حكايات
فائز محمد باعباد
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 3 .. ص 110
رابط العدد 3 : اضغط هنا
بين الحقيقة والخيال ، وبين قصيعر والبحر يروي الأجداد قصصاً لا تنتهي ، ليست العلاقة ودية دائماً ، البحر سر وجود قصيعر، فلولاها ما قامت بلدة في هذا المكان ، لكن البحر أيضاً أخذ من بيننا رجالاً لم يعدهم إلينا ، ولم يخبرنا أماتوا أم ما زالوا أحياء ؟
قبل ستين عاماً أو يزيد في قصيعر القديمة، البلدة التي كانت محاطة بأسوار وحصون وجنود، في المساء كان يتم إغلاق البوابة الرئيسة (السدة)، لتنام البلدة في هدوء.. ثم أول ما يتحرك في الصباح هم الصيادون الذاهبون إلى بحرهم،ثم تدب الحياة وتفتح البوابة ويبدأ يوم جديد .
في يوم من أيام فصل خريف كانت تنسج في قصيعر قصة من أغرب القصص، التي مرت على هذه البلدة، الممزوج تاريخ أهلها بالبحر وأخباره وأسراره وأرزاقه وأسفاره.. قصة حقيقية لكنها أغرب من أساطير عجائز قصيعر، التي تحكى في السمرات بعد أن يهبط الظلام على البلدة الصغيرة، فيحتضنها حتى تبزغ تباشير الفجر.. استيقظ الصياد حمادي بن مسلم من أبناء سقطرى يعمل في قصيعر ومتزوج من إحدى أسرها، وزميله القصيعري خميس باهواري، انطلقا إلى البحر كغيرهم من الصيادين، حمادي كان الربَّان وباهواري كان الجرار (المجدف)، بعد ثلاثة أو أربعة أميال بحرية وصلا إلى موقع الصيد مع غيرهم، ثم انهمكا في الصيد قبل أن تهب بوادر عاصفة، غادر في إثرها الصيادون إلى اليابسة، القارب تلو الآخر, نصح صيادو آخر قارب مغادر حمادي وباهواري توخي الحذر والعودة معهم لليابسة، لا شك أن حمادي كان يقول هذه ليست عاصفة شديدة لقد مررنا بأشد منها ليس هناك ما يخيف.. عاد جميع الصيادين إلى الشاطئ ، انتظر الجميع عودة الثنائي حمادي وباهواري، لم يشك أحد في عودتهما، لكن طال الانتظار، بعد مرور بعض الوقت توجس الجميع خيفة لابد أن هناك خطباً ما.. انتشر الخبر في البلدة الصغيرة سريعاً ، بدأت رحلة البحث الجماعية المضنية ، الجميع هب لتقديم المساعدة .. صدق الشاعر المكلاوي القائل:(حيا رجال الخير ورجال العرب لي في قصيعر ** لا جاتهم حاجة على بوها خبب يتعاونون)
انطلقت القوارب والناس يبحثون عنهما في كل مكان ، وبكل طريقة ممكنة .. حتى غاب النهار الذي كان بحق نهار حمادي وباهواري انتهى يوم مختلف عن بقية الأيام ، أغلقت سدة قصيعر أبوابها وحل الظلام وتوقف سرد الحكايات إلا من حكايات مشابهة لحكاية حمادي وباهواري، كانت جميعاً حكايات تنتهي بعودة الرجال بعد غيابهم أو معرفة مصيرهم ، مالم يدر بالخلد أن هذه القصة كانت مختلفة تماماً .
مرت الأيام والشهور والسنون والعقود ولم يعد حمادي وزميله ولم يظهر لهما أثر.. خلال الزمن الماضي تأكد للناس أن اختفاء الرجلين كان وراءه سر عجيب ولغز رهيب، ومن العجيب في هذه القصة بالعودة لزمن حدوثها:
1) إنه تم العثور على قارب حمادي وباهواري سليماً (مجحباً على الشاطئ) كأن يداً آدمية أخرجته مع معدات الاصطياد والسمك الذي تم اصطياده.
