شخصيات
سالم بن عبدالقادر باحميد
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 3 .. ص
رابط العدد 3 : اضغط هنا
هناك خمسة ( بعدد أصابع اليد الواحدة ) من رجالات وأساتذة التربية والتعليم الأُول في بلادي، الذين رحلوا اليوم عن دنيانا ، كان لي في أيام حياتهم شرف التلمذة على أيديهم ، ومزاولة مهنة التدريس تحت رعاية واحد منهم .
كان أولئك جميعهم مع أساتذة آخرين أيضاً منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، قد حملوا الرسالة التعليمية بالأمانة والالتزام، وكان لهم الدور الأساس في وضع ……… صرح التعليم النظامي الحكومي، وحمل مشاعل النهضة التعليمية في بعض المدن والقرى على امتداد مناطق السلطنة الكثيرية .
فأولئك الأساتذة الخمسة هم :
الأستاذ أحمد محمد بن صافي ، والأستاذ مصطفى أحمد عبود ، والأستاذ سالم عبدالقادر باحميد وهؤلاء هم الذين تتلمذت على أيديهم ووجهوا كل طاقاتهم وأوقاتهم نحو التعليم ، ووضعوا مع غيرهم الأحجار القوية لأساسه المتين .
أما المدرس الرابع لي ، فكان مع افتتاح الصف الأول لمدرسة سيؤون الثانوية ( ثانوية الصبان ) اليوم وذلك عام 1965م هو العالم والمؤرخ والشاعر السيد محمد بن أحمد الشاطري، فقد كان يعطينا القدوة عندما يسدي إلينا النصائح والتوجيهات لا الحديث عن أهميتها .
وكان المدرس الخامس الذي عملت معلماً لأول مرة تحت إدارته فهو الأستاذ محمد محسن الهادي ، فهو أول مدير أعمل معه بعد تخرجي مباشرة من الثانوية العامة لسنتين 69 / 1970م و 70 / 1971م ، وكنت بموجب توجيهاته وتحت نظره ادرس وأطبع فنون مهنة التدريس وأصولها، ذلك عندما مديراً لأكبر مدرسة ابتدائية في ذلك الوقت هي ( مدرسة الأخوة والمعاونة ) بتريم .
اسمحوا لي – أيها الأخوة – الآن أن أركز حديثي وأخصصه عن الذي اجتمعنا الآن بسببه لإحياء ذكراة العطرة ، وهو المربي والمعلم الحقيقي في عطائه وقدرته الذي أسهم إلى جانب مهنة التعليم التي عاش فيها الشطر الأكبر من عمره بجهد افر وهو أداء الدروس الوعظية الدينية في عدد من مساجد سيؤون ، فلم ينعزل عن الناس بعد تقاعده بل ظل المسجد بالنسبة له هو المكان الأمثل للجلوس والاختلاط بالناس فيه .
يعتبر أستاذنا القدير الذي نجدد ذكراه في هذه الأمسية رائداً من رواد التعليم النظامي الحكومي ، إذ كان ضمن كوكبة من معلمي الأجيال ، ذكرت البعض منهم قبل لحظات وأذكر الآن أيضاً : الأساتذة الأفاضل : عبداللاه بن محمد بارجاء ، محمد عبدالرحمن مولى الدويلة ، محمد عبداللاه العيدروس ، عطاس حسن الجنيد ، خالد عيدروس فدعق ، سالم عبدالرحمن السقاف ، عقيل محمد السقاف ، طه أبو بكر السقاف وغيرهم .
وعلى الرغم من أن هؤلاء قد بعد بهم العهد ، ومضت عليهم العديد من السنين ، فإنهم لايزالون حتى اليوم ماثلين أمامي، متذكراً هيئاتهم وعطاءاتهم التربوية والتعليمية الصفية واللا صفية بكل دقائقها وتفاصيلها ، وقد حرص كل هؤلاء على هذه الوظيفة – وظيفة التعليم – والتمسك بها حتى بلغوا سن التقاعد لأنها مصدر دخلهم الأساس في ذلك الوقت .
باشر الشيخ سالم رسالة التعليم في وقت مبكر من حياته، وكان في ذلك الوقت هو وزملاؤه من المعلمين جلَّ اهتمامهم الأول هو نشر التعليم ، بل كانوا أكثر الناس عملاً وأقلهم كسباً، فكان راتبه لا يزيد عن ( 225 شلن ) وعلى الرغم من هذا الراتب الزهيد فقد ظل مصراً على العمل بحقل التربية والتعليم ، قاصداً بدلاً عنه العمل الإداري المكتبي؛ لأنه يرى في ممارسة التعليم إثبات وجوده وشعوره بأنه حي ، فقد كان يؤدي حصصه الدراسية كما عرفته وهو في غاية الانشراح .
