تراث وآثار
أحمد عمر مسجدي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 5 .. ص 34
رابط العدد 5: اضغط هنا
الحبابة عويوز وأبونواس :
إن هذا الأدب الهازل الذي أغفله الجادون من الأدباء يعد مصدر إلهامهم الأول, فكلما كان الأديب صغيراً يستمع لمثل هذه الحكايات الممتعة ونمى ذوقه وسعة خياله بها حتى يخرج عما ألفه, والخروج عن المألوف و التجاوز أدعى إلى الشهرة, فولد هذا تناقضاً في الحياة الأدبية وانسجاماً في سرد الحكاية وامتزج الأدب الجاد بالأدب الهازل كما كان في صدى الأهواء في (ألف ليلة و ليلة) وأصبحت أشعار أبي نواس مصدر الأقاصيص الشعبية, وامتزج الشعر الجاد منها بالهازل وأضيف إلى خلاعته الشعرية والمجون المنسوب إليه أشعاراً نسبت إليه, حتى حظي بالشهرة عند عامة الناس, فكان مجرد وعاء متسع ليضع القصاصون الشعبيون سخرياتهم فيه ووجدت الحبابة عويوز ملاذها فراحت تضيف بكل براعة خيالاتها وتروي حكاياتها بكل حكمة واقتدار، على أن أهم شخوصها هو أبو نواس متناسية في ذلك البطل الحقيقي الذي عانى الأمرين وشرب من كؤوس المعاناة حتى شبع .
وأبو نواس يلفظ عامياً (بانواس) وقد اتخذ العوام هذه اللفظة للإنسان المتذبذب الذي لا يستقر على حال وقد وردت لفظة (النواس) في القاموس بمعنى تذبذب الشيء أيضاً وهكذا فالعوام من الناس يطلقون هذه اللفظة لمن يتقلب في أمره ويدعم حججه بالخداع ليأخذ ما يريد وينال ما يتمنى من غريمه, حتى قيل: فلان مثل بانواس في خداعه وتحايله على الناس، وهذا ما يظهر لنا في بعض الحكايات التي بطلها الثاني بانواس مع أن هذه اللفظة تطلق جزافاً على أحد شخوص الحكايات متناسية الحبابة عويوز الشخص الحقيقي للحكاية. وليس معنى ذلك أن الشخص الحقيقي هو الذي يقوم به بانواس مع يقيني أن هذه اللفظة رمز الخداع و لجؤ من لم يستطع الوصول إلى مراده بوساطتها وليس بالضرورة أن يكون بانواس هو حقيقة الواقع في الحكايات الشعبية فربما تحكي عجوز البيت لأحفادها واقعها المر في السنوات العجاف التي مرت بها من عمرها وأنها البطلة الحقيقية ولكنها لا تجزم على التفوه بهذا القول كي لا تحمل أحفادها حملاً لا يطاق لتظل المعلمة الوفية لهم حتى يقابل ذلك بالاستحسان والاستمتاع بالاستماع ويوحي لها هذا بجذب أكثر عدد من الأطفال المستمعين وانتشار ما ترويه من حكايات .
وعند ما قلنا واقعها المر لا نقصد من السياق الراوية الخيالية للحكايات الشعبية بلفظنا الحبابة عويوز وإنما واقع العجوز التي تحكي بلسان الحبابة عويوز ولأننا ربطنا حكاياتنا بالمقامات و المقامات لها راوٍ خيالي مثل ما للحكايات راوٍ خيالي . وأما ما أضيف إلى خيال الأميين فهو واقع يمتزج بخيال الحكاية ليكون خيالاً ناتجاً عن واقع حقيقي يروي بلسان الحبابة عويوز كاسم الراوية الخيالية للحكايات الشعبية فهل بانواس المجهول هو أبو نواس المعروف ؟
كثر ذكر با نواس في الحكايات الشعبية حتى عرفت بعض الحكايات باسمه فقالوا: ((سفرة با نواس)) مع أنه البطل الثاني فيها بعد السلطان وأن في المجتمع الحضرمي من يكنى با نواس ومع هذا فبانواس الحضرمي ليس با نواس الحكواتي وأن الأخير هو المرادف للشاعر العباسي أبي نواس بالشهرة الذي لم يكن له دور البتة في حكاياتنا الشعبية وسندلل على دلك لاحقاً. ونفينا هذا لا يأتي من فراغ لأن آل با نواس أناس لهم سمعتهم الطيبة وأخلاقهم الحميدة ولم تنزِ أنفسهم إلى الخداع كما ورد في الحكايات إضافة إلى ذلك أنه لم يشتهر بينهم شخص باسمه الكامل في الحكايات الشعبية غير با نواس الذي هو اسم لشخص خيالي وليس كنية له . وأن أبا نواس الشاعر ليس با نواس الناثر وربما لشهرة النواسي الشاعر حذفت ألف الأسماء الخمسة كما هي معتادة في ساحل حضرموت حتى لفظ الاسم با نواس بديلاً من أن يلفظ أبا نواس .
