حكايات
عبدالرحمن بن حسن السقاف
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 3 .. ص 112
رابط العدد 3 : اضغط هنا
بات الحائك مسرورًا وقد تهيا ليذهب غداً إلى سوق المدينة .. و كان الحائك البارحة قد أكمل نسج الملحفة الثانية بعد أن أكمل الأولى في الأسبوع الماضي، لقد تعمَّد تأجيل بيع الأولى حال إنجازها ؛ ليبيعها مع الثانية في سوق مدينة شبام مع اقتراب العيد .. إن بيع ملحفتين اثنتين ستعودان بثمن أوفر من بيعهما منفردتين، ففي زينة العيد كثير من الإخوة يحبون أن يلبسوا ملابس متشابهة، وكثير من الناس الموسرين يفضلون لبس اثنتين متشابهتين واحدة إزاراً والأخرى رداء …
ما أجمل هذه الملاحف ما أسعد هذا الذي سيلبس من هذه الملاحف! لقد غزلن قطنها النساء الصالحات وبناتهن المصونات من الأسر الكريمة، كنَّ يقرأن القرآن ويسبحن الله ويحمدنه ..و عند كل حركة يتحول القطن المنفوش في أيديهن إلى خيوط رقيقة .. كان الشيخ غلقان يتناول هذه الخيوط باحترام وينسقها على امتداد نوله، فيمد الخيوط في نسق طولي يمتد أربعة عشر ذراعاً، وما أن يهيئ مجلسه أمام مشط النول، ويضع قدميه على خشب كالنعال مشدود بالحبال، ويشرع في تلاوة أوراده وأذكاره، يتناول المغزل، فتتدافعه يداه، فينطلق بينهما ذهابًا وإياباً كالزورق الصغير بين طبقتين من الخيوط الطولية المشدودة تتبادلانه كالأمواج تعلو البحر تارة يمر الزورق فوق هذه الخيوط وتارة فوق الأخرى .. كان المغزل ينفق حمولته في ذهابه و إيابه مخلفاً وراءه خيطاً، ما يلبث أن تبتلع تلك الأمواج ذلك الخيط ويختفي بينها .. وفي حركة سريعة عندما يأتي مشط النول فيدفعه ليستقر بين الخيوط الطولية، ويأتي من بعده خيط آخر، وهكذا تستقر هذه الخيوط إلى جانب أخواتها من الخيوط العرضية ، كانت رِجْلا الحائك تعملان بلا كلل وهكذا يداه .. كانت هذه الحركة تصدر أصواتًا من الرفس والصفق، قد لا يكون إيقاعها مطرباً ولكنها أصوات جميلة؛ لأنها تنم عن الحياة والاستمرار بالإنتاج، فكل صوت يصدر يعبر عن إنجاز خطوة من آلاف الخطوات لإنتاج ملحفة بطول سبعة أذرع … لم تعد الحركة التي اعتادها الحائك غلقان تشغل كل فكرة، بل صارت مع تعوده عليها كأنما هي حركات لاإرادية يؤديها بدون إعمال فكر ولذا فإنه يستطيع أن يرتل كثيراً مما يحفظه من القرآن الكريم ومن الأوراد، ويروِّح عن نفسه بترديد بعض الأناشيد والمدائح النبوية التي يسمعها في المناسبات الدينية .. ويردد كلمات و أنغاماً تعبر عن أشجان نفسه و مواجيدها، وإذا ما أتم نسج ملحفة سباعية يكون قد أنجز معها ما شاء الله له من تلاوة القرآن والذكر والصلاة على النبي محمد وعلى آله وصحبه وسلم …
في الصباح استقبل الحائك مدينة شبام وبدأ في الصعود نحو بوابتها العتيقة، وهو يحمل باهتمام بالغ ملحفتين مطويتين داخل ردائه. كانت قدماه تتقدمان به نحو البوابة العالية، كلما دفع بثقله على قدم أنجز خطوة .. ليس هذا الجهد كالحياكة .. ففي الحياكة كلما دفع ثقل إحدى قدميه كان يتقدم خيطاً في إنجاز عمله .
عندما كان في صعوده هذا قابله التاجر الشاطر عبدالقادر عثمان كان مهرولاً في نزوله يريد الذهاب إلى قرية قريبة من المدينة.. فبدأه بالتحية واستوقفه ودار بينهما الحوار التالي :
_ أرني بضاعتك.
_ ( بسط الرداء وأخرج منه ملحفتين هو يقول إنهما ملحفتان ما شاء الله ..تبارك الله ).