2) بالمنطق إن مات الرجلان فغياب الجثث أمر محير .. فبالنظر إلى أنهما غابا في منطقة قريبة في البحر فمن المفروض أن جثتيهما تطفو أو يقذف بها البحر أو حتى بأجزاء منهما فالبحر لا يقبل الميت كما هو المتعارف عليه علمياً وعملياً.
3) بالمنطق أيضاً العاصفة كما توقع حمادي لم تكن شديدة ، والدليل أن القارب خرج إلى الشاطئ سليماً مع معدات الاصطياد والسمك الذي تم اصطياده.. إذن القارب لم يغرق فلماذا خرجا منه ؟.
كان لا بد أن يفسر الأمر أن حمادي وباهواري على هذه المعطيات لم يغرقا في البحر لقد خرجا بقاربهما إلى الشاطئ في وقت متأخر بعيداً قليلاً عن مجحب قصيعر، ثم اختفيا تاركين وراءهما قاربهما والسمك الذي اصطاداه .. اقتنع معظم سكان البلدة أن يداً أخذت الثنائي ليس إلى أعماق البحر بل إلى أعماق العالم السفلي .. القصة تحولت إلى أسطورة ، بعد سنوات قيلت عن الغائبين أخبارٌ مثل ظهور باهواري ليلاً يتجول في قصيعر، ترك حمادي ورقة لصاحب دكان كتب عليها طلب بعض السلع ذيلها باسمه، أو تجول حمادي نهاراً في هيئة باعلوان, أو إن نسوة من سرار قادمات إلى قصيعر صادفن في طريقهن رجلين ملتحيين قالا إنهما حمادي وباهواري وطلبا إبلاغ التحية والسلام إلى أهل قصيعر، وغيرها من الأخبار.. ومع كل قصة تضج البلدة وينتشر الخبر ثم يتم إخضاعه للتحليل الذي يؤكد أن الرجلين ما زالا يعيشان في العالم الآخر، وأنهما يجاهدان للعودة لكن هناك من يمنعهما لعله قبيلة من الجان أو زوجة جنية أو أولاد مهجّنون كانت هذه هي نهاية القصة.
بعد كل هذه السنوات لم يعد أحد ينتظر حمادي وباهواري، وعندما كبرت قليلا سألت جدتي التي كانت تحكي لي في طفولتي كل هذه القصص عن جديد الرجلين . أخبرتني جدتي أن لا جديد لديها، يبدو أنهما استـقرا هناك وكبرا وخلفا أولاداً وأحفادا .. ماتت جدتي وهي على قناعة تامة برواية عالم حمادي وباهواري السفلي, كانت هذه قصة بلا نهاية , البحر لو كان يتكلم هو الشاهد الوحيد الذي يحتفظ بسر هذه القصة ومثيلاتها .
يتذكر تاريخ السفن الشراعية في المشقاص قصة نوخذة خبير خانه حدسه إذْ سجَّل في تاريخ هذه المنطقة أكبر كارثة بحرية لم نسمع بمثلها في تاريخ هذه المنطقة، النوخذة سعد بن محفوظ الغرابي من أسرة التصقت بتاريخ قصيعر ، اشتهر من بحارتها ونواخيذها سعد وعوض ومبارك أبناء محفوظ الغرابي ، وهم أصحاب مربَّعة بن محفوظ الأثرية الشهيرة التي كانت قائمة لوقت قريب شرق قصيعر ثم أصبحت اليوم أطلالاً ، ولعل هذه المربعة معاصرة لعمران منطقة المخرج التي سكنها الناس قبل الانتقال لقصيعر .
كان الناس يروون عن مهارة سعد بن محفوظ البحرية القصص العجيبة ، فالرجل ذو بصيرة بحرية فائقة، وهو من أسرة خبرت البحر سنوات ورسمت معه علاقات العارفين المكاشفين الذين يفهمون لمزات البحر وغمزاته وهمساته الخفية ، فضلا عن لغة موجاته الهادرة وإشاراته الظاهرة .
