعلي في هذا البحث اتجاوز المقدمات في البحث في مشروعية الوقف وفضائله واحكامه وما يتصل بفقهه، فان هذا المجال تعددت الابحاث فيه وتنوعت، ولذلك سيكون هذا البحث منصبا على الاثر الناتج عنه بكافة اشكاله.
وقد طالعتنا مجلة حضرموت الثقافية في عددها الاول الصادر في ذي الحجة الحرام 1437هـ/2016م بموضوع عن الوقف الخيري والاهلي في حضرموت للكاتب الاستاذ والباحث الحصيف محمد علوي باهارون، الذي يشكر في طرق هذا الموضوع ــ واحسب انه اول من طرقه ــ وكأنه في ذلك قد رمى حجرة في مياه راكدة آن لها ان تتحرك ــ رغم تحركها قد تأخر ــ ورغم ان موضوعه قد اخذ ونحى المنحى العام، فإنني وبدوافع سابقة اعيد طرق هذا الموضوع مختارا فقط الوقف الخيري دون الوقف الاهلي او الذري الذي يتم وقفه على الذرية والاهل او حتى الوقف المشترك، فاخترت الوقف الخيري وهو التحويل الذي يتم وقفه على اعمال الخير العامة لمصالح المسلمين كالمساجد او المستشفيات او الفقراء او دور وطلبة العلم وما شابه ذلك من وجوه الخير، أي يكون عائده مصروفا الى جهة خيرية مستمرة الوجود.
وفي التدوين التاريخي الحضرمي يتداخل موضوع الوقف مع انواعه الثلاث من جانب، ومن جانب اخر يتداخل مع موضوعات تتشابه في اهدافها وأثرها ونتائجها من انواع المبرات كالصدقة والوصية والنذر والهبة والتبرع، فكانت تلك الاموال سواء النقدية ام العينية تصرف في وجوه الخير المختلفة.
وقد اتخذت مدينة تريم انموذج لذلك، ولعلنا نرى مستقبلا دراسات وابحاث عن ذلك لجميع مناطق حضرموت، لنعطي القارئ العربي والمسلم صورة مكتملة ولو بعض الشيء عن الوقف في حضرموت.
واجد نفسي هنا اشير الى انواع الوقف وصوره واشكاله في الاتي:
اما الوقف على المصليات فارجي الحديث عنه عند الحديث عن الوقف من قبل المرأة.
كما وقفت له فيما بعد الوقفيات الخاصة او المشتركة من عقارات في سنقفوره من كل من: سالم بن محمد الكثيري، عبد الرحمن بن عبد الله الكاف، أحمد بن سعيد جوبان، عبد القادر بن شيخ الكاف، محمد بن أحمد عيديد، عبد الله بن عبد القادر الحداد، أحمد العزب، وكل هذه الاوقاف في مصالحه سواء الانشائية والبناء والصيانة والموازنة التشغيلية والخدمية ([8])، هذا فضلا عن الانواع الاخرى من التبرعات والمبرات والوصايا له لا نشير اليها كونها خارجة عن نطاق بحثنا.
فمن هذه الاوقاف تلك الاراضي التي اوقفت على مقابر تريم الثلاث (زنبل والفريط واكدر) لمن يحفر قبور الموتى، ويعمل اللبن (المدر) الذي يسد به القبر لوقف عبد الله باعلوي (ت731هـ) من الاراضي والنخيل ([11])، ووقف عبد القادر بن شيخ الكاف (ت1365هـ) المشترك لبيته في سنقفوره ([12])، واوقاف اخرى على تجهيز الموتى المعوزين والغرباء، واخرى على صيانة عدة الوفاة من الجنازة ومغسل الميت وغيره، كوقف حسين بن سهل لجزء من بير النحاس لذلك لحافة السوق.
ومن ذلك ما وقف من قبل عبد الله باعلوي على اللقطاء الذين يوضعون في الطاق المعروف بسوق تريم (طاق الفروخ) وما وقف على القفان (الميزان) ([13]) وما تعتريه من اصلاحات وصيانة دورية، وهذه موضوعات اجتماعية(بكر) بحاجة الى دراسات وابحاث.
وعندما ابتنى عبد الرحمن بن شيخ الكاف سنة 1336 هـ دار الغرباء المعروف بسوق تريم بدار الصدقة من خيرات والده لإيواء من يأتي اليها او من يقصدها في المناسبات العامة من الغرباء وقفت له الدكاكين والحوانيت الملاصقة له.
وانتشرت السقايات والتي بمثابة البرادات في عصرنا في اماكن عدة من تريم خارجها وداخلها لإرواء الناس بل والحيوانات من الماء فوقفت لها الاوقاف، ومن امثلتها ما وقفه زين بن محسن الهادي من ارض زراعية على الساقيتين المعروفتين الاولى بحنينة، والاخرى بجانب بيته بجوار مسجد شيخ عيديد.
