دراسات
د. محمد أبوبكر باذيب
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 5 .. ص 65
رابط العدد 5: اضغط هنا
يلاحظ المطالع لسيرة العلامة علوي بن طاهر الحداد، رحمه الله، ذلك الشغف الكبير الذي يمتلكه تجاه علم التاريخ، حتى ليخيَّل للناظر إلى قائمة مؤلفاته أنه قصَر عمْرَه وحياتَه لخدمة هذا الفن، فبالنظر الى قائمة مؤلفاته، واستخلاص المؤلفات التاريخية منها، نجدها تشكل الثلث من مجموع مؤلفاته. إن لمعان اسمه، وريادته في الكتابة عن تاريخ العرب والمسلمين في شرق آسيا، وتفرده زمناً طويلا بالكتابة في ذلك الاتجاه بكتابه الفريد في بابه » المدخل إلى تاريخ الإسلام في الشرق الأقصى« ، تكمن وراءها أسباب خفية، أفصح هو عن بعضها في مؤلفاته تلك المباركة النافعة.
قال في معرض حديثه عن تاريخ الدعاة من آل عبدالملك بن علوي، في شرق آسيا، في كتابه »عقود الألماس« : ” ثم إن ذكري طرفاً من تاريخ أولئك الدعاة الأبرار، الذين غامروا في ولوج أثباج البحار، وصارعوا هائلات الأخطار، هو حق من حقوقهم اللازمة علينا، بل ومن حقوق دين الإسلام، بل من حق محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمر بالتبليغ والدعوة.
وهناك أمرٌ آخر فيه طمأنينة لقلبي، لما كنت أشعر به من التأثير في اعتنائي بهذه الأبحاث، لما كان يعاملني به صاحب المناقب، شيخنا، قدس الله سره،[هو العلامة السيد أحمد بن حسن العطاس]، ويدربني عليه. فقد كان يأمرني بتقييد ما يمر بنا في قراءتي من نوادر التاريخ، ويلح علي في ذلك، حتى لقد استوهب لي مرةً دفتراً من القرطاس ضخماً، لا تكاد تقله اليد من ضخامته، فأمرني أن أعده لتقييد ما يمر بي من شوارد التاريخ ونوادره.
فلما اكتشفت تاريخ الذين أدخلوا الإسلام إلى جهة الشرق، وهو ما كان يسميه سلفنا (الهند الأقصى)، أي: من سمطرا وبلاد الملايو إلى برنيو وجاوه وسليبس إلى فوافوا (غينيا الجديدة)، فهمتُ أن شيخنا رحمه الله تعالى، كان يشعر أنه سيخرج على يدي إلى عالم الظهور غرائب من التاريخ مكنونة، ونفائس في خزائنها مصونة. وأني سأكشف حجاب الكتم واللبس الذي أحاط بتاريخ الدعاة حتى جهل عن غفلة أو عمد” (1).
أعقب ذلك بالقول: إنه ” أول من بحث عن تاريخ دعاة الإسلام في جزر القمر، وما والى مدغشكر موزامبيق، الذين حاربهم البرتغال” . وأضاف: ” بل كنتُ أولَ من عرف أن من السادة العلويين من بلغ إلى جزائر تحت الريح قبل أن يعرفها البرتغال، وهي جزائر في بحر أمريكا، والحمد لله في ذلك الفضل” (2).
إن الكتابة عن السيد العلامة الحداد، مؤرخاً، وباحثاً سابراً أغوار المجهول من تاريخ الإسلام والعرب، أمر تطول الكتابة فيه، والحديث فيه حديث عذب لا يمل. ولكني مضطر إلى الاكتفاء بما تقدم، فالإطالة هنا ستخرجنا عن مقصود التقديم لكتاب (الشامل). غير أني لن أغادر قبل أن أنقل رأي مستشرق شهير ممن خدموا تاريخ حضرموت، وتاريخ اليمن بالعموم، وكانت له شهرة وصيت في عالم التراث والبحث العلمي في جنوب الجزيرة العربية، وهو الدكتور سارجنت.
