تراث وآثار
د. صادق عمر مكنون
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 5 .. ص 22
رابط العدد 5: اضغط هنا
كانت المعارف والمهن والتراث الشعبي عموما في سالف الحقب والأزمان، ينتقل شفاهة وبالتطبيق العملي بين الأجيال من الأجداد والآباء إلى الأبناء، والقليل منه ينتقل بالتدوين. فكان الأجداد والآباء هم المعلمون وهم القدوة والمثل الأعلى للأبناء.
كان الطفل يهيئ للمهنة بالتشويق لها عبر القصص والحكايات ومغامرات الأجداد والآباء. فينشأ الطفل وقلبه عامر بحب المهنة، وذاكرته معبأة بتراث الآباء والأجداد. هكذا كان الحال في كثير من البلاد قبل الثورة العلمية والصناعية، وما زال الحال كذلك في أمريكا والدول الأوربية مع تغير وتطور الوسائل والأساليب. إذ مازال الأب أو الأم يحرصون على قراءة القصص والحكايات لأطفالهم قبل النوم ، وغالبا تكون من التراث. بل إننا نجد أن أغلب مسلسلات الكرتون والأفلام التي تبث للأطفال تمجد التراث الأوربي .
كانت مهنة الملاحة البحرية هي المهنة الرئيسة لسكان مدينة الحامي، تتناقلها الأجيال أبا عن جد. كان جيلنا آخر جيل شاهد جيل الأجداد الملاحين وعايشهم، وفي الوقت نفسه هو الجيل الذي انفصل تماما عن مهنة الأجداد. بينما جيل آبائنا الجيل المخضرم، مارس مهنة الأجداد ثم انفصل عنها واغترب عن الوطن والمهنة. شاهدنا في طفولتنا وصبانا حالة احتضار وموت مهنة الملاحة البحرية بالحامي، وشاهدنا آخر الرحلات البحرية، وطعمنا الحلاوة المسكتية والصار وتمر البصرة وهدايا الهند وشرق افريقيا. كما شاهدنا تقاعد عددٍ من نواخذة السفن الخشبية وربابنتها وبحارتها .
ورغم ذلك، عشنا معهم في كثير من رحلاتهم ومغامراتهم البحرية، وطفنا معهم في كثير من البلاد التي نزلوا فيها. فزرنا سقطرة وزنجبار ودار السلام كما زرنا بربرة في الصومال ونزلنا زيلع والحديدة، وفي رحلات أخرى زرنا مسقط والبحرين والبصرة وبلاد الهند، وتعرفنا على كثير من ثقافات وعادات شعوب تلك البلاد .
زاغت أبصارنا وكادت قلوبنا تخرج من حناجرنا، ونحن نعيش معهم وهم يكابدون أهوال العواصف والزوابع والرياح وهيجان أمواج المحيط. واغتمت نفوسنا حزناً وكمداً على فقدان الأهل والأصحاب من النواخذة والبحارة، بعد تحطم وغرق بعض السفن، وحمدنا الله على نجاة من نجا منهم. وكم امتلأت صدورنا إعجابا بهم وفخرا وزهوا وهم يصدون قراصنة البحر وينتصرون عليهم .
عشنا معهم فرحة العودة من البحر (التدبيره). كنا مع النسوة وهن ينشدن ويغنين ( التجلوب)، والفرحة والأمل تملآن قلوبهن بعودة آبائهن وأزواجهن وأبنائهن سالمين غانمين . ونزلنا مع الصبية إلى شاطئ البحر نحتفل باستقبال العائدين. وشاهدنا قدوم السفن مع قرع الطبول (الكاسر). وكنا نشاهد بفرحة غامرة البحارة يحملون الناخوذة على أكتافهم من القارب بعد وصوله الشاطئ إلى البر، حيث الأهل والأصحاب في استقبالهم، ويتخلل ذلك زغاريد النساء .
عشنا كل ذلك من خلال حكايات الأجداد والجدات. فقد سمعت من جدي حسين بن إبراهيم مكنون كثيرا من حكايات البحر عندما كنت صغيرا. واستمعت الى حكايات أخرى من بعض النواخذة والبحارة الذين كانوا يرتادون دكان خالي إبراهيم حسين مكنون، من أمثال الناخوذة المشهور الشيخ شيخ بن محمد باعباد، والعم سعيد بن محمد المقدي والعم حسين أحمد عيديد.
كانت تلك الحكايات تغرس وتنمي في نفسي مشاعر الحب والإجلال والإكبار لأجدادنا الذين كانوا يحملون في قلوبهم إيمانا قويا بالله أورثهم قيما عظيمة من أهمها : الصبر وحب العمل والمغامرة وعدم الشعور باليأس مهما حدث، فكانوا كلما غرق وتحطم لهم مركب بنوا مركبا آخر وعادوا إلى البحر . وقد قال فيهم الشاعر سالمين بن عمر بن مسلم الشحري (ت 1194هـ) :
بن مسلم قال بالناظور خايل ساعية نتخت من زنجبار
وسطها شبان ذي ما يحسبون التالية يطعمون الحلو قار
ومما عزز فينا ذلك الإعجاب والإكبار صدور كتابي المؤرخ الحضرمي محمد عبدالقادر بامطرف وهما : الرفيق النافع والشهداء السبعة اللذين أشار فيهما إلى دور ملاحي الحامي في مقاومة الغزاة البرتغاليين .
