أ. صالح حسين الفردي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 3 .. ص 70
رابط العدد 3 : اضغط هنا
يتفرد الشعر الشعبي بمزايا كثيرة، ليس أدانها استخدامه للغة الحكي اليومي التي تعد واسطة قادرة على حمل رسالتها المرغوب فيها إلى شريحة كبيرة من المتلقين، وليس أعلاها القدرة على التقاط العابر والمهمل وغزله وحياكته لباسا شعرياً ثرياً، وهو ما يجعل مهمة الشاعر الشعبي صعبة التحقق وعديمة الجدوى، إذا لم تكن لغته شفيفة مموسقة تعيد تشكيل المحكي الفاتر وصياغته ونسجه بقوالب وطرائق تشكلية تنزع عن اللغة قشورها وصولا إلى اللب الطازج في شكل القصيدة الأخير، وبما يستفز في المتلقي قدرته على المجاراة والمتابعة والفهم الإيحائي لهذه اللغة اليومية في تشكلها الشعري الجديد.
الأعمدة الثلاثة لقصائد المساجلات:
قصائد المساجلات في الشعر الشعبي لها خصيصة أخرى تضاف إلى ما سبق ذكره، ذلك أنها تعتمد في نجاحها على أعمدة ثلاثة، شاعران بينهما حوار ومتلق، وتأخذ من فن المسرح تقنية الحوار الذي يسهم في إثارة الصراع واحتدامه، نظرا لتناقض الرؤيتين للموقف الواحد، في مشهد مسرحي مكتمل الأبعاد، توظف فيه كل إمكانيات الممثل – الشاعر- من تغير في نبرات الصوت بين العلو والدنو، بين الهمس والجهر، واستخدام تعابير الوجه وملامح التغيير، إضافة إلى الإيماءة بحركة الجسم، وإشارات الأيدي، وقد يعمد البعض إلى استخدام العصا، كباحريز، مشيراً بها، في مواجهته لخصمه، ويبقي جمهور المشاهدين مكملا لهذا المشهد الشفاهي الشعري، وهو الذي يمد الشاعرين بوقود المواجهة، وإكسير التحدي، في جدلية صراع ثلاثية الأبعاد ثنائية التقسيم، ففي حين يكون لكل شاعر وجهته يدخل الجمهور كطرف ثالث في خيط الصراع ليثري المواجهة، فتصبح مهمة الشاعر كسب القاعدة الجماهيرية المترقبة للصراع والمواجهة، في حين ينقسم الجمهور إلى جمهورين ينحاز كل منهما الى أحد طرفي الصراع، اقتراباً من رؤية شاعره المرغوب فيه، وابتعادا عن الشاعر الآخر ورؤيته المرغوب عنها .
الصراع في مساجلات ناجي – باحريز :
وردت هذه المساجلة في الصفحتين (122- 123) من كتاب ) :باحريز فارس المدارة، بعض من أشعاره(، للزميل مجدي سالم باحمدان، ووسمها بعنوان: (عناد)، وهي مساجلة استهلها الشاعر ناجي، كعادة الشعراء في هذا الضرب من شعر المدارة، بالحمد والشكر لله عالم الغيوب ومقسم الأرزاق، وواهب كل شيء، والصلاة والسلام على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وقد يمتد هذا المدخل التمهيدي إلى سلامات متعددة أخرى وفق مشيئة الشاعر، إذ يقول ناجي :
ابدي برب العرش لي هو يدري ويعلم كل شي
في الكون كاين ولي هو عاده إلا با يكــــــــون
مـــاشي يفوتــه أبدا وعليه ما شي يختفـــــــي
لي فرطوا في عمالهم ما العذر ما بايحاسبــون
يــــا ربنا عفوك وامانك يا مهيمن يا قـــــــوي
استر علينا باسم لاخوفا علينا ولا هم يحزنون
وألفــي صــلاة الله على احمـد النبي الهاشـمـي
صلاة ما أذن ورحم وما هم في المساجد يأذنون
والأربعـــة الخلفـــاء ابوبكـــر وآخرهـــم علــي
