تراث وآثار
د. محمد صالح بلعفير
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 5 .. ص 24
رابط العدد 5: اضغط هنا
شبام حضرموت عالم حضاري قائم بذاته ولذاته ، ومع ذلك كان منفتحاً على كل الفضاءات القريبة منه والبعيدة ، وهنا في أعماق الماضي وصيرورة الحاضر، يقبع هذا المارد الطيني مسوراً بالجدران ومحاطاً بهالة الزمان، زمان العمالقة في كل شيء في أخلاق البشر، ومبادئ الاقتصاد، وقواعد التجارة، وأرقام البورصات قبل أن تعرف شاشاتها الالكترونية قبل عقود قليلة ماضية . إذاً فهي شبام مدينة التجارة والبورصة والعمارة الأسطورية، المدينة التي تعلمنا أبجديات الحياة من ألفها إلى يائها، وهي تقدم قصة نجاح لمن يريد أن يتعلم مبادئ الحياة وأصولها، وكذلك شروط النجاح على الطبيعة وليس على رسائل شركات الجوّال التي تدغدغ عواطف المشتركين على طريقة كيف تصبح مليونيراً !
خلاصة القول إن مدينة شبام هي مدرسة للتاريخ والاقتصاد والعمارة الطينية والفنون الزخرفية، وهي بكلمة موجزة مدينة حضارية .
في شبام ومثلها مدينة تريم، توجد عادات عديدة متبعة في البناء بدءاً من حفر الأساس وحتى اكتمال بناء المنزل، ويعود ذلك التشابه إلى أن مالك المنزل عندما يريد إعادة بناء منزله أو منزل آخر آلت إليه ملكيته عن طريق الشراء، يبحث أولاً عن أمهر البنائيين والمسوسين (المفرد: باني الأساس)، من أبناء مدينة شبام نفسها أو مدينة تريم التي اشتهرت بنخب من أبنائها في مجال البناء ليس في تريم وحدها وإنما في داخل حضرموت وخارجها، خاصة في عمارة البيوت الكبيرة، والمساجد ذات المنائر العالية والحقيقة التي بدت لنا من العمل الميداني في المدينة وزيارتنا لها ولقاءاتنا مع عدد من معالمة البناء، أن هناك عددا من العادات التي تربط مالك البيت بأطراف مختلفة من عمال البناء والنجارين والمختصين بالتبليط الداخلي، وبعبارة أخرى توجد عدة خطوات لابد من إنجازها حتى يصبح المنزل صالحاً للسكن.(1)
وفي هذا السياق جرت العادة أن يقوم كبير البنائيين – في خطوة أولى -قبل تهديم المنزل بأخذ مقاييس النوافذ والفتحات مثل فتحات المزاريب (حنك) والعكر وهي الفتحات المستطيلة الصغيرة التي تمد الطابق الأرضي بالضوء والهواء وغيرها من العناصر المعمارية(2)، ثم يقدّر كل ما يحتاجه المنزل الجديد من أخشاب، الأمر الذي يفرض على صاحبه البحث عن أمهر النجارين في مدينة شبام، ويتولى الأخير مهمة توفير الأخشاب بعد توقيع اتفاقية تظل سارية المفعول حتى الانتهاء من عملية البناء. ويأتي في مقدمة الأخشاب التي ينبغي على النجار توفيرها خشب شجر السدر (العلب) الذي يتميز بالقوة والصلابة، والذي عادة ما يستخدم في التغطية وصنع النوافذ والأبواب والأعمدة (الأسهم) وتيجانها (الكبش) وزخرفتها، إضافة إلى أخشاب أخرى مثل اليعبور.
ومثلما هي الحال في مدينة تريم(3)، فإنه إذا سئم صاحب المنزل من النجار ورأى ضرورة الاستغناء عنه بحجة أنه لم يقم بعمله على أكمل وجه، يعطيه تعويضاً (قصوعة) ومن ثم يأذن له بالانصراف، فإن مثل هذه العادة متبعة أيضاً في شبام، وإلاّ فإن صاحب المنزل لن يجد نجاراً آخر للعمل لديه، بل إن الأخير يسأل عن النجار السابق والحصول على إثبات منه يؤكد أنه قد استلم القصوعة.
وفي خطوة تالية، وقبل الشروع في عملية إعادة البناء يتم عقد اتفاقية بين كبير البنائيين أو معلّم البناء ومالك المنزل فيما إذا كان البناء سيكون عن طريق المقاولة أو الأجر اليومي وإن كان الأخير هو المعمول به إلى أيامنا هذه. وعادة ما يكون ضمن بنود الاتفاقية إلزام مالك المنزل بتقديم ملابس العمل للعمال وبعض الأغنام التي تذبح في أثناء عملية البناء، ومقدار من التمور التي يتناولها العمال في فترة الراحة.
ويلاحظ أن معلم البناء هو الطرف الاعتباري الذي تعقد معه الاتفاقية المذكورة، أما العمال فلا يدرون شيئاً عنها عدا ما يستلمونه من أجر من المعلم وعلى فترات في أثناء العمل فقط.
