دراسات
أ.د. عبدالعزيز سعيد الصيغ
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 5 .. ص 59
رابط العدد 5: اضغط هنا
صدر في الشهر المنصرم سبتمبر 2016 كتاب مهم للباحث المعروف باهتمامه بالتراث الأستاذ عبدالله صالح حداد بعنوان ( معجم شعراء العامية الحضارمة ) وهو عنوان يدل على أهمية الكتاب وعلى همة الكاتب العالية، وعلى مهمة شاقة جدًا تصدى لها الباحث.
والكتاب موسوعي لاشك كما ذكر الباحث في المقدمة، وأي معجم لا يكون موسوعيًا؟ فهنيئاً للأستاذ عبدالله هذا الإنجاز الكبير، وسوف يكون لهذا المعجم ما بعده فهو مرجع المراجع ، وسوف يحتل موضعه في مكتبة الشعر الشعبي والتراث الشعبي.
لقد فعل خيرًا وأقدم على خطوة كبيرة بإخراجه هذا العمل الكبير الذي تردد في إخراجه كثيرًا، وكان لتردده أسبابه المنطقية، والواقع أن كل من يؤلف عملاً كتابيًا أو غير كتابي تراوده هواجس كثيرة في أن ما صنعه ليس في المستوى، وهي هواجس طبيعية تهجس بها النفوس السليمة، التي لم تمتلئ عُجـْـبًا، حتى إذا أصابها العُجـْب رأت كل ما تفعله أو تقوله محط إعجاب الناس و إكبارهم.
إن الجهد الذي زخر به المعجم يعد تاجًا على رأس الأستاذ عبدالله يجب أن يفخر به وأن لا يرى في ما يبدو على معجمه من نقدات ما يقلل منه ، أو ينال من هذا الجهد، والأستاذ عبدالله تمرس بالبحث ولكنه كان قليل النشر، قليل التعرض لآراء الآخرين في ما يكتب ، وهو بهذا المعجم وضع بضاعته كاملة للنقد لينال منه من يشاء، وهذا فعل الباحثين الأشداء.
والواقع أن الخوض في عالم المُعْجمات خوض في بحر من بحور البحث والمعرفة، والتصدي لمساحات واسعة من العلم، ويحتاج إلى أدوات بحث عالية الدقة ، وقد امتلك الباحث كثيرًا من هذه الأدوات، وهو أحد الباحثين المخلصين للبحث في التراث، ويكتسب أهمية خاصة، فقد أفنى زمنًا طويلًا منشغلًا بالتراث والشعر ، وقد جاء في كتابه أنه قد مر على كتابه هذا ثلاثون عامًا منذ أن كان فكرة.
حوى الكتاب ثلاثمائة وخمسة وتسعين اسمًا، منها سبعة أسماء أدرجت في قائمة شاعرات عاميات وشعراء آل الجابري وشعراء آل بامسعود ، وقد تفاوت الحديث في هذه الأسماء وليس بالأمر السهل أن لا يقع ذلك.
المعجم تميز بمميزات كثيرة منها :
وقد قمنا بمراجعة الكتاب وأبنـَّـا في مراجعتنا كثيرًا من الهفوات التي وقع فيها الباحث، وسجلناها في هذه الأوراق، ونرجو أن يكون لها موقعٌ في الطبعة القادمة.