وإذا قلنا إن ألف أخو وأبو من الأسماء الخمسة لا تنطق في بعض المناطق الحضرمية وبالذات الساحلية ويقولون :خو فلان, بو فلان, بدون ألف فليس ما يمنع ذلك إن كان قد لفظ الراوي أبا نواس (المنصوبة) أمام العوام وبدورهم رددوها بدون ألف على أن الاسم با نواس. فمن هو أبو نواس وما علاقة حكاياتنا الشعبية به؟
أبو نواس هو الحسن بن هاني بن عبد الأول بن صباح الحكمي ــ أبو نواس ــ شاعر العراق في عصره ولد بالأهواز من بلاد خوزستان سنة 146هـ ــ 763م ونشأ بالبصرة ورحل إلى بغداد فاتصل فيها بالخلفاء من بني العباس ومدح بعضهم وخرج إلى دمشق ومنها إلى مصر ثم عاد إلى بغداد فأقام فيها إلى أن توفي سنة 198 هـ ــ 814م فكان يعب من العلوم بذكاء متوقد ويتتلمذ لبعض المجان والخلعاء وعاش في السكر واللهو والمجون وهو شاعر الخمرة بلا منازع. هذا وقد تعدت شهرته بلاد العراق فذاع صيته في أقاصي البلاد الإسلامية وتناقل السمار أشعاره حتى حفظها العوام من الناس وكتبها الخواص منهم مثلما ذكر بديع الزمان الهمداني بعضاً من أشعاره في المقامة العراقية حيث كتب برواية عيسى بن هشام: أن البيت الذي سمج وضعه وحسن قطعه قول أبي نواس :
فبتنا يرانا الله شر عصابة تجرر أذيال الفسوق ولا فخر
والبيت الذي لا يمكن لمسه قول أبي نواس:
نسيم عبير في غلالة ماء وتمثال نور في أديم هواء
وأما البيت الذي هو مهين بحرف ورهين بحذف قول أبي نواس :
لقد ضاع شعري على بابكم كما ضاع در على خالصة
وقد أشرنا سابقاً أن المقامات هي حكايات أدبية ممزوجة بالشعر الفصيح لها بطل وراو خياليان. فهكذا الحال كانت أشعار أبي نواس تصل إلى الخواص من الناس والعوام منهم فينقلها الركبان في حلهم وترحالهم ويسمعها السامر وينقلها إلى بيته ثم تسمعها العجوز وتنسجم لها ثم تحكيها للأطفال بلهجتها العامية جيلاً بعد جيل وهكذا دواليك. وبهذا النقل تكون الزيادة والنقصان لاسيما من الخواص وقد كان ذلك واضحاً في اختلاف تاريخ ميلاده حسب ما جاء في ديوانه الصادر عن المكتبة الأهلية ــ بيروت ــ ناهيك عن الاختلاف في رواية الأشعار كما في البيت الأخير بين رواية در وفي بعضها عقد.
وبراعة الحبابة عويوز وتفننها في سرد أحداث الحكايات الشعبية متخذة بعض الشخصيات المشهورة كشخصية أبي نواس لتضعها في محمل السخرية حيناً وكرمز للحيل والخداع أحايين كثيرة حتى تعطي للحكاية أبهى صورها. وخلاعة النواسي أو مجون شعره أو المنسوب اليه رويت ملحونة وأضاف القصاصون الشعبيون إلى أبي نواس ما يشكل الأقاصيص الساخرة بلهو القصور .
والحبابة عويوز تروي في بعض حكاياتها الشعبية المتمثلة في الخروج من المآزق بحفر الخنادق من بيته إلى قصر السلطان ليعبث بما في القصر ويتلذذ بشهوة مجونه وفي بعض الأحيان تصوره بالشخص الحاد الذكاء حتى أنه يراهن السلطان بأن جميع سكان سلطنته عميان واتهامه للسلطان بحكمه لشعب أعمى ليهيج غضب السلطان عليه ولكنه يخرج من هذا المأزق الذي وقع فيه كما تخرج الشعرة من العجين لا يلتصق بها من المجون شيء, وذلك بطلبه كاتب من كتّاب ديوان السلطان ليكون شاهداً على ما يقول .
فأذن مؤذن بعد صلاة الجمعة ليخرجنّ كل مصلٍ من الباب الرئيس للمسجد بعد إغلاق جميع الأبواب الأخرى ويجلس هو وكاتب السلطان أمام الباب الرئيسي وأخذ بانواس سكيناً ليحفر بها على مقربة من باب المسجد حتى إذا خرج أحد المصلين سأل بانواس ماذا تفعل يا أبانواس؟ فأجاب ياكاتب السلطان أكتب أن هذا الشخص أعمى, وهكذا استمر في فعلته حتى خرج آخر من بالمسجد موجهاً إليه السؤال نفسه. وبذلك أثبت للسلطان أن الجميع عميان بسؤالهم عما يفعله مع أنهم يرونه يحفر بالسكين فنجا من عقوبة السلطان بدهائه ومكره واستحق الأجر.
قد يسمع الشخص هذه الحكاية برواية أخرى في مكان ما وقد يسمعها بعدة روايات في المكان نفسه, ولكن وإن اختلف الرواة في سرد الأحداث إلا أن الهدف والمغزى واحد في كل الحالات.