في عام 1952م كان يدرس ثماني حصص بالمدرسة الابتدائية الحكومية بسيؤون، وما بقي من نصابه من حصص يصرفه للعمل في مصلحة المعارف كاتباً بها ، وعندما طلب منه التحول إليها بصورة دائمة رفض رفضاً قاطعاً قائلاً لناظر المعارف في رسالة وجهها إليه : ( إنني متلذذ بالتدريس أكثر من لذتي بالكتابة في المكتب ) .
وعندما عين مراقباً في امتحان القبول بأحد المدارس في قرية بالوادي – وادي بن علي – رفض الذهاب إلى تلك القرية عبر خطابٍ وجهه إلى ناظر المعارف بتاريخ 6/ أبريل / 1963م قائلاً له فيه : انكم وضعتموني في قرية الوادي ، هذه القرية المشؤومة التي شوهت سمعتي وسمعت زملائي التي لا أقدر أن أعيش فيها لساعة واحدة .. فضلاً عن ثلاثة أيام ، إنني مستعد لنقلتي للمراقبة في أي منطقة أخرى إلا هذه المنطقة لأن لي فيها ذكريات تجعلني أقاطعها مدى الحياة ، فالرجاء أن لا تعتبروا اعتراضي هذا معارضةً لأوامركم ولكن كمعروف تسدونه إلي . وإني ألفت نظركم إلى أن السقاف بن أحمد أخبرني بأن يوافق على نقله إلى هذه المنطقة إلى الوادي ، فالرجاء تحويله بدلاً عني أو أي شخص آخر ) .
والسؤال الذي يطرح نفسه جلياً : لماذا الشيخ سالم كان غاضباً أشد الغضب على تلك القرية ؟ ولماذا كرهها كل ذلك الكره بحيث صمم على مقاطعتها مدى الحياة، حيث أعرب بكل وضوح عن استيائه الشديد وألمه العميق منها غير أنه لم يكشف عن نوع ذلك التشويه لسمعته وسمعة زملائه ؟ كما لم يذكر السبب الذي جعله يدير نظره كلياً لتلك القرية المشؤومة على حد قوله في رسالته . فأصبح الموضوع وحقيقته حتى اليوم سراً عند جهينة .
والجدير ذكره أيضاً هنا أنه عمل مدرساً في المدارس التابعة لمدارس النهضة العلمية الأهلية بين عامي 1949م – 1950م، وهي أول مدارس للتعليم الأهلي بسيؤون، ثم عمل بمدارس الابتدائية الحكومية والمدارس الوسطى بسيؤون أخيراً .
حضر الأستاذ سالم والتحق بكثير من الدورات التدريبية ( الكورسات ) لمعلمي الدولة الكثيرية وذلك من عام 1951م واستمرت حتى عام 1961م، وقد أشرف عليها وقام بها أساتذة أفاضل منهم : الأستاذ عبدالقادر باحشوان والأستاذ علي محفوظ حورة ، والأستاذ أحمد موسى الملاحي أستاذ مادة الفنون التطبيقية ( الأعمال اليدوية ) وهؤلاء الثلاثة من سحل حضرموت .
كما شارك في التدريس في هذه الدورات من وادي حضرموت الأساتذة :عبداللاه محمد بارجاء ، وأحمد محمد بن صافي ، وأحمد بن حسن العيدروس .
عمل الأستاذ بالمدرسة الوسطى بسيؤون عندما أصبح مقرها ( بنداعر ) مدرساً وضابطاً بالقسم الداخلي بها ، فعندما تقدم السيد أحمد بن جعفر السقاف بإستقالته من وظيفة ضابط الداخلية بالمدرسة الوسطى عام 1961م تم تعيين الأستاذ سالم باحميد ضابطاً للداخلية خلفاً له ، واستمر في هذه الوظيفة لمدة أربعة اشهر تقريباً حيث جاء بعده الأستاذ محمد عبدالرحمن مولى الدويلة ، ثم الأستاذ أحمد بن حسن العيدروس ، ثم أعيد تعيين الأستاذ سالم مرة ثانية ضابطاً للقسم الداخلي في الوقت الذي كان يشغل فيه وظيفة مدير المدرسة الإبتدائية بحوطة أحمد بن زين .وفي عام 1966م وفي عهد الأستاذ علي بن أحمد السقاف ناظر المعارف وقتها عليه رحمة الله تم تعيين الأستاذ حسين بن عبدالله المشهور مشاركاً ومساعداً للأستاذ سالم في إدارة شؤون القسم الداخلي .
