تراثيات
عبدالرحمن بن حسن السقاف
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 2 .. ص 122
رابط العدد 2 : اضغط هنا
لم يكن الثعلب يجرؤ على دخول القرية بالنهار وأما بالليل فقد أعتاد أن يأخذ جولة سريعة يمر فيها على حظائر الدجاج بالقرية عله يجد ثمرة خطاء أو غفلة عن إغلاق حظيرة أو حماقة ارتكبتها دجاجة فكرهت أن تبت ليلة مع ضرّاتها في بيت الزوجية حينها يتولى هو عقابها باقتناصها والهرب بها إلى الجبل . …
في يوم من نهارات الصيف القائظ كان الوقت بعد الظهيرة تجرءا الثعلب على الاقتراب من أطراف القرية كان الناس قد دخلوا بيوتهم , وبعد جولة مسرعة في الجو الحار قبل أن يصعد الى الجبل توقف هناك خلف الديار ليستريح قليلا ويسترد أنفاسه , كان أمامه حمارًا مطأطىء الرأس يبحث في روثه عن بقايا القش ليأكلها وأخذ يدور بتكاسل حول مربطه بلا انقطاع فحفرت حوافره حفرة دائرية في الأرض تحيط بمربطه كان الحمار يكرر البحث في المكان الذي سبق أن بحث فيه من قبل كان يستخدم شفتيه الغليظتين بمهارة و صبر في التقاط فتات القش , وهكذا في كل مرة يضطر لالتقاط القشات الأصغر مر عليها من و كانت لا تستحق الالتقاط في المرات الماضية .
كان الثعلب ينظر الى الحمار الهزيل فإقترب منه وقال له: أراك تعيد البحث عن فتات القش الذي لم تأكله من قبل .. وها أنت تعود لتأكل فتات الفتات المدفون تحت روثك …مسكين أنت أيه الحمار ! تقوم بالأعمال الشاقة , وتحمل الأثقال لهذا الإنسان الأناني ويركب على ظهرك فتوصله الى الأماكن البعيدة .. وعندما ما توصله يجلس في داره مع أسرته حيث الظل والطعام و الشراب .
بينما أنت تجلس منفراً تدور حول نفسك تبحث عن قش لا يسمن ولا يسد جوعك ..
أنت لا تعرف أنه هناك في الوادي خلف ذاك الجبل توجد المراعي من الحشائش المختلفة و الأشجار الظليلة التي ترعى فيها الحيوانات والدواب وهم في صحة جيدة وحياة مترفة ..
وأنت هنا في هذه الحالة البائسة …لا تجد ما تأكله ولا تجد ما تستظل به ولا تجد من يؤنس وحدتك ..
كان الحمار يستمع ولكنه يقول في نفسه ما شأنه بي .. فتارة يقول أنه ناصح مخلص وتارة يقول أنه محتال لقد سمعت الكثير من الحكايات عن مكر وخداع الثعالب ..
كرر الثعلب محاولاته في إقناع الحمار .. وقال له لست أنت الحمار الوحيد الذي غادر هذه القرية التعيسة و لم يرجع إليها ..وفضل السكن بالوادي الخصيب حيث الأكل و لا واجبات ولا عمل ولا حمل ولا مهانة و لا أمر و لا نهي , كانت تدور في رأس الحمار أفكار كثيرة ويرى أنه من الصعوبة بمكان أن يختفي من حياة سيده ويتركه وهو بأمس الحاجة إليه ومهما حصل فهناك كثير من المواقف الوديَّة التي لا تُنسى كذاك اليوم الذي ضرب السيدُ ابنَه عندما تركني في العطش نهاراً كاملاً لم يحضر لي الماء كعادته , و لا ينسى كلمة قالها سيده يوماً عندما كان ضيفاً في قرية بعيدة أنا ضيفكم وحماري أيضاً فأكرموا حماري فهو الذي أوصلني إليكم .. ولا يمكنني أن أصعد إلى منزلكم قبل أن أطمئن على طعام حماري وشربه ومكان مبيته ..
كان الحمار مقتنعًا أن الثعالب لا يمكنها أن تعتدي على الحمير فهي لا تجروء على ذلك ..ولكن هل يكون الثعلب ودوداً و ومخلصاً عندما يلِح عليّ في الذهاب الى الوادي الخصيب خلف الجبل ؟..
كانت الأفكار تتنازع الحمار ..عندما كان هكذا سارحاً في هواجسه شارد الذهن لا يؤدي واجباته المعتادة و فتكررت منه حركات غير لائقة ..فغضب السيد على الحمار و أراده أن يشد انتباهه فضربه ضربةً أشد مما كان يفعل وكان الحمار يحتمل تلقي الضرب ويعتبر الضربات على أنواعها لغةً للتفاهم بينهما .
ولأن حركات الحمار صارت مزعجة فقد تلقاء جزأها ضربات أشد من المعتاد في هذه المرة تظاهر الحمار بالألم والشعور بالإساءة من سيدة وعبر عن استيأه بالامتناع عن الطعام ..
كان الحمار يخطط ويفتعل سبباً لهربه ..و يصبر نفسه قائلاً سأجوع حتى يلوما أنفسهم إذا أنا اختفيت من حياتهم إذا أنا جُعت قليلاً فإني عما قريب سأكون في الوادي الأخضر وسأعوض ذلك وسوف اشغل نفسي بالأكل فقط ليس هناك من عمل غير الأكل .