_ أخذ يتفحصهما وقال إنهما الاثنتان من عمل يدك أنت …
نعم من عملي.. ما شاء الله تبارك الله هذه قد عملتها منذ مدة.. وهذه البارحة حضيتها ما شاء الله تبارك الله سعرهما الاثنتين ستة قروش ما شاء الله والحمد لله والصلاة على رسول الله .
-قال عبدالقادر : بعني الاثنتان بثلاثة قروش .
– لا.. لا تبخس سعر هذه البضاعة وأنت تعرف جودتها .
لا أزيدك عن قرش ونصف للواحدة، وإن رغبت في هذا السعر خذه الآن نقداً.. إنك لن تجد من يعطيك أكثر من هذا السعر..
أحس غلقان بالغيظ أن يجد أول زبون فيعرض عليه ثمنًا محبطاً لأمله الذي عقده وهو ينسج خيوط هذه الملاحف.
قال غلقان: لا أبيع بأقل من ثلاثة قروش لكل واحدة .
_ لن تجد أفضل من السعر الذي عرضته عليك .
_ إن شاء الله أجد من يشتري بهذا السعر.. أنت تتمتع بشطارة فاقت حدَّها لكنَّك لا تقدَّر كم من الناس قد عملوا وصبروا حتى يتحول القطن من الشجرة إلى ملحفة بين يديك .
– أما نحن فعملنا التجارة.. والتجارة شطارة ياغلقان! .
– إذن سأذهب سوق المدينة .لعلّي أجد فيها شخصاً ليس بقدر شطارتك، شخص من الذين يفتحون أفواههم عندما يكحلون أعينهم، و أبيع له بالسعر الذي أريده.. باع غلقان بضاعته في المدينة وانحدر من بوابتها مهرولاً مسروراً نحو قريته وهو يحمل معه بعض لوازم مشغله وحاجيات منزله وهو في طريقه إلى منزله مرعلى بعض البيوت ليسلم أهلها أجرغزل القطن، و مر على صديقه المزارع ليسلمه ثمن القطن .. شرب ماءً واستراح في ظل النخلة تهب عليه نسمات باردة من جهة حقل البرسيم فيتعطر برائحته.. كانت عيناه لا تملان من النظر إلى شجرات القطن على حواف حقل البرسيم، ويستمتع بالنظر إلى براعم القطن عندما تتفتح أكمامها فينبثق منها قطن ناصع البياض، إنها زهور لا تذبل بل تزداد جمالاً عندما تصير خيوطاً على النول وعندما تتحول إلى لبس جميل يزين لابسيه .
عاد عبدالقادر إلى المدينة وعندما وصل أمام بيته حيث المتجر وجد ملحفتين مشرعتين على باب المتجر.. إنهما ملحفتا غلقان .!…
صاح منادياً أهل داره بصوت عال ليسمعوه وهم بالمنازل العليا : هاتوا لي مكحلاً ومرآة .. كان الطلب غريباً وأكثر غرابة أن يكون بصوت مرتفع وملحٍ هكذا.. ولكن من يجرؤ على سؤال عبدالقادر خاصة وأن صوته ينمُّ عن غضب .
حاول عبدالقادر أن يخفي ما في نفسه من غيظ، وقال لابنه: يا بني كم لك لم تكحل عينيك خذ المكحل والمرآة من الدلدال[1] الذي يتدلى الآن.. وأكحُل عينيك الآن أمامي ..
أمسك الابن بالدلدال وأخذ المكحل فوضع المرود بين جفنيه وهما يرتعشان وما كاد يطبقهما على المرود حتى فتح فاه ! كحل عينيه
و إذا بعبدالقادر يفرك يديه ويزم شفتيه..
كان الابن مستغرباً أن والده يعمل هكذا.. ولم يبد إعجابه بالملاحف، ولم يقل عنها شيئاً ! ..
قال الابن : ألم تر الملاحف يا أبي!؟..
بادره والده : بلا أعرف أنك اشتريتهما من غلقان بستة قروش على الأقل..
يا بني.. إذا امتلأت عيناك من جمال شيء فلا تنبهر به كثيراً.. وتجعله يسيطر عليك كُلَّك.. توازن يا بُني.. فلا تغفل عن أشياء أخرى تتربص بك وتريد النيل منك .
[1] الدلدال سلة تربط بحبل وعجلة يستخدمها هل مدينة شبام حضرموت لأن بيوتهم عالية ويرسلون عبرها حاجياتهم الصغيرة