وهذه الحكاية التي لخصناها لا تثبت العمى للجميع ولا تنفيه عن الجميع لأن الأعمى قد يسأل السؤال نفسه إن سمع به, وإن طرح هذا السؤال يأتي للتوكيد مثلما سأل الله كليمه موسى عليه السلام بقوله: (( وما تلك بيمينك ياموسى . قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى …)) وذلك لتأكيد الكلام لأن الله عز وجل يعلم ما بيمين موسى عليه السلام ويعلم ما على الأرض جميعاً.
وليس من بديهة القول أن تكون مثل هذه الحكاية الهازلة للشاعر المعروف أبي نواس وهو أظرف الناس منطقاً, وأغزرهم أدباً, وأقدرهم على الكلام, وأسرعهم جواباً, وأفصح الأدباء لساناً, وأكثرهم نوادر, وهو أعلمهم كيف تكلمت العرب. ولأن كلامه شعر موزون صيغ على ذلك بعض من أشعاره ودونت في كتب التراث. ومن المفيد أن نعرف أن سبب لقبه (أبونواس) فهو من اختيار خلف الأحمر العالم وأراد أن يمد نسبه إلى ملوك اليمن. وقد حدث المبرد عن علي بن القاسم بن علي بن سليمان قال: سمعت أبا عبيدة يقول: ذهبت اليمن بجد الشعر وهزله؛ امرؤ القيس بجده و أبو نواس بهزله. أما بانواس الحضرمي فإنه لم تثبت له أشعار بالفصحى غير تلك الحكايات الشعبية الهازلة. وإذا خطر ببالنا نوادر الشاعر أبي نواس الكثيرة مع أمير المؤمنين هارون الرشيد الممتزجة بالشعر الفصيح فلنعلم أن الرشيد ليس هو السلطان بطل حكاياتنا الشعبية الذي سيأتي ذكره لاحقاً.
وهكذا فالحبابة عويوز في سردها لهذه الحكايات الهازلة إنما تهدف بقصد أو بغير قصد تعليم الأطفال ما لم يتعلموه في الكتاتيب إن وجدت وتحاول تأديبهم وإخطارهم بما يعانيه الناس من شظف العيش ومكابدة الأهوال وركوب الأخطار, وفي الوقت نفسه تشد انتباههم للاستماع الواعي لما يحكى لهم.
ويجدر بنا القول إن الحبابة عويوز شخصيات بتسمية واحدة, فالطفل المتلقي يحفظ ما ألقي عليه ليقوم بمحاكاته لأترابه أو من هم دونه سناً على أن الحكاية أو السفرة هي سفرة الحبابة عويوز وهكذا تتناقل الحكايات الشعبية على أنها حكايات الحبابة عويوز ..
من هو سلطان الحكايات الشعبية ؟
الغربة في الحكايات الشعبية هي الخروج عن مأزق الجمود الذي فرضه واقع الزمن المعيش بحثاً عن الرزق حتى في حالات الشؤم كما صورها الشاعر اللبناني ( إلياس فرحات):
أغرب خلف الرزق وهو مشرق وأقسم لو شرقت كان يغرب
وليس إلياس فرحات وحده الذي ساء حظه في كسب رزقه بقدر ما أن هناك شاعراً آخر صور تلك المعاناة في أفضع صورها وربما لم يسبقه شاعر آخر في إساءة حظه وحظ من حوله ـ مع الأخذ بعين الاعتبار في رواية هذه الأبيات ـ حين قال :
إن حظــي كدقيــق فوق شــوك نثـروه
ثم قالـــوا لحــــفاةٍ يوم ريح اجمعـــوه
تعب القـــوم وملوا ثم قالوا أتركــــــوه
إن من أشقــاه ربي كيف أنتم تسعــدوه
هذه هي معاناة الاغتراب وسوء الحظ ولكن تأتي الغربة ذاتية وقد تكون تغييراً لهوى النفس. وعلى كل حال ظل الإنسان يشرق ويغرب خلف الرزق ويقضي حياته بين كر وفر غير مهتم بأيام حياته الماضية ولا مكترث بسنوات حياته القادمة وهو يخاطر بنفسه في كسب غنائمه كما قال الشـــاعر:
خاطر بنفسك كي تصيب غنيمة إن الجلوس مع العيال قبيح
فيفارق الإنسان عياله ليحظى ببعض ما يكسبه لهم وأحياناً رغم الفراق الشاق قد لا ينال ما يتمناه وينال غيره ذلك كما قال الشاعر:
والرزق يخطئ باب عاقل قومه ويبيت بواباً بباب الأحمق
ولكن لا يمنع هذا الاغتراب من أن تكون الغربة بمجرد السفر والتنزه عند بعض الوجهاء أو الترويح عن النفس مع أن هذا الاغتراب مهما كان نوعه هو جزء من حياة الفرد وعمره.
والفرد لا يستطيع أن يوفر لنفسه شيئاً فهو بحاجة إلى المجتمع ليضم طاقته إلى طاقته فيعمل فيه بتكافل ليعيش خبرته وخبرة الآخرين, وهم جميعاً يستفيدون من خبرات السابقين ومما حققوه مضيفين إليها خبراتهم ليورثوها جميعاً اللاحقين ليتابعوا مسيرة الكفاح في تقدم مستمر نحو تحقيق تطلعات الإنسان وطموحاته في مستقبل أفضل.