ومن أسف أننا لم نعثر أو لم نحصل على نسخ من هذه الاتفاقيات وبنودها، وما تتضمنه من التزامات كلا الطرفين.
وبعد الانتهاء من بناء الأساس من الحجر، وقبل البدء بوضع المدرة (الطوبة) الأولى وفي اليوم المحدد لوضعها، يوجه صاحب المنزل دعوات لأهله وأقاربه وجيرانه فضلاً عن القائم بأعمال الشرع والعدل في المدينة وهو في الوقت نفسه ناظر (خيّل السد) المسئول عن سد المدينة الذي يوزع المياه إلى الحقول الزراعية ويحميها في ذات الوقت من خطر السيول، وذلك لحضور هذا الحفل البهيج. وفي الصباح الباكر يتوافد المدعون ومعلم وعمال البناء، وقبل وضع الطوبة يذبح ماعزاً أو خروفاً على إحدى زوايا الأساس (الخشم وجمعه خشوم)، ثم ينثر الدم على كل الزوايا ليمنع الجن من الدخول للمنزل، ويلي ذلك وضمن الطقوس المتبعة أن يطلق أحد العمال بأعلى صوته ترنيمة تدعو بالحظ السعيد ويرددها العمال تباعاً، وهذه الترنيمة تسمى (التخويلة) يقول فيها صاحبها: “إذا جاؤوا للشاذلية يعطي من أعطى، والصبر والتقوى، ولا يجني في خطأ، يامن حقّه يجمّله ويستره وهكذا المليح والله الله في الجودة يالجيران”.
الجدير بالإشارة هنا إلى أنَّ مثل هذه العادة أصبحت معممة ليس بالنسبة إلى المواطنين، بل على مستوى المشاريع الحكومية في كل أنحاء العالم حيث يوضع حجر الأساس لأي مشروع في احتفال رسمي.
وفي هذا الصدد، أي بعد وضع الطوبة الأولى يقوم شيخ المدينة وهو القائم بأعمال الشرع والعدل بقراءة الفاتحة، ثم يُحرق بكثرة اللبان (البخور)، وتوزع الشاذلية على الحاضرين وهي القهوة التي تنسب إلى الشيخ الصوفي العارف بالله شمس الدين علي بن عمر بن إبراهيم الشاذلي اليمني المخائي.
ومن الغريب أن هناك عادة أخرى وهي وضع المر والحلتيت وقطعة حديد في إحدى الزوايا اعتقادا من صاحب البيت بأنها تطرد الشياطين من حوله، وكذا توضع في منتصف البناء قطعة سوداء من القماش أو يعلق حذاء، وأحياناً قرن وعل لمنع عيون الحساد، وإن زالت هذه العادة أو بدأت تزول من بعض البيوت الجديدة إلا أنها كانت – إلى وقت قريب – متبعة في البيوت القديمة.
وبالنسبة إلى الذبيحة فإن الجزء الأكبر منها يذهب للمسوّس (باني الأساس) والعمال الآخرين، في حين يحصل مالك المنزل على الخمس منها. وبمعزل عن نصيب صاحب المنزل الذي يتصرف كيفما يشاء، فإنه يعد ضيافة خاصة ومنفردة حيث يذبح ماعز أو خروف أو اثنين، ومثل هذه العادة موجودة أيضاً في مدينة تريم.
أما فيما يتعلق بالتخويلة فهي ليست مقتصرة على يوم وضع الطوبة الأولى بل تتبابع على العمال من الجيران والأقارب القهوة الشاذلية في كل مراحل البناء، وليس لها أية علاقة بصاحب المنزل، إذ كانت تقدم كهبة من هؤلاء وحينها يطلق العمال تخويلاتهم، وهي عبارة عن كلمة شكر وثناء على صنيع الجيران، وهي مجرد دين ووفاء يعيده صاحب المنزل لجيرانه وأقاربه عند تشييد أحدهم لبيته الجديد. وبتعبير آخر، إنه في شبام كما هي الحال في مدينة تريم، يضمن الجار بشكل غير كتابي خدمات أقرب ما تكون إجبارية ككرم سائد بين الجيران. ففي كل وقت إحضار القهوة، يخوّل العمال ويتوقفون حين ينتهون من شرب القهوة.
وعندما يقترب بناء الدور الأرضي من نهايته أي بعد وضع العوارض وعتبات الطوابق يحصل العمال على مكأفاة أخرى وهي الذبيحة الثانية ليكون صاحب المنزل شريكاً لهم، حيث يذبح ماعزاً أو خروفاً على واجهة المنزل ثم يفرش الدم على التيسورة (جمعها تياسير) وكذلك يحصل معلّم البناء على ربع الذبيحة ومثله النجار وصاحب المنزل، وما تبقى يذهب للعمال. وتقام لهذه المناسبة عزومة (وليمة) غداء تعرف بغداء التياسير، وتتتابع هذه العادة عند وضع العوارض والعتبات في كل طابق إلى حين انتهاء البناء.