بين سارجنت والحداد:
سارجنت كما ذكرتُ آنفاً، كان مبعوثاً إنجليزياً من وزارة المستعمرات البريطانية إلى الجنوب العربي، أقام في أرض الجنوب سنواتٍ منقباً وباحثاً ومؤرخاً لعاداتها وتراثها الشعبي، ومصادر تاريخها المحلي. وقد كتبت عنه فصلاً مفيداً في كتابي (أضواء على حركة طباعة التراث الحضرمي في المهجر)(3). وبطبيعة الحال، فقد كانت بينه وبينه العلامة الحداد علاقة وتعارف في باب البحث عن تاريخ حضرموت، واستفاد مما كتبه العلامة الحداد، بل وجدته كان يراسله ويسأله عن بعض ما يشكل عليه.كتب سارجنت عن العلامة الحداد كلاماً رائقاً في بحث له بعنوان (المؤرخون وكتابة التاريخ الحضرمي)(4)، الذي عربه د. سعيد النوبان، ونشرته جامعة عدن مع بحثين آخرين له عن حضرموت.
قال سارجنت، تحت عنوان جانبي: (المؤرخون من السادة)(5):
“إن عميد المؤرخين هو السيد علوي بن طاهر الحداد، المولود في قيدون بوداي دوعن. وقد تركها على عجلٍ في باكورة شبابه(6)، تحت سحابة سياسية، وأخذ معه أحمالاً من الكتب، ثم أصبح بعدئذ مفتي جُهور، لكن عرفتُ مؤخراً أنه قد اعتزلها(7).لقد زار حضرموت فترة قصيرةً قبل سبع سنوات.
إن علوي بن طاهر عالم وناقد جيد، ولقد قيل لي: إن ذاكرته خارقة، ويستطيع أن يتذكر محتويات كتابٍ بأكمله كلمةً كلمة، بعد قراءته، ويتذكر إضافة إلى ذلك الصفحات التي يرجع إليها. وللمذكور مؤلفات عدة خاصة حول تاريخ العلويين، وله تعاطف شديد مع العلويين، لكن ليس إلى الحد الذي يؤثر على أحكامه.
إن كتابه (الشامل في تاريخ حضرموت) قد قدِّم إلى المطبعة حين استولى اليابانيون على سنغافورة، لكنه ضاع. لكني علمتُ أن له تاريخاً بديلاً في طريقه إلى المطبعة. وله كتاب مختصر هو (جنَى الشماريخ).
وقد بدأ يكتب ما يمكن أن يسمى ترجمة للسيد أحمد بن حسن بن عبدالله العطاس، مولى حريضة، وأسماه (عقود ألماس) (سنغافورة: 1949 – 50). والواقع أن كتاب (عقود الألماس) يحوي مادة جمة حول تاريخ السادة، وبحثاً عن أجدادهم، وقد استخدم فيه مجموعة من المصادر(8) العربية الكلاسيكية ، بعضها غير معروف لبروكِلمَن.
وكان السادة العلويين يعتمدون على هبة مالية من سلطان مراكش في عام 1199 – 1785(9). ولدهشتي! فعندما أشرتُ إلى ذلك للعلماء بمراكش اتضح أن الحادثة معروفة ومسجلة في تواريخهم. وهناك مسائل أخرى ذات فائدة عن التاريخ الحضرمي، كان الحداد قد ناقشها في أعماله.
إن (عقود الألماس)، قيم جداً، وفيه مسح واسع لمصادر تاريخ حضرموت عامة. وهناك عمل أقدم منه وهو (القول الفصل فيما لبني هاشم وقريش من فضل)، وقد نشر في بوقور Bogorعام 1344 / 6 – 1925. أي: حين كان النزاع العلوي الإرشادي على أشده .
وقد علمتُ أن علوي بن طاهر يطبع في سنغافورة كتاباً موسعاً عن تاريخ حضرموت، وسيكون المرجع الأول حولَ الموضوع” (10).
هذا ما كتبه سارجنت، ولا يزال الحديث عن المؤلف مؤرخاً، وعن أسلوبه في الكتابة التاريخية موضوعاً بكراً، يمكن أن تكتب فيه رسالة علمية في إحدى جامعاتنا المحلية والوطنية.