توزعت ملاحظاتنا على المعجم على أقسام ثلاثة، قسم اختص بالجانب المنهجي ، وقسم اختص بالجانب اللغوي، وقسم اختص بالشعر ، وهي على النحو الآتي:
ما هو المنهج الذي اتخذه الباحث في معجمه ؟ وما هي المساحة الزمنية التي تحرك فيها المعجم ؟ وهل التزم الباحث بقوله: ” إنه لم يميز بين الشعراء“؟ [1] وهل أقام اختياراته الشعرية على أسس معينة ؟ وهل التزم بنصيحة شيخه الراوية عبدن حين قال له : ” اختيار أجود ما قالوا ولو قصيدة أو أبياتًا من قصيدة“.[2]
يذكر الباحث في مقدمته قوله: ” كتبت محاولتي وأنا واقف معتمدًا على مكتبتي الصغيرة وما دونته مما وصل إلي عن هؤلاء الشعراء العاميين عن طريق الرواة والكتب والمجلات والجرائد ووسائل النشر المختلفة، وربما يكون هذا عذرًا لي أختفي خلفه من عيوب النقص والنسيان والأخطاء، وقربانًا للنقاد من عشاق فن الشعر العامي وعموم الباحثين“.[3]
وقد نتج عن هذا الوقوف والاعتداد بمكتبته والاكتفاء بها عدم تتبع أخبار الشعراء لا سيما القريبين الذين ليس بيننا وبينهم إلا سنوات وأخبارهم يتناقلها الناس ، وقد لفت انتباهي ألا يستوفي أخبار شعراء قريبين زمنيًا، فمثلًا الشاعر عبيد بن سنكر، يكتفي بالقول عنه إن بامطرف قال عنه إنه شاعر قصيد وسائق سيارة وأن عبدن ذكره له مرات ولا يزيد، في حين أن الرجل إلى جانب كونه شاعرًا ظريفًا فهو شخصية اجتماعية بارزة في زمنه، ومعروف عند الكثيرين، و المعجم يسكت عن أخباره، أي أن هذا شاعر أخباره متوافرة ، ولا يذكر عنه شيئًا، وإنما قيمة المعجم بما يقدمه من أخبار الشعراء، وهؤلاء لم يكتب عنهم وهم قوة للمعجم ، ذلك لأن كثيرًا من الشعراء الذين كتب عنهم الآخرون، أخبارهم محفوظة في مراجع أخرى.
الذي يثير الاستغراب أن الباحث لم يوثق نقوله من الآخرين، فلم يتميز كلامه من كلام الآخرين ، وعلى الرغم من أنه يذكر كتبًا متعددة في معجمه فإنه لا يحيل إلى أي صفحة في كتاب، ويأخذ من مجلات من غير أن يحيل إلى صفحة منها، فقد ترك مسألة منهجية لا يستغني عنها أي باحث يتصدى لبحث صغير فضلًا عن معجم كبير.
يذكر الباحث أن معجمه ” سل من كتاب الأستاذ بامطرف بدرجة رئيسية، ومن غيره من الكتب والدراسات والأبحاث والمقالات مخطوطة ومطبوعة“.[4]
كما ذكر ما يشبه الخطة في ترجمته للشعراء بقوله: ” جعلت الترجمة في أوجز صورة مركزا على اسم المترجم له وتاريخ ميلاده ، ووفاته ، ومكانها ، مع ذكر إنجازاته وما كتب عنه“.[5]
من هذا نجد أن الكاتب قصر في خدمة معجمه هذا، فقد اعتمد على مكتبته التي وصفها بالصغيرة اعتمادًا شبه كلي ، وتكررت عنده عبارة : ” لم أجد فيما بين يدي“،[6] كما اعتمد على كتاب بامطرف ، وربما لا يقدم للمترجم له خبرًا غير أنه ذكر في كتاب بامطرف، وكأن الإحصاء هو هدف من أهداف المعجم وليس الترجمة للشعراء.