وباكتمال بناء المنزل، وهو دون شك مناسبة كبيرة لصاحب البيت، تذبح الذبائح للعمال، وتقدم لهم الهدايا والجوائز من الألبسة ومبالغ نقدية يحصل معلّم البناء على ضعفها. وهي ما تسمى (القصوصة). وبهذه المناسبة تزغرد النساء، وبعد حفل التكريم هذا يرقص الرجال ويشاركهم أحياناً الأطفال في صفوف متراصة، ثم ينتقلون إلى التجوال في شوارع المدينة وأزقتها فرحين ومعلنين انتهاء العمل في دار فلان، ويشاركهم في ذلك بعض أهالي شبام. وبختام هذا الحفل البهيج تنتهي علاقة عمال البناء بمالك المنزل.
إلى هنا لم ينته العمل بصفة نهائية في المنزل قيد الانشاء، إذ تبقى خطوة أخيرة ونهائية حتى يكون المنزل صالحاً للسكن، وتتمثل هذه الخطوة في عملية التبليط الداخلي، وهي عملية تتم كما جرت العادة عن طريق المقاولة بين معلّم النورة أي الشخص الذي يقوم بطلاء المنزل بالنورة (الجير) وبين صاحب المنزل، ويوجد لها شيء من الإجراءات كما هي الحال في عملية البناء. فإذا ما تم الاتفاق على المقاولة يتكفل معلّم النورة بتجهيز أدوات العمل كافة وكل ما يحتاجه العمال من أجرة وزاد، وعلى العكس من ذلك إذا كان ذلك عن طريق الأجر اليومي، إذ يظل العمال على صلة وثيقة بمالك البيت كما النجارين حيث يظلون على استعداد تام لتلبية ما يريده أو يرغب في تنفيذه لا سيما في فترات الأعياد أو أية مناسبة أخرى لطلاء منزله سواء كان في الداخل أم الخارج.
وفي صدد النورة يوجد في ضواحي مدينة شبام عدد من الأفران (الكيار ومفردها كير) لصناعتها، وتجلب مادتها من الحجارة الجيرية التي ترص في هذه الأفران ثم تحرق بالأخشاب من أسفل، وبعدها تقوم مجموعة من العمال بإطفاء الجير بالماء ثم يضرب عليه بأعواد على أرضية صلبة إلى حين يصبح ليناً.
وقد جرت العادة أن تتم عملية الطلاء بطبقات مختلفة تبدأ أولاً بالطين المخلوط بالماء والتبن (قش القمح) ثم بالرماد وهو بمثابة الاسمنت ويستخدم من الفرن مباشرة بعد الحرق ويليها الجير الذي يصنف حسب رغبة صاحب المنزل وذوقه، وهذه العملية تسمى (الطرقة)، وتليها (الرشوشة) وتتكون من خليط الجير مع الماء والملح، وهي الطلاء الأخير، وعادة مايتزامن التبليط الداخلي مع تركيب النوافذ والأبواب.
وعقب كل هذا العمل الذي يأخذ عدة سنوات ينتقل صاحب المنزل إلى مأواه الجديد، وهنا يحظى بآيات التبريك من الأهل والجيران ثم تتوج عملية النقل بإقامة وليمة خاصة للرجال وأخرى للنساء وتنتهي بالموالد حيث توزع الحلويات والقهوة على الحاضرين.
________________
الهوامش :
1) قبل الشروع في إعداد هذ المقال تذكرت موضوعا للأخ والزميل في مرحلة البكالوريوس بجامعة عدن محمد ناصر الكلدي الذي كتب عن عادات وتقاليد البناء في مدينة شبام، ونشره في مجلة الحكمة في مطلع الثمانينات من القرن الماضي(العشرين)، ومن أسف أنني أضعت ذلك العدد ماعدا مقتطفات منه، وحتى هو فقد العدد المذكور. وعليه ومن باب الأمانة العلمية رأيت أن من الأهمية بمكان الإشارة إليه، لا سيما وأن المكتبة الوطنية بعدن التي كنت أعول عليها في العثور على ذلك المقال قد خرجت عن الجاهزية، ولم تعد كما كانت ملاذا علميا للباحثين.
2) لمزيد من التفاصيل عن ثقافة إعادة البناء في مدينة شبام، وبخاصة أخذ مقاييس النوافذ والفتحات وبقية العناصر المعمارية الأخرى قبل تهديم المنزل، وهي العملية التي تعرف ببيان شل المنافذ، ينظرموضوعنا بعنوان: أضواء على التراث المعماري لمدينة شبام حضرموت ( ثقافة إعادة البناء)، في مجلة حضرموت الثقافية السنة الأولى العدد2، ربيع الأول 1438هـ، ديسمبر 2016،ص76-79.
3) في هذه المقال ،ثمة معلومات مأخوذة من بحث علمي للمستشرق الإنجليزي سرجنت باللغة الإنجليزية بعنوان: البناء والبناؤون فيSerjeant، R،B، Building and Builders in Hadhramaut ،Le Museon، Louvain، 1949 .