والسلطان عند الحبابة عويوز في حكاياتها الشعبية هو ذلك الإنسان الذي رأى ظاهرة الزمن وأدرك الحركة وارتبط بالآخرين في المجتمع بغض النظر عن موقعه الاجتماعي في طبقات المجتمع الإنساني حاكماً كان أو محكوماً، قاطناً أو مغترباً، كما تصوره في أغلب حكاياتها على أنه القوة والعظمة والشجاعة والمتحدي للواقع من لطمات الزمن الجائرة وأن اغترابه قد لا يكون بحثاً عن الرزق وقد لا يكون زيارة دبلوماسية وإنما لأهداف متوخاة من حل الإنسان وترحاله. ومن المعروف أن السلطان بيده الأمر والنهي ويمكنه العيش في بلاده في أشهى صور الحياة وأعلاها وإنما ترى الحبابة عويوز فيه الشخصية التي باستطاعتها العيش داخل البلاد وخارجها ويمكن لهذه الشخصية الفذة الاغتراب والسفر إلى بلدان أخرى متى ما شاء.
والمتتبع للحكايات الشعبة يرى أن بطل هذه الحكايات هو السلطان وربما أن تسمية السلطان جاءت من أيام السلطنات, وعندما أعجب الناس بهده الشخصية الفذة وما تتميز به داخل المجتمع جعلوها بطلاً للحكايات الشعبية التى تتناقل عن طريق الرواية الشفوية. وليس بالضرورة أن يكون السلطان هو سلطان السلطنة نفسه بقدر ما هو سلطان الشخصية الرمزية في الحكايات الشعبية التى يعلق الناس عليها تحقيق ما لم يتحقق لهم والوصول بوساطتها إلى ما لم يستطيعوا الوصول إليه، لذا جعل الناس السلطان البطل الخيالي لحكاياتهم, وليس معنى ذلك أن الحكايات الشعبية هي تدوين لأسفار السلاطين إطلاقا ولم تذكر هذه الحكايات اسم سلطان بعينه وإلا عرفنا بالتحديد الفترة التي رويت فيها, وقد أوضحنا سلفاً تسمية الحكايات بالأسفار وليس بالضرورة أن يكون المسمى العامي يحمل المعنى الفصيح نفسه وبالمقابل لا نؤكد أن يحمل المسمى الفصيح المعنى العامي له بل ليس معنى ذلك القول أن يكون ناتجاً عن تطور اللغة أو انحطاطها.
وحتى ندحض قول المشككين في أصالة تراثنا الحكواتي نقول لهم إن هذه الحكايات ليست تدويناً لأسفار السلاطين أو أي من كان فالتدوين كما هو معروف يسجل الاسم بالكامل وإنما لفظة السلطان التي ملأت الحكايات الشعبية ما هي إلا رمز للقوة والنفوذ وأن هاتين الصفتين لا تأتيان إلا بالحركة, والحركة جهد إنساني فاتخذ الناس السلطان رمزاً للحركة والجهد في الحكايات الشعبية، لكي تجسد فيه قيمة الجهد الإنساني المبذول ضمن المجتمع لا لأن تجسد فيه جهد شخصية بعينها.
فاطمة بنت السلطان :
فإذا عرفنا من سياق الحديث أن السلطان هو رمز الجهد الإنساني المبذول بغض النظر قاطناً أو راحلاً فان ابنته (فاطمة) قد أوردتها الحكايات الشعبية رمزاً للتشرد والغربة القسرية. فلا تخلو حكاية من ذكر اسمها إلاّ وهي هائمة في الجبال أو أنها تحطب في الوادي كرهاً مع أنها بنت السلطان التي تعيش في القصر محروسة بخدمها وحشمها ولكن لهذا مغزى وبيان متناقضين بين الغربة وبين الجلوس في القصر.
ولأن شخصيات هذه الحكايات خيالية فليس غريباً أن يختار الإنسان السلطان رمزاً للقوة وابنته فاطمة رمزاً للضعف. وإن كان هذا التناقض بين القوة والضعف في هاتين الشخصيتين المتجانستين لكي يظهر حسن القوة مقابل الضعف المملؤ بالاستصغار والرثاء بين السلطان القوي وابنته الضعيفة والضد يظهر حسنه الضد .
والتضاد كما يستعمله الأدباء الفصحاء لتوضيح المعنى وتقويته فليس بالأمر المستبعد أن يستعمله الأدباء الشعبيون, لأن الفصحاء لم يكونوا كذلك إلا بعد ما تشبعوا بالأدب الشعبي صغاراً.
وهكذا روت الحكايات الشعبية عن فاطمة بنت السلطان التي تهيم في الجبال والأودية وبها تظهر حالة الناس في الفترة التي رويت فيها هذه الحكايات وهي فترة شظف وبؤس فلا راحة لحاكم ولا محكوم كما جاء في حكاية (الانتقام) التي سنتعرض لها لاحقاً وما تعرضت له فاطمة من قهر أدى إلى ضياعها في إحدى الأودية نتيجة لضعفها وبالمقابل ذُبحوا (ضانة) بدلاً عنها وحُفر لها قبر في سقيفة القصر (والسقيفة هي فناء عند المدخل الرئيسي للبيت) على أن يكون ذلك القبر هو قبر فاطمة بنت السلطان.