لقد تبين من خلال متابعة المعجم أن الباحث لم يسر فيه على خطة منهجية، وهي بوصلة الباحثين، ويحتاجها كل من يتصدى لكتابة موضوع فضلًا عن كتاب فضًلا عن معجم بهذا الحجم الكبير، وقد حاولنا تصنيف الملاحظات المنهجية ، فحصرناها في جوانب ثلاثة:
أولاً : أسس الاختيار : ( الشعراء والشعر )
لم يذكر الكاتب أسسًا اعتمدها لاختيار الشعراء، ولاختيار الشعر ، ولابد أنه كان في ذهنه أسس للاختيار، منها ـ كما يستنتج ـ شرط واضح يدرك من قلب المعجم وهو شرط الوفاة، فلم يدخل في معجمه أحدًا من الأحياء، وهو مقياس له مسوغاته، ولكنه لم يضبط هذا الأساس ففاته الكثير من الشعراء الذين قضوا نحبهم، أما غير هذا الأساس كالزمن الذي عاش فيه الشاعر، فإن الكاتب ترك الباب مفتوحًا كما يبدو حتى اتسع المعجم لمن عاش قبل خمسمائة سنة ، وكذلك كثرة الشعر وقلته وهو من المقاييس المتعارف عليها في الشعر، أو جودة الشعر ، فإن الكاتب لم يضعها أمامه كما يتضح، و قد وقفنا على ذلك في العناوين الآتية:
شروط من أدخلهم دائرة المعجم:
هل وضع الكاتب شروطًا لمن يحق لهم الدخول في دائرة المعجم؟، لا بد أن يكون هناك منهج، يشترط شروطًا للشعراء الداخلين في دائرة المعجم، كأن يكون الشاعر له ديوان مثلًا ، أو له عدد من القصائد ، أو له شعر يتسم بالجودة العالية، أما إن كان كل من قال شعرًا صار له حق الدخول فإن ذلك منهج غير علمي ، فلا يقال وصف الشاعر إلا على من عرف عنه الشعر وشاع.
ومن اللافت أن عددًا من الذين ترجم لهم أعلن أنه لا يعرف عنهم شيئًا ، كقوله عن الشاعر سالم عبدالله الكســادي : ” لا أعرف عنه شيئًا ، فلم يترجمه أي مما هو بين يدي من كتابات” [7] ، والشاعر علي باجراد الذي قال عنه : ” لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من كتابات تهتم بالشعر العامي” [8] ، بل إن الكاتب أدخل الشاعر عوض سعيد باعامر الذي عرّفه بأنه: ” من عشرات الشعراء الذين طمست أخبارهم واندثرت أشعارهم لعدم الاعتناء والتدوين”.[9] وهل على الكاتب بعد أن تطمس أشعار الشاعر وأخباره لوم؟، بل اللوم عليه في أن يجعل له ترجمة.
وعدم المعرفة سبب لتركه ، ولو أنه وضع أسسًا لمن يصح له الدخول لأراح واستراح، ولكان ذلك أقرب إلى المنهج الصحيح ، ويمكن أن يجعل في معجمه حيزًا لمن ضاعت أخبارهم، وأشعارهم.
الاختيارات الشعرية:
كيف تعامل الكاتب مع الاختياراتالشعرية؟ وما هو المنهج الذي اتبعه في هذا التعامل؟ هل ألزم نفسه باختيار نماذج شعرية لكل صاحب ترجمة أو أن الأمر توقف عنده على الظروف أو كما قال: ” أما النماذج التي وردت منسوبة لأصحابها فقد اخترت أو كلفت على اختيارها إذا لم أجد غيرها ، أما هذا الشاعر أو ذاك وظني أنها تبين أهدافه من قرض الشعر” .[10]
وبمتابعة المعجم نجد كثيرًا من الترجمات قد خلت من وجود نماذج شعرية، من مثل الشعراء أبوبكر العدني،[11] وأحمد بن حسين التريمي،[12] وأحمد عبدالله السقاف،[13] وأحمد عبود باوزير،[14] وأحمد عمر باحويرث،[15] وجمعان عوض فطحان.[16]
والكاتب لديه إشكال في الاختيارات الشعرية، فإلى جانب عدم التزامه باختيار نموذج لكل صاحب ترجمة ، وهي التي تقدم هذا المترجم له للقارئ، نجده لا يعنى كثيرًا بتقديم أفضل ما لدى المترجم له.
واختيار الشعر له جوانب منها أنها تظهر ذائقة الكاتب ، وتبين حسن معرفته بالشعر، وبالجيد منه ، وعادة ما يتصدى لموضوع الاختيارات النقاد الذين لهم قدم راسخة في الشعر، وقد فرط الكاتب في مسألة الاختيارات حين قدم كثيرًا من الشعراء من غير نماذج، وحين قدم كثيرًا منهم في نماذج شعرية لا توضح تقدمهم الشعري وهم متقدمون.
