إبداعات
صالح سعيد بحرق
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 3 .. ص 106
رابط العدد 3 : اضغط هنا
بدايات في تيه الليل:
يبدو الليل بالرغم من قبحه متناغما مع ذاتي التي حملت سنوات الغربة والتيه ورفيقا إلى قلبي في ساعات يهدأ فيها الكون ويرسم خطواته الباقية إذ تلقي الاشياء بظلالها على نفسي من جديد تاركة حلكة الليل تسري أوصالها في أوصال انهماراتي وهلعي المتزايد.
ولم يكن هناك من بد في أن أتذكر ليلى التي تناغشت مع شذرات الليل وراحت تهيم في براري أساها مخلفة عند اصطكاك الحلم بالحلم توحدا مشوبا باليأس لا انساه أبدا كانت تبدو الآن كشيء بهي مختلف فتلك العينان المدورتان وذلك القوام النحيف الضامر وذلك الصدر البارز كانت كلها مكونات تطرد إلى أمد حلكة الليل الممتدة أوصاله في داخلي فأحاول أن استرد عافيتي قليلا وأغادر المكان وقد علقت بي ذكرى جعلت أشباح الليل توهمني أنني سائر إلى الجحيم إذ لامناص لي من البقاء وحيدا. وسمعت ليلى من غبش الذكرى تناديني تهبط مدرج الحلم وتنفخ في شبابتي تغريدة الليل وتهمي على جوانحي حبا وعشقا وأذوب في تفاصيلها الصغيرة وأضمها إلى صدري فتلجأ الى تلك الضحكة الطفولية حتى تطرد جذعي من أحضانها المبللة بوعدي.
أذهب إلى النافذة وأتركها على حرف السرير تقلب بصرها وتستزيد من رغباتي أو تلحظ اندفاعاتي إليها فتردها بشيء من اللطافة لكنني لم أدم طويلا إذ هجمت على خصرها وظفرت ببعض القبلات ثم تخلصت مني وأحسست حينها أن ظلام الأسى داخلي ينهار تحت توهجها.
كان وجهها يبدو شاحبا يمطر بالشجن دوما وكنت أسمعها وتحت انثيالاتي تهمس ببعض الكلمات كانت ليلى تواجه ليلا داميا داخلها فهي وإن بدت سعيدة معي في خلوتي إلا أنها تعيسة مريضة متناثرة الأوصال تكبح رغباتها الحقيقية قوة مبهمة خفية. وعندما أرادت الانصراف كانت تسعل وتنظر إلى وجهي بشيء من الإرتياب وتقول تلك العبارة التقليدية :إياك أن تخبر أحدا ثم توصد الباب ويتلقاها السلم الحجري البارد ويلفها الليل في عباءته وأنا أتابع سيرها المتعثر من شدة البرد ورهبة الظلام حتى يبتلعها ذلك الزقاق الوحيد الذي يعرف من أين تأتي.
وإظل أسترق السمع لخطواتها وهي تنأى بي في دهاليز الغياب والليل فأعطف على أشياء باهتة في القلب تخترق سدف الظلام وأرنو بعينين متعبتين إلى الأفق فلا أبصر إلا مابداخلي من وحشة الليل العظيم. وأستمر بالتجوال وحيدا علني أعثر على ملجأ أو ملاذ جديد , وأتذكر العم محمود في دكانه الصغير الذي يطل على وسط الشارع الكبير وتنفتح شرفته الخشبية على مداخل الحارات والأزقة والطريق وينتابني ذاك الحنين لليلى الجميلة فأتخذ من دكان العم محمود موضعا لملاحظة قدومها من زقاق الشوق الوحيد ويبدو لي أن المساء هنا مختلف بعض الشيء فتنزوي أشباح الخوف من داخلى لأتامل الناس والأشياء وليلى وأبحث عن سيجارتي فلا أجد بمعطفي إلا وريقات كتبت فيها بعض تراتيل الحنين . وتطالعني سحنة العم محمود ويفطن لما يدور بداخلي لكنه لا يقوى على الخوض في تفاصيل الآخرين ولما أجد أنه ينظر إلي شزرا ينتابني ارباك وشيء من حزناً جديداً فأحكي له بعضاً من شجني حتى أبدد وحشة الليل البهيم. ويتسع الليل ليملأ شجني بذكرياته المؤلمة ويعتصر قلبي الحنين إلى تباشير جديدة ولكني لا أستطيع أن أفعل شيئا سوى الاستسلام لينابيع الحزن وهي تتفجر من فلوات المساء الوحيد وأعثر على إضمامة قصيرة في جيببي وأقرأ فيها بعض خربشات طفولية ساذجة وممرات للأمل واليأس الدفين.