سفينة سعد بن محفوظ الشراعية الصغيرة كانت تسمى (بلا صبوح)، كانت تجول البحر وتعرف دروبه ومسالكه ، في رحلة معتادة عزم صاحبها وربانها الماهر على السفر بها إلى سقطرى، في العادة كانت تحمل على متنها أكثر من أربعة عشر بحَّاراً ، وفي هذه الرحلة كانت تحمل بعض المسافرين إلى سقطرى وبعض المؤن ، وقيل كان من بين المسافرين امرأتان ، تقرر السفر إلى سقطرى عصر الثلاثاء 17رمضان 1392هـ الموافق 16 أكتوبر 1972م ، وفي هذا الوقت من السنة وهو ـ نجم النطح ـ ويعرف بنجم الحيمر الذي قال فيه الشاعر (من ضربة الحيمر عسى نسلم نفول)، وفي ذلك الزمن لا يبحر في هذا النجم إلا المغامرون أو العباقرة .
كان قد ظهر من بوادر الخطر في صبيحة ذلك اليوم ريح ترجمها بعض العارفين ببواطن الأمور بلغة الريبة فامتنعوا عن إلابحار ، لكن لغة هذه الريح استعصت على فهم النوخذة الخبير الذي لم يعرها اهتماماً ، قيل إن بعض النواخيذ الكبار في قصيعر نصحوا الرجل بتأجيل السفر وتوخي الحذر فرد عليهم بثقة وإيمان: (لقد عزمنا على السفر ، وسنتوكل على الله ، وما ترونه لا ينبئ بخطر ) ، إنه القدر إذن يرسم أول فصول المأساة الكبرى .
أبحرت سفينة ابن محفوظ عصر الثلاثاء ، وفي طريقها وهي تمخر في عباب البحر مرت على أكثر من قارب عائد إلى اليابسة خوفاً أو توجُّساً، كان بعضهم يناديه ويبدي له تخُّوفه من عاصفة قادمة ، وكان البعض ينظر إليه بصمت احتراماً وإجلالاً أواستغراباً رُبَّما ، كانت تلك النظرات هي النظرات الأخيرة لهذه السفينة الشراعية المهيبة ، رويداً بدت العاصفة تكشف عن وجهها المدمر ، ومع اشتداد الريح وهبوط الشمس إلى مهجعها أدرك النوخذة الخبير شيئاً من الخطر ، فهل فكر ابن محفوظ في العودة ؟ وهل كان بإمكانه ذلك ؟ لا أحد يدري . المتوقع أن الرجل أبحر بلا حول ولا قوة بعد دخول الظلام، وبعد أن أدرك أن تقديراته كانت خاطئة ، وعندما تشتد الريح لابد أن تقتلع الشراع، ولم يكن أحد يعرف كيف كانت سفينة ابن محفوظ تواجه الأمواج العاتية ، لقد فات الأوان إذن ، دخل الليل واشتد ظلامه، ومع اشتداد الظلام كانت العاصفة تزداد شدة ، فاقت قوة هذه العاصفة تقديرات أكبر المتشائمين ، في يابسة قصيعر هاجمت أمواج البحر العمران وهدمت ثلاثة عشر بيتاً مطلة على الشاطئ وأغرقت عشرات القوارب . فما الذي كان يحدث لسفينة ابن محفوظ في أعماق البحر ؟ .
بعد أن هدأت العاصفة تبين أن البحر ابتلع سفينة ابن محفوظ مع بحارتها ومسافريها ومؤنها . كيف؟ أين؟ لا أحد يعلم ، لم يعثر أحد حتى على قطعة خشب واحدة من هذه السفينة الشراعية، فكأنها كانت تبحر في مثلث برمودا وليس في بحر العرب ، كانت هذه الحادثة وما زالت لغزاً محيّراً ، لقد مرت 44 سنة على وقوعها، ومن الناحية الإنسانية صعقت كثير من الأسر بفقدان رجالها ، أشهر من غاب في هذه الحادثة سعد بن محفوظ الغرابي وابنه الشاب هويدي ، وسلوم سعيد بلكديش وابنه الشاب جمعان ، وجمعان يسر (عانه) ، وسالم عمر بن الحطب ، وسعيد بن عميران من حلفون وكان للغرابة بحري أعمى …
ذهبت سفينة ابن محفوظ ولم تعد ، لعلها اليوم ساكنة في أعماق المحيط، سر رهيب يمنع أن تطفو منها شاردة أو واردة ، إنه البحر لا يخبرنا أين ذهب أحبابنا أبداً وقصصها .