التناسب بين الشعر والقائلين:
الصلة بين الشعر والشاعر صلة تلقائية فالشعر يبين عن هوية صاحبه، و نتعرف من خلاله على شخصية الشاعر، وربما أبان الشعر عن قوة شخصية وجاءت الأخبار بما ليس معروفًا به، ولكن هناك قاسم مشترك بين الشاعر وشعره، والحال هنا اختياري، يختار الكاتب فيه أمثلة تتناسب مع ما يقوله عن الشاعر ، فالأولى أن يذكر ما يؤيد قوله فيه، لا سيما أن المختار من شعر الشاعر هو أبيات قليلة.
وقد بدا في أحيان أن هناك تناقضًا بين شخصية الشاعر والمختار له، كما حدث في ترجمة الشاعر أحمد زين بلفقيه الذي جاء في التعريف به أنه : ” أكثر تحررًا ووعيًا وأبعد رؤية “،[17] ثم نجد الشعر الذي تمثل به للشاعر يقول:
صبر يا ( بن دويل ) إن تبا عيشة بطـــونك
ترك فكـــــــرك وعـقلك تـرك باقي شئونك
قنع بالقــــــــــرص والثـوب لو با يشنقونك
المتروكون:
تتصل بمسألة اختيار الشعراء المترجم لهم، مسألة حصر الشعراء الذين تنطبق عليهم شروط الاختيار، ولا يبدو أن الكاتب حرص حرصًا على حصر الشعراء ، لا سيما الذين هم قريبون زمنيًا منه، فقد خلا المعجم من عدد كبير من الشعراء، منهم من هو معروف لكنه ذكر في معجمه معاصرين له، و على امتداد الفترة الزمنية الواسعة التي تحرك فيها المعجم، فإن المتروكين أعداد كبيرة، ولكن الذي يمر على الذهن من شعراء المكلا على سبيل المثال عدد، منهم الشاعر محمد عوض بكير، والشاعر عوض سعيد بكير ، و الشاعر محمد سعيد بكير، وأسرة بكير أسرة لها مكانتها في تاريخ الشعر في المكلا.
ثانيا: المصادر :
لاشك أن من الأسس المنهجية في عمل معجم كهذا تحديد المصادر وترتيب أهميتها، والمعروف أن المصادر ” منها ما هو أصيل ومنها ما هو فرعي ثانوي”[18]، و الأصيلة منها مدونات مكتوبة وروايات مسموعة، ومن سمات الأصالة قدم المصدر، سواء أكان مكتوبا أم مسموعًا.
ويبدو أن المؤلف لم يعر هذه المسألة ما تستحق من اهتمام، حيث تساوت عنده المصادر مكتوبة ومسموعة، البعيد منها في الزمن والقريب، وسوف يتضح ذلك من الأسطر القادمة.
مصادر التراجم:
ذكر المؤلف في نهاية معجمه عددًا كبيرًا من المصادر المطبوعة والمخطوطة، غير أن هذه المراجع لا تجد لها صدى في الكتاب، فكثير منها لم يشر له المؤلف إطلاقًا، وهو لم يضع الرواة في قائمة المصادر التي أخذ عنها، وإن ذكر بعضهم في معجمه.
وكثير من المترجم لهم من الذين عاصرهم الشاعر أو التقى بمن عاصرهم لم يكتب أحد عنهم ، ولم يُوْلِ المؤلف العناية بهم، وهم لو اهتم بهم لكانوا القيمة الأبرز في معجمه؛ لأن أخبارهم وأشعارهم لم توجد في كتاب ، وسيكون معجمه هو المرجع الوحيد الذي يحفظ شعرهم وأخبارهم، واللافت للنظر أنه كرر عبارة : ” لم أجد له ترجمة في ما بين يدي من كتابات”[19] ، وهذه العبارة تسقط عنده الاهتمام بالرواية ، والرواية من أهم المصادر التي كان ينبغي الاحتفال بها.