لكن هذا الفعل الذي ينوء بالمكائد ما لبث أن وقع فيه العائد, وأخذ يقرأ ويقرأ, ولن يسأل ويتجرأ, لأنه يعتقد أن في القبر فاطمة, ولم يدر بأنها في الجبال هائمة, لأنهم بذلك أخبروه, وبذلك الإيحاء أوهموه. وهكذا ظل السلطان يقرأ مرة وأخرى يبكي على الضأن, أمام البنات والصبيان, وينقلب القوي إلى مكسور, والضعيف في الوادي مستور. ويستمر على هذه الحال غير مبالٍ بالقيل والقال, حتى انكشف له ثوب الخداع, وخلع عن وجهه القناع وتبين له ما استتر وعرف سبب القبر الذي حفر, ومن في القبر قبر.
ملخص الحكاية الشعبية:
(يحكى أن السلطان كان يحكم بلاده وفي الوقت نفسه يعمل حطاباً من حين لآخر ومعه ابنته المسماة (فاطمة) وبنته هذه تساعده في جلب الحطب من الوادي إضافة إلى ما تقوم به من عمل في البيت بعد موت أمها.
وفي يوم من الأيام أشار السلطان إلى ابنته فاطمة ليتزوج من امرأة أخرى لتعينها في العمل في البيت والوادي لترتاح هي من ذلك, وبعد موافقة فاطمة تزوج السلطان وعندما عزم على السفر كعادته قال لزوجته: الله لله في فاطمة, هي أمانه في رقبتك حتى أعود من السفر. وهكذا تركها والدها السلطان عند زوجته بعدما أمّن أنها ستحافظ عليها وأصبحت الزوجة خادمة لفاطمة والبيت في آن واحد.
ولما غاب خبر السلطان سألت الخالة فاطمة: هل ترين من أبيك شيئاً؟
قالت فاطمة: قرمته.
وطرحت الزوجة (الخالة) السؤال للمرة الثانية: هل ترين من أبيك شيئاً ؟
قالت فاطمة: كوفيته.
وهكذا إلى أن قالت: لقد غاب كله.
اطمأنت الزوجة أن السلطان قد غاب فأجبرت فاطمة على الخروج إلى الوادي كرهاً للحطب تحت مبرر مساعدة والدها السلطان. وقد حاولت فاطمة إظهار نفسها على أنها بنت السلطان التي لا يمكن أن تخرج لمثل هذا العمل ولكن الزوجة أجبرتها على ذلك لأنها قد بيتت النيّـــة للتخلص منها في الوادي بعدما أحست الزوجة بالدونية والاضطهاد لخدمة فاطمة والبيت. ولما وصلتا الوادي أمرتها بأن تمشي هي في وادٍ وفاطمة في وادٍ آخر, حتى هامت فاطمة على وجهها وتاهت بين الجبال, ولما يئست من التعرف على الطريق الصحيح إلى البيت جلست تبكي بقرب صخرة كبيرة حتى انشقت الصخرة إلى نصفين فدخلت فاطمة في الشق فإذا هي في مغارة للجن فأخذوها وأعجب بها أحدهم فتزوجها وأنجبت له عدداً من الأولاد.
وفي يوم من الأيام بعدما تأكدت الزوجة من أن فاطمة قد ماتت بالوادي جوعاً وعطشاً عرضّت بعضاً من البر الحب ( القمح ) كعادتها للشمس فوق سطح البيت (الريم) وكان أولاد فاطمة الجن ينقلبون إلى طيور يأكلون بر الزوجة فتقول للطيور: ((ذي لكن ديّــــة ! من وين جئتن يا طيور الجن ؟ )) فقالت لها الطيور: ((الديّة تدي بوش, والبر ما هو بر بوش, البر بر أبو فاطمة لي في الجبال هائمة))
وبعد أسبوع فقط من هذا الحدث انتشر خبر قدوم السلطان فقامت زوجته بذبح (ضأنة) ودفنتها في سقيفة القصر وعندما وصل السلطان أخذت الزوجة تبكي وتبكي فسألها السلطان عن سبب البكاء, فقالت: إن فاطمة قد ماتت ومن حبي لها دفنتها في السقيفة. فبكى السلطان وجلس يقرأ على القبر وعندما سمع الأطفال أن السلطان يقرأ يرددون: (السلطان يقرأ على الضأن, السلطان يبكي على الضأن) فاستغرب السلطان من حديثهم وسأل عما يرددوه, فقالت له الزوجة إنهم يريدون بعض الهدايا فأعطاهم من صاروم وكوفية. ولما كرر الأطفال سجعتهم تلك عرف أن في الأمر شيئاً حتى عرف أن القبر المحفور في السقيفة ليس قبر ابنته فاطمة, فأنتقم من زوجته بذبحها وطبخها مع الأرز وقدمها كعزومة لأهلها الذين سألوا عن غيابها وأجابهم السلطان بعد أن فرغوا من الغذاء بأنها في بطونهم. أما خبر فاطمة فقد تتبع السلطان الطيور (أولاد فاطمة) إلى أن وصلوا تلك الصخرة فوجد فاطمة هناك واستأذن ملك الجن و أخذ ابنته وعاد بها إلى البيت))
هذا ملخص ما سمعته عن حكاية (الانتقام) حيث إنها حملت مجموعة من الأفكار منها:
1 ـ خروج السلطان للحطب مع أنه سلطان.