في آخر الليل مَرَّ الثعلب على الحمار و قد رتب معه من قبل لهذا الموعد فقرض الثعلب حبل الحمار وسارا والقرية في سكون وكانت كلاب في أطراف القرية تنبح ولكن اختلطت عليها رائحة الحمار برائحة الثعلب فلم تتقدم إليهما وسار الحمار خفيفًا بلا حمل خلف الثعلب الذي أمتد ببدنه وذيله ملامساً للأرض كأنه يسبح عليها .
وصل الثعلب و الحمار بعد الفجر بدى الوادي اسوداً أكثر منه أخضراً لا أصوات غير زقزقة الطيور ..قال الثعلب للحمار عليك بالأكل في هذه المنطقة ولا تبتعد كثيراً عنها وأحذرك من أن تنهق فإذا أنت نهقت سوف تأتي الوحوش الكبيرة وسأكلك .. عاش الحمار منشغلاً بالأكل ولم يجد من الحمير لا ذكر ولا أنثى كان يتوقع أن يصادف أحد الحمير التي غادرت القرية من قبل إنه يتذكر إحدى الدواب اللاتي غادرن القرية منذ زمن تحن نفسه للقائها لقد شبع و امتلأت بطنه وأحس برغبة جامحة للنهيق .. ولكنه كان يكبح هذه الرغبة عندما يتذكر تحذيرات صديقه الثعلب . كان يقول في نفسه ما فائدة الطعام إذا أنا لا أتمتع بالحرية ولاستطيع النهيق . أريد ان اثبت وجودي في هذه الأرض الجديدة أريد ان تكون لي زوجة أريد ان يكون لي أبناء ..أنا هنا غريب مَنْ يحس بي و أنا صامت مكبوت هكذا ..
هنا في الغابة ليس بين سكانها قانون للتعامل سوى أن القوي يستبد بالضعيف و أنا الآن قوي و أنا أكبر من الكثير من الحيوانات إلا أنني أرى أنهم يستخفون بي وبقوتي وهم يروني دائما صامتًا أنهم لا يعرفونني .
جاء الثعلب يتفقد الحمار .. فقال الحمار يا صديقي إنني بحاجة إلى نهيق ولو نهقة واحدة .. إنني أحس بكبت يمزق أحشائي فلو نهقت مرة سيخف عني ما أعانيه .
قال الثعلب لقد حذّرتك من خطورة ذلك .. رد الحمار إذن سأموت فقال الثعلب إذا كنت ولا تستطيع مقاومة هذه الرغبة عليك أن تنهق نهقة واحدة ثم ترتمي في الأرض كأنك ميت أريدك أن تبدو للوحوش إذا أحاطت تبدو ميتاً ليس به أي حركة .. و أنا سأتصرف لأحميك ..
أخذ الحمار نفساً عميقاً فأطلق نهقة مدوّية تنبهت لها وحوش من أطراف الغابة و جاءت إلى مصدر الصوت تتشمم رائحة هذا الحيوان البطر ..
نظر الثعلب إلى الحمار ورأى عظام أضلاعه بادية وقدَّر انه بحاجة إلى بضعة أشهر ليكتمل سمنه .. حامت الوحوش حول الحمار فوجدته ميتا فعافته وانصرفت واستطاع الثعلب أن يبعد الحيوانات الصغيرة و عندما تفرق الجمع بسلام .. قام الحمار و قد أحس أنه قد تنفس من كبته و أحس أن رئتاه و حنجرته قد استعادت طاقتها . و لم يرى الوحوش عندما أحاطت به كان مغمض العينين و رأى في نفسه قدرة على تمثيل دور الميت و صارت عنده قناعة بأن هذه المغامرة لست بالخطرة و انه من ممكن أن يكررها إذا وجد في نفسه الرغبة في النهيق .
أما الثعلب فقال له لقد مرت هذه النهقة بسلام ولكني أحذرك من النهيق مرة أخرى لقد عرفت بنفسك أنك لم تنج منها لولا حيلة التي علمتها لك ..ولكن الخدعة لن تنطلي على الوحوش مرة أخرى ..
بعد بضعة أشهر
عاود الحمار شعور جارف للنهيق لا يستطيع مقاومته .. وعندما جاء الثعلب قال له إني أحس بالاختناق أريد أن أنهق .. نظر الثعلب إلى الحمار فبداء له سميناً ممتلئ البدن .. فاستجاب للحمار وقدر حاجته الطبيعية للنهيق ولكنه قال له لقد علمتك الحيلة ولكن إذا لم تمر حيلتك على الوحوش فلا تلمني و لكن لُم نفسك .صحيح أن ملامحك قد تغيرت ولن يخطر ببال أي منهم أنك ذلك الحمار إنما أنت حمار آخر ..
أخذ الحمار نفساً عميقاً و أطلقها نهقة منكرة دوَّت في أرجاء الغابة فتنبهت لها الوحوش واستنفرت و جاءت من أطراف الغابة بقي الثعلب قريبًا من الحمار وعندما اقترب الأسد يتحسس أنفاس الحمار , نخس الثعلب الحمار تحت بطنه فتحرك حركة لا إرادية .. فأنقض عليه الأسد وأمسك برقبته .. وعندما فتح الحمار عيناه وقد خارت قواه في مقاومة الأسد في مقاومة الأسد رأى أمامه الثعلب مزهوا بنجاح خطته .. بعد أن أكلت الوحوش بالترتيب كل حسب مقامه اقترب الثعلب و أخذ ينهش لحم صديقه الحمار …