منازل المترجمين:
مما لا شك فيه أن الشعراء تتفاوت أقدارهم كما تتفاوت أقدار العلماء وأصحاب كل صناعة، بل حتى الناس ، ويلاحظ المتابع للشعراء في هذا المعجم أن الكاتب لا يحرص على الوقوف عند كبار الشعراء والمبدعين وإيلائهم ما يستحقون من تقدير ، ومن ذلك على سبيل المثال ترجمة الشاعر أبوبكر بن شهاب،[20] وهو شاعر كبير في العامية كما هو في الفصيح، وبنظرة عابرة على ترجمته تبين ذلك.
لا يحتفي بالشعر ولا بالشعراء ولذلك يمر شعراء كبار دون أن يوفيهم حقهم من التعريف، مثل: أحمد عبود باوزير، أحمد بكير، باحريز ، سالم بانبوع ، وقد يصل عدم الاهتمام حده كما فعل مع كثيرين، كما أنه يطيل بشكل لافت للنظر في الحديث عن شعراء ويتعامل مع آخرين بإهمال بائن.
ثالثا: الأخبار والشعر والتوثيق:
تحقيق الأخبار:
كما ترك الباحث في الكتاب توثيق المعلومات، و إسناد الأقوال لقائليها من الرواة، ترك تحقيق الأخبار عندما تتعدد ، في عام مولد أو وفاة، فهو لا يرجح قولًا على قول، وإنما يدع القارئ محتارًا يأخذ ما يريد ، ففي ترجمة الشاعر عوض سبيتي يقول: ” عاد إلى مسقط رأسه الديس الشرقية وتوفي عام 1967 م .الأستاذ بامطرف قال: توفي 1963 ( التراث وصناعة الشعر)، وعند الدكتور عبد الباسط الغرابي أنه توفي عام 1965 “.[21]
والغريب أن هذه الفقرة التي تقل عن السطرين ذكر المؤلف فيها ثلاثة تواريخ لوفاة الشاعر عوض سبيتي ، والشاعر من منطقة قريبة جدًا من مدينته الشحر، وأمر الوصول الى رأي حاسم في هذه المسألة أمر سهل ، ثم إن اتباع منهج في تحقيق الأخبار يغنيه عن هذه الحيرة التي يترك القارئ فيها.
ويتكرر الأمر في ترجمة الشاعر العطيشي وهو أيضًا من منطقة قريبة من منطقة المؤلف فيذكر خلافات في تاريخ وفاته قائلًا: ” يؤكد بامطرف انها 1364 هـ / 1944م ، ويذكرها مجدي باحمدان أنها 1361 / 1942 ، ويقول الأستاذ عمر محفوظ باني أنها عام 1373 هـ /1954 م ، ويأتي تاريخ الوفاة عند محمد عبدالرحمن باحارث أنها 1372 هـ / 1953م، وتأتي هذه عند الراوي الشاعر عوض عبدن بأنها 1361 هـ / 1942م “.[22]
ولم يكلف الباحث نفسه الوقوف أمام هذه التواريخ المتضاربة، ليخرج منها برأي مفيد، ولم يوازن بين الشخصيات الناقلة ليرجح شخصية على شخصية ، وبنظرة متأملة يمكن الوصول إلى رأي راجح سديد ، ففي مثل هذه الأخبار ، يكون المعول على المتقدم لقربه من المتوفى، ويكون المعول على الأعلم لكونه أقدر على التمحيص، وقد اتفق عبدن وباحمدان في ذكر تاريخ واحد للوفاة، والمتقدم عبدن فلا مجال لذكر باحمدان ، وينحصر الخبر وصحته بين عبدن وبامطرف لقدمهما وتقارب التاريخ بينهما وهو (1944م و 1942م ) وقد عاصر المؤلف وجالس كليهما ، وبامطرف ثبت رأيه في كتاب ، أي أنه أذاعه ولو كان هناك من قدم له تصحيحًا لكان ذكره في كتاباته الكثيرة فالأرجح هو قول بامطرف لقدمه وعلمه.