2 ـ إحساس زوجته بالمعاناة والاضطهاد لخدمة فاطمة والبيت .
3 ـ إجبار فاطمة على الخروج إلى الوادي .
4 ـ مكيدة الزوجة لفاطمة .
5 ـ انتقام السلطان من زوجته وتفهمه للطيور .
والحبابة عويوز تتفنن في رواية أحداث هذه السفرة ليتعرف الأطفال أن الناس سواسية ولكل شخص حق في العمل والحكايات جميعها تحث على العمل مثلما حثت الكثير من الروايات الأدبية العالمية على أحقية الإنسان للعمل. فقد دعا الأديب الروسي (مكسيم غوركي) في قصتة (عندما قبلنا الأرض) الإنسان إلى الإيمان بقدرته على عمل المستحيلات وتطويع الطبيعة وتذليلها وتقديس فكرة العمل وخاصة إذا انطوت على خير عظيم يعود على الإنسان بالنفع والفائدة.
وإذا أخذنا ميزة العمل كحادثة من أحداث هذه الحكاية نجد الحبابة عويوز في سردها لهذه الحكايات الشعبية إنما تحث الأطفال على حب العمل بغض النظر عن موقع الإنسان الاجتماعي حتى إن كان يعتلي عرش السلطنة, فالعمل شرف لصاحبه كما تمقت التطفل والعيش في البحبوحة على حساب الآخرين, وحتى بنات السلاطين طالبتهن بالعمل ولا عيب في ذلك. وإن رأينا في الحكاية تشرد فاطمة وضياعها بين الجبال إلاّ أن جميع الحكايات الشعبية تظهر فاطمة بنت السلطان في مظهر التشرد والغربة القسرية.
الانتقام والخلافة:
وتظل فاطمة رمز التشرد والمعاناة في الحكايات الشعبية ويظل السلطان رمز القوة والمتحدي لكوارث الزمن. ولنا أن نطرح الأسئلة التالية:
1 ـ لماذا أقدمت زوجة السلطان على التخلص من فاطمة بإضاعتها في بطن الوادي؟
2 ـ ولماذا انتقم السلطان من زوجته بهذه الطريقة البشعة؟
3 ـ وهل فاطمة تستحق الموت جوعاً؟
4 ـ وهل تستحق الزوجة الموت بالطبخ؟
5 ـ وهل هناك تشابه بين حكاية (الانتقام) الشعبية و(خلافة) سعيد عولقي من حيث المشكلة الاجتماعية والنفسية؟
إن سلطان الحبابة عويوز وبطل حكايتها الأخرى لم يخرج للانتقام في حكاية (الانتقام) ولكنه عاد لينتقم من زوجته التي أضاعت ابنته في بطن الوادي, وكأنها تقطع بذلك اغتراب الإنسان. وأما احتدام الصراع في هذه اللحظة يمثل عقدة الحكاية, وفي الوقت نفسه نرى هذه الزوجة وهي تمثل حالة البؤس والاضطهاد في المجتمع والتي التقت السلطان وأصبحت زوجة له وذاقت ما ذاقت منه ومن ابنته, كما عانت من الطيور التي تأكل كل ما لذ لها وطاب من حبوب وتعود إلى وكناتها لا تأبه بسلطان أو طاغية. ويتبين لنا ذلك عندما طرحت الزوجة البر الحب وما دار من حديث بينها والطيور. ولكثرة ما تحس به الزوجة في بيئة دخيلة عليها وقلة حيلتها تجاه السلطان قررت أن تحبس أنفاسها حتى عودة السلطان من السفر بعد التخلص من ابنته فاطمة فأجهشت بالبكاء وذرفت الدموع المصطنعة حتى عرف السلطان أن هذه الدموع ما هي إلاّ دموع تماسيح فانتقم بطبخها مع الغذاء وتقديمها كوجبة دسمة لأهلها.
هذه الحكاية واحدة من حكايات الحبابة عويوز لكي نتعرف فيها عن مفهوم السلطان كبطل خيالي لمجمل حكاياتها بصرف النظر كان حاكماً أو محكوماً, سلطاناً يجلس في قصر حكمه أو سلطاناً يحمل فأسه ويخرج للحطب.
وتكاد حكاياتنا أن تكون واقعاً معيشاً في فترة ما ولكن القصاصين الشعبيين يضيفون براعتهم وخيالاتهم عليها. ويظهر لنا جلياً في هذه الحكاية من يخرج عن طوع السلطان ذي القوة والجبروت. والمفهوم العام في هذه الحكاية يجرنا إلى معاناة الزوجة التي تمثل المظلومين من الناس للخروج عن المألوف النظامي للمجتمع وما يتعرض له البشر الضعاف من حكم السلطان و جبروته المتسلط على رقابهم حتى أقرب المقربين منه كزوجته.