كانت دهشة الليل الخفية قد بدأت تقترب مني محاولة الخوض في تلافيف ذكرياتي إذ يفد علي في هذه الاسترخاءة طيف ليلى الجميل يكتسح رهبة الليل يبدد شبح الخوف يرسم ملامح طريق جديدة ويجيئني صوتها نديا كالقرنفل يترب رويدا رويدا داخلي فتتصدع جدران الأسى وأجلسها بجانبي في هدأة الليل تحدثني عن رحلة الإياب وعن آلام الطريق أصغي إليها بكل جوارحي وقدماها ترتجفان وعيناها تذرفان بدموع الفرح وقد أخذ شالها يضرب في عنقي وأنا أبعد لأرى مليا قسمات وجهها الوضاءة وتأخذني انهمارات شتى فأدنو عنقي منها فينهمر شعرها علي جسدي شلال ليل جديد لاحدود له.
وأغادر دكان العم محمود ..كانت الطريق التي أسلكها تفضي بي إلى خارج المدينة إلى متعرجات ترابية وإلى أبنية عتيقة قد هجرها أصحابها وأصبحت أطلالا وكان يحلو لي البقاء هنا وحيدا. أن العلو الشاهق يستحوذ على تفكيري وكذلك الفراغ والخواء وكم يروق لي الوقوف على نتوء مرتفع لأصدح بآلامي وتوجساتي أو أذوب في وحشة هذا السكون والليل.
وصلت إلى شقتي التي غادرتها وحيدا تستنزف طاقتي الذكرى والخوف والليل وتتجول في أروقة قلبي مجاميع هائلة من الإضطرابات والتكهنات لتسحقني من جديد وفي الطريق أبصرت بعض نسوة وأبصرت بعض طيور وأبصرت بعض صبية واوجفت خيفة من امرأة مسنة ومن فأرة مقتولة على ناصية الطريق وقبل أن أعالج المفتاح وأضع قدمي على السلم الحجري كانت عباءة الليل قد فصلت لتحتويني بأشباحها ثانية قبل أن أدلف إلى غرفتي ولكني استطعت أن أجد شجاعة ما لأتجاوز هذا الانكفاء وأن أتذكر كلمات العم محمود وليلى وكنت قد نسيت نافذة الغرفة مفتوحا فكان هناك خيط من الضوء يتسلل بحنان ويغفو على سريري الذي ملأت أطرافه الكتب وأعقاب السجائر وقوارير المياه المعدنية وبقايا ذكريات الليل.
واوصدت بقية الأبواب وهدأت روحي قليلا وأصبحت على أمل أن أقضي بقية هذه الليلة بلا خوف فقد غادرتني إلا قليلا تلك العتمات واسترجعت حديث ليلى ..قالت لي لا أود أن أتركك لكن الناس في قريتنا قد حشدوا أراء كثيرة لقتلي وناهضوني لأبتعد عنك ..كانوا يقولون لي إن هذا المهووس يقرأ في الكتب كثيرا وهي التي أصابته بهذه اللوثة كانوا يحذرونني منك ويصفعون وجهي كلما عدت من شقتك وينبذونني..أنا أعرف أنك إنسان طيب تحب السلام وتعمل من أجلهم ولكنهم لا يعلمون أين تكمن مصلحتهم وأجمل ما أحب فيك وحدتك وأنفرادك ووحشتك وهذا الليل الذي تعيش في كنفه وأود أن أبدد خوفك ولكنني لم أستطع فالموت يجتاحني كل لحظة أسير فيها إليك..
وسمعت خربشات على على جدار السلم ثمة من يرتقي الدرج ويصعد في لهفة محمومة إلي هكذا بدت لي اللحظة ..فنزلت من على السرير ومشيت بخوف وتوجس وقد اضطربت كثيرا والحق أنني أصبحت مذ أن أجتاحني الليل واضيئت قناديله في مسارب حياتي الخفية وأنا مصدوم بالخوف والقلق والانكسار خاصة من وقع الخطوات المريبة التي تذكرني بالشرطة
في ذلك اليوم اقتدت إلى المخفر بسبب نشاطي في الصحافة ومثلت أمام التحقيق العسكري ومن يومها ونذير الخوف يجثم على قلبي .
أخذت تلك الخطوات تقترب من مسمعي وصرت أتقرب أن تقرع الباب وقد لذت بمرجع ضخم ووضعته صوب وجهي كانت رائحة الإوراق الصفراء فيه تزكم أنفي وكنت أتململ تحت بوادر الخوف ولا أجرؤ على التقدم وكانت توقعاتي تقودني إلى رجال الأمن فمنذ أن سكنت هذا الحي وأنا أشعر بملاحظين يقتفون أثري وحتى حركات ليلى كانت كما يبدو لي مرصودة لديهم ذات مرة قالت لي
– حسن..اسمع لن أزورك مرة أخرى
– هل مللت من زياراتي
– كلا
– ولم إذن ؟!