يذهب ناجي إلى الإمساك بلحظة السكينة التي نثرها على جمهور المتلقين بحمده وشكره وصلاته، محاولاً استمالتهم إلى موقفه، مفنداً أهمية ما لديه من بيان يصف الواقع والحال، فالليلة ليلة مهمة تضع الجميع أمام ضرورة التمحيص في الاختيار، مظهراً يقينه بما يحمله من موقف يراه هو الذي ستكون له الغلبة :
ما الليلة إلا يا سماء صبي ويا قــــاع ابلعي
العيد ده بمناسبة تصحيح ما عــــــاده بقي
ومن العهود القادمه لي هي تحير بالدهــــون
وصراع قع ما بين ده يا صاحب شفهـا ودي
لمان رجحت كفة الميزان عاللي يوزنــــــون
صدقت وعرفت الخبر واقع وكله با يجــــــي
والجو بايمطر وباتخضر ورقها والغصـــــون
وقلت با رنح في ارضي يا قوي قع لي قـــوي
والموت عالعزة خير من عيش عا ذله وهون
إذن هذه إطلالة ناجي الاستهلالية الأولى للتمهيد لعرض قضيته على الحضور، وقد استخدم فيها كل القاموس اللغوي الروحي للتأثير على المتلقي، ومن هنا بدأت المواجهة، إذ عمد الخصم الشعري – باحريز – إلى استرجاع صدى التأثير الذي تركه استهلال ناجي :
با سين بسم الله باسبـر بسبحان الــــــذي
يسمع ويعلم بالقلوب بما يخالف الظنــون
عفوك وستر الحال وعليك العباد يتوكلون
يا رب ترزقنا بحسن الخلق والحظ القــوي
واجعل حياتي صالحه للخير كله والسكون
وكل شي يفنى وحكم الكون في كاف ونون
وكل من يعز الله ورســـوله يصلي عالنبي
ويعلق لســـــانه بذكر البدر يا للي تسمعون
لي قال يــارب أمتي مني ونــــــا من أمتي
حبيبنــــــا وشفيعنا يوم الخلايق يحشرون
سلام مني عا رجــــال الفعل لي ما تعتضي
وسلام لش يا زينة الأموال وحياة البنـون
وبنظرة عجلى على مفردات، ومعاني الاستهلالين للشاعرين، نجد أنهما يمتحان من نبع قراني، وسنة مطهرة، ولا يهمل كل شاعر التلويح للآخر بما يراه نقيصة فيه، وتقوية لموقفه فناجي يقول معتداً بنفسه :
في حين يغمز باحريز إلى قناة ناجي بالقول :
وتصبح العاصي مطيــــــــع يا من يطيعك كل شي
وهاتان الإشارتان تتناسلان تفصيلاً، وتتسعان تناقضاً، بين رؤيتي الشاعرين، إذ تأتي لحظة المواجهة وعرض كل طرف لرؤيته في الخصومة فيقول ناجي :
ذلحين باسبر وبفتح في كتابي لي معي
والله با يشهد وخلقه كلهم بـــــا يشهدون
يا آل باكده ليه ما بغيتوا الحليف الجابري
اتناقدوا واتراجعوا إن كان بـــا تتراجعون
وين الضحك والكشكشة وين الكــــــــلام الأولي
وفيين ذاك المسك والماء ورد والعود الدخـــون
نا ما جعلت الـــزين كله لي عبر بـــــــــا ينتسي
ولا جعلت عاد حد با يرخص الغالي بدون
لقد فتح الشاعر ناجي كتابه الشعري، واضعا قضيته، وهي محور الحديث، وغاية الصراع، ومنتهى الإقناع، والتي تتمثل في رغبته في الاندماج والتماهي في الكل، فهو غير مرغوب فيه، على الرغم من كونه الحليف الجابري، الذي كان مقبولا، ومرغوبا به في زمن مضى، (وين الضحك والكشكشة وين الكلام الأولي، وفيين ذاك المسك والماء ورد والعود الدخون)، وتلاشي هذه المعاني، دفع به إلى التساؤل بحسرة جريحة للطرف المناهض: ( نا ما جعلت الزين كله لي عبر با ينتسي، ولا جعلت عاد حد با يرخص الغالي بدون).