ونرى الزوجة من حيث المشكلة الاجتماعية والنفسية في حكاية (الانتقام) هي نفس مشكلة (فضيل) في قصة (الخلافة) للقاص / سعيد عولقي في مجموعته (الهجرة مرتين) مع أن حكاية الانتقام لا تشير إلى الفترة الزمنية التي دارت فيها أحداث هذه الحكاية وتفتقر إلى الخلفية التاريخية بمفهومها الأدبي كصعوبة تحديد الزمن الذي تتحرك فيه شخوص الحكاية إضافة إلى الاختلاف البسيط في أن (فضيل) سعيد عولقي مزارع بسيط مقهور قادم من أعماق الريف الذي تحتويه المدينة بمخالبها وتناقضاتها الطبقية الحادة ليشتد إحساسه الداخلي بوطأة الاستغلال الاجتماعي وشراسة التمايز الطبقي فيحتدم الصراع الداخلي ويعقد العزم ويبيت النيّة على الانتقام والتمرد حتى يعتلي (منصة السوق) بدلاً من غريمه (الحاج فارع) من حيث إن زوجة السلطان تحس بالاضطهاد نفسه من ابنته فاطمة رغم قربها من السلطان بوصفها زوجة إلا أن إحساسها بالدونية والنقص والضعف وسط مجتمع السلطان القاسي الذي لا يرحم ويطحن برحاه البائس والفقير بل القريب المقرب منه على حد سواء وكل من يخرج عن طوعه وقد رأينا نهاية الزوجة في الحكاية.
فالمشكلة الاجتماعية في (الانتقام) و(الخلافة) هي التمايز الطبقي بين فئات المجتمع . فـ (فضيل) و(زوجة السلطان) يمثلان تلك الطبقة الفقيرة من المجتمع إضافة إلى طموح الزوجة في اعتلاء قصر السلطان والتحكم فيه كونها زوجته بدلاً من ابنته فاطمة التي تخلصت منها ليخلو لها الجو, و طموح فضيل في اعتلاء منصة السوق لتحقيق أهدافه الخاصة به, و لهذا جنيا الحسرة و الندم0 بينما نرى (الحاج فارع) في قصة الخلافة و(فاطمة) في حكاية الانتقام يمثلان الطبقة البرجوازية في المجتمع.
أما المشكلة النفسية هي شعور فضيل في (الخلافة) و زوجة السلطان في (الانتقام) بالدونية. ففضيل يستجدي الليل أن يضع حداً لأرقه, وزوجة السلطان تفكر في كيفية الخلاص من فاطمة. وهناك تشابه واختلاف في بعض الأحداث بين القصتين. ومادمنا لا نهدف من الكتابة إلى المقارنة بين القصص الأدبية والحكايات الشعبية فقد بيّنا فقط سبب قدوم زوجة السلطان على ما أقدمت عليه تجاه ابنته فاطمة, لذا أبرزنا المشكلة الاجتماعية والنفسية للحكاية وما خلفته معاناة الزوجة رغم المعاشرة التي فضحتها جواهر الأخلاق ورغم خدمتها للبيت وإحساسها بالمرارة المستمرة ناهيك عن دور فاطمة المتطفلة كالبعير الذي يأكل التخ ولا يعصر كما يقولون.
كما نرى في الحكاية احتدام الصراع الطبقي بينهما في عقدة الحكاية وإصرار زوجة السلطان على خروج فاطمة للحطب في الوادي, ليس خروجاً قصد الخروج وإنما لإشعار فاطمة بما تكابده من خدمة البيت والتخلص منها بأية طريقة.
وكل ما عملته الزوجة من مكائد لفاطمة إنما كثورة نفسية من هذا الاضطهاد وتخفيفاً لوطأة المعاناة والإحساس بالحسرة حتى وإن أدى ذلك إلى الموت المحتوم. وشعورها بالدونية حتى وإن كانت بمثابة السلطانة لأنها من طبقة دونية وقد قال الشاعر القديم:
الحر حرٌ وإن مسه الضر والعبد عبدٌ وإن ملك الدر
مع أنها لم تتحرر ولم تملك الدار ولم تبلغ مرامها.
وأما ذبح الزوجة (ضانة) ودفنها في السقيفة ليس إلا تمويه للسلطان وفي الوقت نفسه ليتكسب ضعاف الناس من ريع السلطان (صاروم وكوفية) وهذا أقل القليل قبل أن يعرف السلطان حقيقة الأمر.
هذا مثال لحكايات الحبابة عويوز ليس لعرضها أو لسردها ثم تحليلها أو نقدها لأن هذا من اختصاص الأدباء والنقاد لمعرفة لغة السرد في قصة الخلافة وحكاية الانتقام المتناقضتين في بنية الطرح القصصي, ولكن طرحنا الحكاية إنما نموذجاً لإبراز أهمية الأدب الشعبي النثري حتى نعطي للقارئ الكريم والمهتمين بالتراث الصورة الواضحة لفن الحكايات الشعبية حتى يعيشوا ما أمكنهم ذلك مع هذه الحكايات وليكتشفوا أثر الواقع الموضوعي والاهتمام بهذا التراث الفني المنسي, ولهذا لم نتناول كل شخوص الحكاية. وفي الأخير يبقى كل بطل يتكلم على سجيته ليكون أقرب إلى الواقع في الحال والمقال.