– أشعر أن أناسا تراقبني
– كيف
– ذلك الرجل النحيف كان يقف لي بالمرصاد كلما ولجت شقتك وكان يسجل في ورقة ما كلمات لا أفهمها..انني أشعر بالخوف
– لاعليك..سأنزل معك عندما تغادرين
– لا أريد أن أغادر أريد ان أبقى هنا طويلا
فأضمها ليتلاشى قلقها وخوفها وننزل إلى المطبخ نصنع الشاي معا…
وتوقفت تلك الخطوات وسكن خوفي لأكتشف أنني كنت أمر بحالة من الاستياء والتذمر والقلق.
وراح خيال ليلى يفد على مشارف صحوتي وغيابي وينهمر تحت رغباتي ومناجاتي ويقيني الهارب فأنتظر مجيء لحظات أكثر حميمية لاتجانس معها وأبدد وحشة الليل .
ووجدتني أهفو إلى صورة ليلى على جدار غرفتي لتعيدني إلى حكاية غريبة يوم قالت لي:
– أتتزوجني زواجا عرفيا
– نعم حبيبتي أي شيء يقربني منك
– أولست قريبة منك بالقدر الكافي
– لا
– ماذا تريد إذن
– ان أقبلك حتى ينقطع نفسي
– ها ها ها فقط
كانت تلك الليلة غير عادية فقد تمكنت من رؤية تفاصيل جديدة لحبي وهرعت أسجل في كراستي العتيقة بعض الشعر قالت لي :
– ماذا تكتب
– أكتب عنك
– وهل تجرؤ على نشره في الجريدة
– نعم
– لكنهم سوف يفسرونه تفسيرا سياسيا
– لا أكترث
– وأنا أيضا لا أكترث
كانت ليلى تجلس قبالتي على حافة السرير وقد مضى على زواجنا العرفي شهرا كانت تفد إلى شقتي في أوقات من النهار ثم تنصرف قبل حلول الظلام فأنكفئ على تصور قوامها وحديثها حتى يغلبني النعاس أو أفيق على ليل يفترس قلبي.
أعرف أن قدري هو أن أعيش بلا امرأة بلا فكرة بلا قصيدة أن أعيش في ليل يمتد من داخلي إلى داخلي يفترش مسافات السعادة يعتلي ربوة الصدق والفرح الناغر في القلب.
وهممت على الوقوف على النافذة أخذت شالا يقيني البرد والخوف وأطللت على الأشياء كان هناك في الزوايا بعض الأجساد تتحرك في الظلام أحس أنها ترمقني وتتلصص علي فما الذي يبقيها حتى هذا الوقت سوى لتدبير مؤامرة لاغتيالي كنت أود أن أبكي كما فعلت ذات مرة على كتفي ليلى ، بكيت بحرقة ليس من تعب بل من خوف الآن أشعر أني بحاجة إلى البكاء لكن ليلى ليست هنا لقد أخرجوها قالوا إنها عاهرة لايجوز أن تبيت معك قدمت لهم أوراق الزواج لكنهم لم يتأملوه البتة حذروني من الكتابة في الجريدة عن أشياء ، بحسب زعمهم أنني لا أحسنها ونصحوني بعدم الخوض في قناعاتهم لذلك أحسست بالرغبة في البكاء فبكيت وفي اليوم التالي أتتني بطريقة درامية ليلى وقالت لن أهرب مرة أخرى سأبقى معك ، لكم تحتاج إلي وكان الليل يتمدد في داخلي ويرسم صوره البشعة في الروح .
ورجعت إلى السرير كان دافئا ومتسخا وكانت السيجارة الوحيدة ماتزال تحتفظ باستقامة عودها فأشعلت فيها الثقاب ورحت أدخن بنهم كان ثمة وجوه مخروطية تتبدى لي وأصوات حاقدة تصل إلى مسمعي وهتافات إلا أن صوت ليلى كان يمرق من بينها ليصل إلى دمي فأوقظه وأسأله عن الرحيل والغياب والليل .
كان الشارع قد هدأ من حركة السيارات وكانت أغلب المحال قد أغلقت ولم يكن هناك إلا فئران الليل والعسس وكنت أسمع بعض مراسلاتهم وبعض التعليمات بالانتشار هنا أو هناك كانوا يرعبونني ويعطون لهذا الليل مساحة إضافية ليتمدد في داخلي ويورق أشجانا وكمدا.
لا أذكر كم من الوقت قد مضى وأنا على هذي الحال لكن الساعة كانت تشير إلى وقت متأخر من الليل حين أحسست بيدي ليلى تمتد إلي عبر سدف الغياب ورهبة الليل والخوف والعسس فأطلقت يدي من اللحاف وحررتها من أسر الفراش لتقع على مواطن التذكار الدافئة …