بقيت هناك أيها الأخوة : قصة ظريفة من قصص الذكريات بيني وبين الأستاذ سالم ظلت عالقة في الذاكرة حتى اليوم . والذكريات أمانة في عنق صاحبها ولا بد أن يقولها كما كانت وكما حدثت .
عندما كنت طالباً في الصف الثاني بالمدرسة الوسطى كان الأستاذ سالم مدرساً بها وضابطاً بالقسم الداخلي والمدرس المسؤول على جدول الكنس الأسبوعي بالصفوف الدراسية .
كنت من الطلاب المستهترين بالالتزام بيوم الكنس المحدد لمجموعتي في جدول الكنس الأسبوعي العام، وكان الطالب الرئيس عليَّ هو الزميل العزيز الأستاذ الدكتور سالم بن محمد بن قاضي، ولتكرار تغيبي الملحوظ والمزعج عن أداء واجب الكنس اضطر الزميل سالم إلى الشكوى بي عند الأستاذ سالم عليه رحمة الله .
وفي أحد الأيام دخل الأستاذ سالم علينا في الصف وقبل أن يبدأ درسه وقف منتصباً كصارية مركب أمام السبورة متجهماً وغاضباً موجهاً سؤاله لجميع الطلاب وبصوت عالٍ قائلاً ( أين محمد علي باحميد ؟ ) فوقفت على الفور وبأدب جم رافعاً يدي، فنظر إلي وعيناه تتطاير شرراً سائلاً إيَّاي : لماذا أنت لم تلتزم كبقية الطلاب في يوم الكنس عندك ؟ وهل أنت تعتقد لأنك من آل باحميد سأتغاضى عنك ولن أعاقبك ؟ وفي أثناء غضبه .. وعصبيته وثورتة تلك لم أردّ عليه بأي كلمة بل التزمت الصمت المطبق . واستمر يزبد ويرغي حتى فاض به الكيل فبدأ يرفع أكمام شميزه عن ذراعيه ويتحرك جيئةً وذهاباً أمام السبورة مطلقاً صاعقته المدوية قائلاً : ( وإن شيء في كراعك مخ نزله ) .
والطلاب في تلك اللحظة من صعوبة الضحك كانوا ينظر بعضهم إلى بعض مندهشين تأكلهم الحيرة من هذا الانفعال . بينما أنا بقيت قائماً أنظر إلى أسفل ولم أنطق ببنت شفه . ثم بدأ الأستاذ سالم يهدأ ويتراجع ويتبدد غضبه مبتدئاً درسه الممتع كعادته .
من بعد هذا الموقف الفريد العجيب التزمت بالكنس مع زملائي مشاركاً معهم على الدوام وأصبح الجو صافاً بيني وبينه خالياً من كل خلاف . كما ظل هذا الموقف موضوعاً للتندر البريء في لقائي بأخيه الدكتور سالم بن قاضي وحدين حتى اليوم .
أخيراً – أيها الأخوة – لقد اختار الموت شيخنا وأستاذنا بعد أن أصابه الوهن وفاض به العمر الذي قدم خلاله الخير الكثير وعاش فيه حياته متواضعة للغاية ، وتسلحت على يديه فيه أجيال العلم والأخلاق والأدب وتشبعت بالقيم الإنسانية تقدس العمل وتعرف قيمة الوقت بالرغم من أنه كان معلماً لم يلبس من أثواب المناصب الأكاديمية ، ولا يحمل من الدرجات العلمية البراقة ولا الألقاب الرنانة ، إنه معلم قدير كانت له أساليبه وطرقه البسيطة المخلصة لاكتشاف قدرات تلاميذه .
إن مدارسنا اليوم تشكو من خلوها من مثل هؤلاء المعلمين راسخي القدم في موادهم ، ذوي التأثير الواضح القوي الذي يتمتعون به .
رحم الله أستاذنا وشيخنا رحمة الأبرار .. دعاء أكرره كلما هاجت بنا ذكراه الخالدة الطيبة .