وقد سبق أن قلنا إن السلطان في الحكايات الشعبية هو الإنسان الذي وعى الزمن وأن هذا الزمن هو القيمة الإنسانية المرتبطة بجهده. فمعنى ذلك أن الحكايات الشعبية اتخذت من السلطان مثالاً للجهد الإنساني في حلّه وترحاله؛ عاملاً في بلده أو خارجه, وجسدت فيه الحركة الدؤوبة والسعي المستمر وقد قال تعالى: (( وإن ليس للإنسان إلا ما سعى ))
إذن فهذا السعي الدؤوب للسلطان في الحكايات الشعبية إنما هو تعليم بحد ذاته يتعلم منه الأطفال حب العمل مهما كانت درجة الإنسان في طبقات المجتمع، غنياً كان أو فقيراً معدماً، مع أن أكثر الحكايات الشعبية لا تعير اهتماما لصفة الغنى لأنها نشأت في ظروف معيشية صعبة وقاسية حتى أنها تصور لنا السلطان في الحكاية السابقة يعمل حطاباً. فهل من سلطان في الدنيا يعمل كذلك؟ لا أعتقد ذلك وإنما إيمان القصاصين الشعبيين لحبهم للعمل جسد ذلك.
وخلاصة القول أن السلطان هو القوة الخارقة التي تتحدى مكاره الزمن بوساطة العمل, ومع ذلك فهناك تناقضات كثيرة في المجتمع الواحد وهذا مسلم به، فكلما تجد الإنسان العامل تجد العاطل والمتطفل وتجد الشاذ الذي يتجرأ على أكل الأطفال عندما يتضوع جوعاً، فكل هذا بلا شك هو سلسلة الجهد الإنساني بل هو تاريخ جهد الإنسان بكل ما فيه من خير وشر.
وكما أسلفنا القول إن السلطان يأتي ملازماً لابنته (فاطمة) في الحكايات الشعبية فبقدر ما يمثل السلطان الجهد الإنساني الخيري, نجد فاطمة تمثل المعاناة والبؤس والشقاء الذي يؤدي إلى التشرد ليس في حكاية واحدة بحد ذاتها بل في جميع الحكايات الأخرى التي يأتي اسمها كإحدى الشخصيات المهمة في الحكايات والتي تعني الضياع. وربما تكون حكاية (الضحية) هي جوهر المعاناة لفاطمة وهي ما تتردد كثيراً على ألسنة الناس, وذلك عندما تزوج السلطان بامرأة حسناء أنجبت له بنتاً جميلة لا تشبهها بنت في جمالها ولسوء حظها ماتت أمها وهي صغيرة فتزوج أبوها السلطان بأخرى أنجبت له بنتاً أيضاً اسماها (فاطمة) وهي لم تكن على قدر من الجمال. فشبت البنتان إلى أن بلغتا سن الزواج فجاء رجل ليخطب ابنة السلطان الكبرى المتميزة بجمالها ولكن السلطان وبأمر من زوجته الثانية خدعا الرجل وأعطياه بنتهما الصغيرة (فاطمة) على أنها البنت التي يريدها زوجة له بعدما أخفيا البنت الكبرى ذات الجمال المميز، فتزوج الرجل من الصغرى، وبعد أيام من زواجه ذهب لزيارة السلطان في قصره فرأى البنت الكبرى الجميلة فعرف الخداع الذي وقع فيه فكتم سره وحبس غيظه وعاد إلى بيته بزوجته المسكينة فاطمة وأخذ يفكر في حيلة للتخلص منها. وبعد ذلك قرر أن يأخذها إلى مكان بعيد في أحد الأودية كي يتخلص منها بعدما عرف أنها ليست من طلبها.
فهامت فاطمة على وجهها بين الجبال حتى رأت قطاراً من الناس مارين بالوادي سألتهم عن والدها السلطان إن كانوا يعرفونه فقالوا: ومن لا يعرف السلطان؟ فقالت لهم تلك المأثورة الشائعة:
ياذا القطار ياذا القطار سلم على أمي وبوي
وقل لهم شي فاطمـــة تحت الجبال الهائمة
وهكذا كانت فاطمة ضحية الحسد والغيرة مع أن الحكاية لم تفند نجاة فاطمة من عدمه أو كيفية تصرف السلطان بعدما وصل إليه الخبر في هذه الحكاية.
هذا ما سمعته فقط عن حكاية (الضحية) المبتورة مع كثرة انتشارها ولكن يكفينا أن نعيش معاناة فاطمة. فهل هي ضحية أم أن هذا تضحية ؟
الحكايات الشعبية مليئة بالإيثار والتضحية فالخروج إلى الوادي للحطب ومقارعة الخطوب هو بحد ذاته تضحية وما ألذها تضحية في قضاء اليوم مع الجن والوحوش في الوادي لكسب اللقمة الحلال بقدر ما نجد داخل المجتمع من متطفلين ومتربصين يستفيدون من خلوة البيوت..