إن هذا الحب والإعجاب والإكبار دفعني وأنا في المرحلة الإعدادية لمحاولة إعداد موضوع عن ملاحي الحامي. فأشار علي الأستاذ أحمد سالم باشحري أن استقي معلوماتي حول هذا الموضوع، من النواخذة والربابنة الذين ما زالوا على قيد الحياة .
فالتقيت الملاح المعمر الشيخ محمد بن عبدالله باعباد في جلسات عدة. وكنت لا أزال أذكر وصول خبر غرق إحدى السفن وتحطمها ووفاة أفضل بحارته وأشهرهم جوهر، وكان وقع الخبر عليه مؤلما، وعم الحزن مدينة الحامي. كما التقيت صديقه الناخوذة أحمد سعيد باهيال، الذي شهدتُ قبل ذلك ببضع سنيين إنزال حطام سفينته التي تعرضت لعاصفة هوجاء حطمت السفينة وأغرقتها، وقد نجا مع جميع بحارته بعد أن أنقذتهم سفينة أخرى. وفي مشهد مؤثر لا زلت أذكره توافد أهل الحامي إلى بيته يواسونه ويساعدونه في عمل طوعي جماعي في إنزال حطام سفينته التي أقلتها سفينة أخرى رست أمام منزله الكائن بجوار مسجد المحضار. والتقيت الناخوذة عبدالله سالم حبيشان والناخوذة غالب بن عبد الرب السعدي. كما التقيت بعد ذلك بسنوات في موضوع مرتبط بالملاحة البحرية عوض عمر باصالح وعوض بن تمام ( بو شليح ) وهما في درجة آخر جيل من البحارة الذين استمروا في العمل الملاحي بالسفن الخشبية التي انقرضت في الثمانينات وتوقف العمل بها وسيلة للنقل البحرى.
ولكن للأسف الشديد ومع عدم استقراري، وكثرة انتقالاتي وأسفاري، ضاع كل مادونته، ولم يمكث في الذاكرة إلا الشئ القليل.
كل تلك القيم التي حاول الأجداد غرسها فينا، من حب العمل والتفاني فيه وحب المغامرة والإبداع، حال دون نموها كساد مهنة النقل البحري بالسفن الخشبية التي حلت محلها الناقلات البحرية العملاقة. وتحول الآباء من العمل بمهنة الأجداد إلى الاغتراب والعمل في الدول النفطية الخليجية خصوصا الكويت. وأصبح جل همهم جمع قليل من المال لشراء الهدايا وبعض الملابس للتفاخر بها عند العودة للبلاد. فكان الأبناء يتطلعون إلى تقليد آبائهم. فأصبح هدف كل منهم في الحياة السفر إلى الكويت، فانقطع الكثير منهم عن الدراسة وسافروا إلى الكويت، والقليل منهم واصل الدراسة هناك.
كما حال دون نمو تلك القيم مشروع الاغتراب الثقافي في الحقبة الاشتراكية. فكانت مناهج التعليم تدرس تاريخ كل المناطق والأمم وتراثها إلا تاريخ حضرموت وتراثها.
وجاءت حقبة الوحدة مترافقة مع العولمة. فاغترب الأبناء عن تراثهم وواقعهم ، فلم يعد الآباء يقصون أمجاد ومفاخر أجدادهم، ذلك أن الآباء منشغلون عن الأبناء بتخزين القات ومشاغل الحياة، وانشغل الأبناء عن الآباء بمشاهدة شاشات التلفزة، فأصبحت أبصارهم مشدودة وقلوبهم معلقة بأبطال مسلسلات الكرتون وأبطال المسلسلات المدبلجة، فضلا عن انشغالهم بوسائل التواصل الاجتماعي الحديثة. وظلت مناهج التعليم خالية من تراث حضرموت وتاريخها .
إننا لانقصد مما سبق أن يمتهن كل أبنائنا مهنة الملاحة البحرية، ولكن يجب أن تمتلئ قلوبهم بالقيم الإيجابية لتلك المهنة من إيمان عميق بالله وحب للعمل والشجاعة والمغامرة والإبداع وعدم الشعور باليأس. ذلك أن الحياة محيط كبير تتناوبه أحوال متفاوتة بين سكون تهب عليه ريح طيبة، وحالة تهب عليها ريح مزمجرة وعواصف هوجا وأمواج هائجة. وكل مهنة من المهن هي سفينة نركبها نكتسب منها ما كتبه الله لنا من رزق، وننفع بها أهلنا ومجتمعنا. لهذا يجب علينا أن ننمي تلك القيم في نفوس أبنائنا بصرف النظر عن المهنة التي يمتهنونها، من خلال حكايات ومغامرات الأجداد والتركيز على الجوانب الإيجابية فيها، ومن هنا يكتسب التراث قيمته وأهميته .