وطالما فتح ناجي دفتره الشعري عارضا قضيته، كان لابد لباحريز، أن يمهد لدفاعه ودحضه لكل ما جاءت به عريضة دعوى ناجي إذ يقول :
غن يالمعنى خلنا باشوف ما عندي ولي
با صفي حسابي وبا تعقل كما لي يتعقلون
لا تعدل الميزان من صاحبه مابا يستحي
ولا الكفف با تساعد البياع عاللي يشترون
وهنا نلحظ الشاعر باحريز يستعجل المغني بشل الصوت، متعجلا الرد، لعرض ما عنده من حقائق، وما له من حساب يجب أن يصفيه بتعقل وحنكة، حرصا منه على العدل في الخصومة، ملمحا إلى أن الكفف، أي الادعاء بالباطل، لا تستطيع تمرير بضاعة البائع على المشتري الحذق ، إضافة إلى أن الشاعر باحريز يعلن عدم القبول والرغبة باندماج الآخر، (الجابري، الحوثري، ناجي)، كلها اسماء لعلم واحد، إلا بعد أن يصفي هذا الحساب، ويفتح الملف كاملا، وصولاً إلى لحظة الاعتدال في الميزان، وسيادة لغة العقل، التي ترضي الطرفين، فماذا كان لدى ناجي من حقائق جديدة لاقناع المتلقين :
يا ناس يكفي من غلط لا تغالطون الحوثري
انتم تساعتوا علي ومكانكم تتساعدون
إمعاد باصدقك حيال لا يــــــــــا لمنكري
ولعاد با امنك انتم ناس مـــــــا تتأمنون
غرفت لــــي في الدار كله دومنا هو والحتي
وريتنـا تجملت فيكم يا وسيعين البطون
هنا نجد الشاعر ناجي يضع رؤيته مفصلة متهما الجميع بسوء الفهم لموقفه والتقدير: ( يا ناس يكفي من غلط )، مظهرا أن الكل يسعى للإجهاز عليه، وعدم القبول به، والرضا عنه، محيلا هذا الموقف من الجميع إلى قدرة الداهية باحريز على خداعهم، وإظهار الحق باطلا، والباطل حقا لهم، وهي محاولة أخيرة من ناجي لشق عصا التعاضد مع باحريز، إيهاما لهم بان موقفهم هذا ليس أصيلا منهم، وأنما بتأثير (الحيال المنكري)، الذي لا يؤتمن شره، على الرغم من تقديمه لهم كل ما لديه: (وأنا من غرفت كل ما في الدار)، مندهشاً من موقفهم: (ولكنني لم اتجمل معكم يا وسيعين البطون) دال بذلك على حزب باحريز .
هذا الهجوم والتطاول وفتح جبهة الصدام على مصراعيها، وضع الجميع أمام ما سيأتي به باحريز من جواب :
انتوا بغيتونا رشــــــن وإلا بغيتونا طفي
وإلا نرويكم صحاب الكذب من لـــــي يصدقون
ما با تشوف العافية إلا إذا شربت الغافقي
وخرجت من طور الهوى لا سيرة الناس الزيون
ونرى كيف باحريز تعامل مع هذا الموقف الذي خلط فيه ناجي الأوراق، مرسلاً إشارته الأخيرة إليه، محذراً إياه بعدم الإغراق في كيل التهم ورميها جزافا على عترته وعصبته وشخصه، مبيناً استعداده للمواجهة، (انتوا بغيتونا رشن ولا طفي، نرويكم صحاب الكذب) وقد حدد لناجي أصول العودة والرضا( ما باتشوف العافية) إلا بماذا؟ بالخروج عن (طور الهوى لا سيرة الناس الزيون) حتى في الخصومة، ولكن هل استسلم ناجي لقواعد باحريز :
خاطــــرك با نكده يومك با تنكد خاطري
وعادنا با حرمك من ذيك التباسي والصحون
كلما ملينا ظرف رديته إلى مكانه خلي
وضيوم يم وغبون يم ومن الغبون الاغبون
ولكن الشاعر ناجي لم يستسلم، ويبقي على المواجهة مفتوحة، (خاطرك با نكده، بحرمك من التباسي والصحون) لماذا؟!، (كلما ملينا ظرف رديته خلي)، أي كلما جئنا بحجة أفرغتها من مضمونها، لذا ستظل الرؤى مختلفة، والمواقف متباينة، وقد كانت كذلك، واستمرت في حياة العملاقين الشعريين الفقيدين الكبيرين، ناجي وبا حريز، فأثمرت هذا النفس الشعري الثري العميق الدلالة القوي السبك، في زمن شعري منفتح، حواري النزعة، متعدد القضايا، معمق المعاني، في فلسفة حياتية مشبعة بثقافة دينية وحضارية وتراثية، يصعب على الكثير من مدعي الوعي والثقافة، والمعرفة اليوم البلوغ إلى سطح الهرم الذي صنعه هؤلاء الأفذاذ.