فالفقرة تؤكد أن المنهجية عند حداد ليست حاضرة ، وأنه يساوي بين كل من يقول قولًا ، أو يبدي رأيًا، وهذه ليست من صفة الباحثين.
التوثيق:
من اللافت أن المعجم خلا خلوًا تامًا من توثيق المعلومات، فلا إشارة إلى المراجع ، وإذا ذكرت فلا إشارة إلى موضع المعلومة في المرجع ، وليس في الكتاب ذكر لمكان الخبر والصفحة.
ففي نهاية ترجمة الشاعر محمد بن زغيو يشير قائلًا : ” ملخص مما كتبه الدكتور عبد الباسط الغرابي “.[23] ولم يذكر المصدر والصفحة والتاريخ ، وكيف يستطيع القارئ أن يعود إلى هذه المعلومة ؟
والمراجع التي اعتمدها الكاتب قسمان، قسم كتابي أخبار وأشعار مأخوذة من كتب ، وقسم من المراجع أشعار وأخبار تعتمد على الرواية، والكاتب يذكر بعض الرواة ولا يقيد ما يأخذه منهم، لا سيما من لازمهم لسنوات ملازمة، كالراوية عوض عبدن، وفي ترجمة الشاعر عمر محروس يقول : ” .. لا يوجد تاريخ دقيق لولادته ووفاته ، إلا أن أغلب الرواة يقولون إنه ساجل شعراء الإمارة الكسادية.” [24] وكلمة أغلب الرواة تعطي انطباعًا عن كثرتهم ولو ذكر اثنين منهم لكان أضبط وأقوى لا سيما أن الذي يقلب الكتاب لا يجد غير أسماء قليلة تعد بأصابع اليد وربما أقل.
ترتيب الأبيات:
من الإحسان إلى الشاعر أن نأتي بأبياته كما أوردها ، لا نقدم بيتًا على بيت ، ولا نزيد أو ننقص فيها ، وقد جاءت ظاهرة عدم الترتيب في مواضع عدة، منها البيتان المشهوران للشاعر عمر السباعي:
إن شي دراهم لي ترد الحسوس دخل إلى ممبي وشــــــــــــفها
وإن كانها الا كشكشة بالضروس من قال ممبي قــــل له عرفها[25]
وقد أورد الباحث البيتين وجعل الأول ثانيًا والثاني أولًا.
ومن ذلك بيتا الشاعر أبوبكر مخرج الذين تحدثنا عنهما في موضع آخر من البحث، فقد جاء بهما دون ذكر ملابساتهما، فأول البيتين كان بدعًا وثانيهما كان جوابًا بعد أن ألزم الشاعر بالرد على بيته، ولو قرئ البيتان متتابعان من غير معرفة بأجوائهما لاختلف معناهما كثيرًا.[26]
والمثال الثالث الذي جنى عدم اتباع ترتيب الأبيات على الشعر، الأبيات التي اختارها الباحث للشاعر يسلم باحكم ، وقد ذكرنا الأبيات في البحث في موضعه.[27]
ربط الأبيات بمناسباتها المعروفة
كثيرًا ما ترتبط الأشعار بمناسباتها، و تتضح معانيها بها ، و قد تُفْقِدُ هذه الأشعار كثيرًا من بريقها ورونقها، بل ربما ينبهم معناها وتغيب الفائدة منها، مما يضعفها ، والباحث بدا غير آبه أو عارف بهذه الأخبار ، ومن ذلك ثاني ترجمة في معجمه وما قبل آخر ترجمة، الأولى كانت للشاعر أبوبكر مخرج والثانية للشاعر يسلم باحكم، وما بينهما ما يحويه المعجم.