ومن ذلك ايضا ما وقفه حسين بن عبد الرحمن بن سهل في جزء من بير النحاس على اواني (قدور) الطباخ بحافة السوق المصنوعة من مادة النحاس الحديدية التي يبقى الطعام فيها حارا مدة اطول، وما تسمى الوقف بذلك (بير النحاس) الا نسبة لهذه القدور والاواني.
ووصل وقف المحسنون حتى على عصا خطيب الجمعة التي يستند عليه الخطيب في خطابة الجمعة والعيدين، ومن يقوم بالخطابة من اسرة آل الخطيب، بوقف محمد بن علي الخطيب (ت703هـ) ارض بئر الإبل لهذا الغرض.
وليس بالقليل هذا الوقف في تريم، وان كان قد انحصر في المساجد والمصليات ومن امثلة ذلك: مسجد الحداد بالمحيضرة الذي بنته شفاء بنت عيسى بن عبد القادر الحداد (ت1375هـ) زوج عمر بن شيخ الكاف (ت1390هـ) اوقفت له الاوقاف، ومسجد فطوم بنت حسن بن عبد الله الكاف (ت1407هـ).
اما المصليات النسوية التي بنتها المرأة واوقفت لها الاوقاف فهي كثيرة منها: مصلى عيشة بنت عمر المحضار (ت888هـ) ومصلى شهابة لنور بنت عبد الله بن عبد الرحمن بن شهاب التي اوقفت له عقارا، ومصلى علوية بنت شيخ بن عبد الرحمن الكاف (ت1339هـ) ومصلى اختها سيدة (ت1386هـ) المسمى بمصلى كافة اوقفت له بعض المحلات التجارية بالسوق، ومصلى خردة لمسعد بنت حامد بن عمر (ت1350هـ) المسمى باسم والدتها علوية بنت ابي بكر خرد، ومصلى بلفقيه لعلوية بنت عبد الله بن حسين بن سهل، ومصلى عرفانه لمسعد بنت محمد عرفان، ومصلى جنيدة، ومصلى حبشية، ومصلى مشهورة، ومصلى مزروعة([15])، فكل هذه لها اوقاف عرفت ام لا لم تعرف!، ضيعت او تلفت او استولى عليها.
وحالنا اليوم وقد ضعفت التربية الدينية وغاب الوعي الاسلامي وشاع الجشع المادي والتخلف والانحطاط بين المسلمين ادى الى جمود الاوقاف، وظهر السطو والاعتداء عليها، مع تشويه صورتها، وحل بالوقف والاوقاف الامراض والعوارض الجانبية التي حلت بالمسلمين عامة مع الجمود والتأخر والتخلف، وتسلط على الوقف الظالمون والعابثون والظلمة والفساق ([16])، وقبل ان اختم الحديث نرفع بعض التوصيات بخصوص ذلك منها:
ــ احياء ثقافة الوقف من خلال التعريف بدوره التنموي وبتاريخه وفقهه ومنجزاته التي شهدتها الحضارة الاسلامية.
ــ استثمار المشاريع الوقفية وتحويلها الى منتج ثقافي فكري.
ــ انشاء صناديق وقفية تسهم في تحقيق التنمية كتلك الصناديق في الدول العربية كالكويت والامارات.
ولعلنا نرى في الاعداد القادمة من يتحفنا بنماذج اخرى من الاوقاف في مناطق حضرموت الاخرى، او من يتصدى للكتابة في موضوع النظارة في الاوقاف في الفقه الاسلامي وتطبيقاتها على واقعنا الحضرمي، ولعل غدا لناظره قريب، والله الموفق.
الهوامش والتعليقات:
([1]) الشلي، المشرع الروي 1/264.
([2]) باغوث، الدرر الثمينة 73.
([4]) ابن هاشم، الدور الكافي 103.
([5]) العاني، احياء دور الوقف لتحقيق التنمية 165، كتاب الامة (135).
([6]) بامؤمن، الايلاف في تاريخ بلاد الاحقاف 202 ــ الكاف، السيد شيخ الكاف 139.
([7]) العاني، احياء دور الوقف لتحقيق التنمية 180، 181.
([8]) بلفقيه، تذكرة الباحث المحتاط 19، 20، 60 ــ 62.
([9]) خالد محمود، ظاهرة وقف الكتب 57، 58 مجلة اوقاف (24).
([10]) ابن هاشم، الدور الكافي 103، 129.
([11]) بلفقيه، من اعقاب البضعة المحمدية 24.
([12]) بلفقيه، تذكرة الباحث 61.
([13])بلفقيه، من اعقاب البضعة المحمدية 28 ــ 35.
([14]) بيليجي، اوقاف النساء 94، مجلة اوقاف (19).
([15]) باغوث، الدرر الثمينة 199 ــ202.
([16]) الزحيلي، مشمولات اجرة الناظر المعاصرة 11، مجلة اوقاف رقم (6).