ففي ترجمة مخرج ذكر بيتين شعريين ، فأخطأ في الرواية ، ولم يذكر القصة، والبيتان المذكوران هما:
يقول بو بكر ذا الصاحب وهذا الحق وانته تخير لقط وحـدة من الثنتين
بغيت صاحبي اما الحق هو يلحــــق بغيت صاحبي انه زين وانه شين[28]
والبيت الأول ذكره الأستاذ محمد عبدالقادر بامطرف في كتابه التراث وصناعة الشعر، مختلفا في بدايته قائلًا:
يا بو فرج هذا الصاحب وهذا الحق وانته تخير لقط وحدة من الثنتين[29]
والبيتان لهما قصة طريفة، هي أن الشاعر كان يعمل مع التاجر ( أحمد محمد بو سبعة)، واستدان منه مبلغًا ثم ماطل في إرجاعه حتى ألجأ التاجر بو سبعة أن يهدده بالشكوى عليه عند الحاكم منصر بن عبدالله القعيطي المعروف بشدته وقسوته ، فخاف وباع ما لديه وأحضر المبلغ ، لكن بوسبعة أراد أن يختبر شاعرية الشاعر فقال له : لن آخذ المال حتى تقول شعرًا فقال:
يقول بو بكر ذا الصاحب وهذا الحق وانته تخير لقط وحدة من الثنتين
وفي البيت إحراج واضح للتاجر ، كأنه يقول له إما أن تكون وفيًا لصديقك وإما أن تكون رجلًا ماديًا لا تعنيه المشاعر، الأمر الذي جعل التاجر بوسبعة يطلب منه أن يرد على البيت شعرًا فقال :
بغيت صاحبي أما الحق هو يلحق بغيت صاحبي إنه زين وإنه شين
ومرة أخرى وجد التاجر نفسه أمام جواب لا يريده ، حيث إن الشاعر بهذا البيت التف عليه لكي يترك ماله وأن الاختيار الصحيح هو هذا.
فاتجه التاجر بو سبعة إلى سعيد قشمر وهو شاعر معروف وكان حاضرًا، وطلب منه أن يرد على بيت مخرج، فقال قشمر:
من قال حقي فلج يا بكر لا تشتق يا معسر الدين لكنك وفيت الدين
ولو أن الباحث ساق الأبيات مع قصتها لكان أجمل ولأبان جمالية الشعر ، والشاعر مخرج يتسم شعره بالطرافة والفكاهة وهو شخصية لطيفة له أخبار كثيرة، والباحث أفقد معجمه حيوية كانت ستضفي عليه قيمة اجتماعية إلى جانب قيمته الأدبية بعدم تتبع هذه الأخبار.
والحال نفسه في الأبيات التي ذكرها للشاعر يسلم باحكم :
البارحة في سوريا خلوا الحبال مزرزرة
أربع ليالي يخلطون الليل في ضوء الصباح
قلوا له الا عسير لا قد صبحت في أسمرة
تتقفل الأســـــواق هيبة والعوج يرجع سماح[30]
والبيتان بائن فيهما خلل المعنى لأن البيت الثاني فيه ضمير يعود إلى متكلم، وجواب له ما قبله ، وكأن الباحث لا يعنيه من الشعر إلا نسبته إلى الشاعر وليس ما يحمله من معنى ، وقد أفقد أيضًا معجمه جانبًا جماليًا بعدم ذكر بيت بين البيتين ، والأبيات هكذا :
البارحة في سوريا خلوا الحــــــــبال مزرزرة
أربع ليالي يخلطون الليل في ضوء الصــباح
وقال كيه سي جي ام[31] في قصر المعين الغندرة
هيا كـــــيا كــــــرتا ما هذا القلاقل والصياح
قلوا له الا عسير لا قد صبحت في اســــمرة
تتقفل الأســـــواق هيبة والعوج يرجع سماح
ويذكر أحد المهتمين بالشعر أن الشاعر الكبير سعيد باحريز من إعجابه يهذه الأبيات تمنى أن تكون له، لما فيها من تصوير جميل، والشاعر يتحدث عن عودة الناس إلى المكلا ودخولهم الاحتفالي بعد أن جاءوا من زيارة من الزيارات التي كانوا يعتادونها، وهي زيارات مرتبطة بلعبة العدة المعروفة .
نسبة الشعر لقائله:
ربما تكون هذه من المسائل العويصة التي توجه الباحث في الشعر الشعبي الذي يخلو دائمًا من التوثيق، فليس هناك مجموعات أو مطبوعات يمكن العودة لها والركون إليها والكتب والكتيبات القليلة التي طبعت تعج بالشعر الذي يشكو من التوثيق و مما هو أكثر، من صحة البناء الشعري للأبيات ، وفي المعجم يبدو الحال أحسن ولكن وجدت بعض الأبيات كانت نسبتها موضع شك لا سيما البيت الذي نسبه إلى الشاعر حسين باخميس الحباني وهو:
فصل والثاني وصلنا يا دحي عند دار ناصر
والمشطف لي معانا قامزي ورصاص مصبوب[32]
وقد نسبه الأستاذ محمد عبد القادر بامطرف في كتابه الميزان[33] إلى سعيد باحريز ، و هو أوثق من يمكن الرجوع إليه، وقد أخبرني أحد الحفظة[34] أنه سمعه من الكثيرين يسندونه لباحريز ، وهذا يؤكد رواية بامطرف ، ويذكر بعضهم[35] أنه سمع سعيد بكران يقول إن البيت له.
وبين نسبة البيت للحباني أو باحريز أو بكران يكون الحسم فيه إلى المصدر ، وبامطرف هو المصدر الأكثر ترجيحًا، ، وعلى الرغم من أن ادعاء بكران للبيت أقوى حجة بوصفه شاعرًا متمكنًا ، فربما كان هناك توهم في نقل الخبر.
[1] المعجم ص / 12
[2] المعجم ص / 260
[3] المعجم ص / 12
[4] المعجم ص / 13
[5] المعجم ص / 13
[6] المعجم ص / 44 وينظر ايضا: ص / 91 ، كذلك : ص / 156 ، كذلك : ص / 222 كذلك ص / 255 ، كذلك ص/ 335
[7] المعجم ص / 91 وفي العبارة ملاحظات لغوية ، يقول : لم يترجمه ، والصحيح لم يترجم له ، ويقول: أي مما ، والصحيح أي ممن
[8] المعجم ص / 222
[9] المعج ص / 264
[10] المعجم ص / 12 ، والعبارة بها تحتاج مراجعة
[11] المعجم ص / 19
[12] المعجم ص / 27
[13] المعجم ص / 35
[14] المعجم ص / 36
[15] المعجم ص / 36
[16] المعجم ص / 54
[17] المعجم ص / 30
[18] البحث الأدبي ، د. شوقي ضيف ص/212
[19] المعجم ص / 335 ، والعبارة وردت في المعجم كله
[20] ينظر المعجم ص / 17
[21] المعجم ص / 266
[22] المعجم ص / 298
[23] المعجم ص / 315
[24] المعجم ص / 235
[25] المعجم ص / 238 ولاستقامة وزن الشطر الثاني ينبغي ان يأتي هكذا ( من قال ممبي قل عرفها )
[26] ينظر هذا البحث ص
[27] ينظر هذا البحث ص
[28] المعجم ص/ 15
[29] التراث وصناعة الشعر ص/24 ، و ( بو فرج ) كنية التاجر بوسبعة ، وفرج أكبر أبنائه
[30] المعجم ص / 335
[31] هذه الأحرف عبارة عن اختصار لرتبة عسكرية ( K.C.G.M. ) خلعها الانجليز على السلطان صالح بن غالب القعيطي
[32] المعجم ص/ 65
[33] الميزان ، محمد عبد القادر بامطرف ، دار الهمداني ، عدن ، الطبعة الاولى 1985م ص / 61
[34] اخبرني بذلك الشيخ الفاضل سعيد سالم باريسا
[35] اخبر بذلك الاستاذ الثقة نضال علي باعشن