* * *
وهنا سؤال يفرض نفسه، تعقيباً على الفقرة الأخيرة في كلام سارجنت:
هل وضع المؤلفُ عن حضرموت كتاباً آخر غير الشامل ؟
وقفتُ على نصٍّ يعضد ما ذهب إليه، أو خمنه، أو سمعه سارجنت، يفيد أن المؤلف رحمه الله، كان يعتزم الكتابة عن حضرموت بصورة أكثر توسعاً مما هو عليه الحال في الشامل، ولعل ذلك خطر على باله بعد أن رأى كتابه يتبدد أمام ناظريه، بسبب الحرب العالمية الثانية، التي لم تبق ولم تذر. ورد ذلك في رسالة من ابن المؤلف، السيد طاهر بن علوي، لابن خاله السيد حامد مشهور الحداد، قال فيها، عقبَ كلامٍ عن الشامل: “وأما التاريخ المفصَّل فلما يُقدَّر كتابتُه”. فيمكننا من هنا، أن نذهبَ الى القول بصحة التخمين الوارد في كلام الدكتور سارجنت.
* * *
هذا الكتاب
تسمية الكتاب: الصحيح في تسمية الكتاب: (الشامل في تاريخ حضرموت ومخاليفها) كما هو مزبور على غلاف الطبعة الأصلية، وكما أثبته معظم مترجميه مختصراً باسم (الشامل) أو مطولا كما هنا. وأغرب تسمية وردت في كتاب (تشنيف الأسماع)، حيث سمى المؤلف الكتاب: (عقد الياقوت في تاريخ حضرموت)، وتابعه المرعشلي، وأغرب الحبشي في قوله إنه يقع في مجلدين. وفي (العقود الجاهزة): (الشامل في تاريخ حضرموت، في ثلاثة أجزاء، مختصَراً من تاريخه الكبير لحضرموت)(11).
أسباب التأليف: تتلخص في سببين رئيسين:
السبب الأول: الدافع الذاتي. الذي عبر عنه بقوله: :فإنه مما كان يخطر ببالي، وتتعلق به أمانيَّ وآمالي، أن يكون لحضرموت ومخاليفها تاريخ شامل يجمع ما أسأرته يد الإهمال، مشيراً إلى ما تداوله من الدول وحالَ به من الأحوال، وما بادت به من الأمم وانجالت عنه من الأجيال، ومنبئاً بمن نقل إليه من النواقل وتمّ فيه من الاستبدال، وطالما منّتني نفسي أن أكون أنا القائمُ بهذا المهم المهمَل، ويصرفني عن ذلك علمي بثقلِ ما أتجشّمه من ذلك وأتحمل، فإن الموضوعَ مهامِهُ لم تُدمِنها الخطَى، ومشارعُ بمعاميَ لا تهتدي إليه القطا، لاسيما وعلمُ التاريخ من علوم النقلِ، يرجع فيه إلى الرواية لا الرويّة، وليس بعلمِ نظرٍ أو تجربةٍ يؤخذُ فيه بمدرك النظر ونتيجة القضية” (12).
السبب الثاني: حماية جانب الحقائق التاريخية من عبث العابثين. فإنه قد شاهد سطو بعض الناس على ما نشره من مقالات تاريخية، في صفحات مجلة (الرابطة العلوية) في أعدادها الصادرة بين عامي 1346، و 1351هـ، وقد تحدث عن ذلك الأمر المؤسف قائلا:
“وكنتُ إذا ظفرتُ بشواردَ قيدتها، وسوانح أسرعتُ اليها فاقتنصتها، حتى اجتمع من ذلك ما إذا ألِّفَ صلُحَ أن يُطلقَ عليه اسمُ التاريخِ على نقصٍ وانقطاعٍ، وخفاءِ أمور لا يكتفى فيها بدُون الرواية والسماع، وتأنّيتُ بإبرازه الفرصَ لتسنح، والأيامَ لتسعد وتمنح. وسمحتُ مع ذلك لمجلةِ (الرابطة العلوية)، وغيرها، بنشر نتفٍ منه إثارةً للهمم، وتنبيهاً للقيام بهذا الواجبِ الأهمّ.
فاختطفَها بعضُ مسترقي السمعِ من الأغبياء الجاهلين، فمزَجها بأكاذيبَ روَّجها لا تقدر على مثلها الشياطين، مع خبطٍ لا يدانيه خبطُ معتسّفِ الظلماءِ، وخلْطٍ لا يشبهه خلطُ أعتهٍ أعمى. وشابَ ذلك بأقاصيصَ اخترعها، ودعاوي كاذبةٍ هو زوّقَها وابتدعها ، وأخبارٍ مفتراةٍ قد افتجَرها ووضعَها، ثم قال لأشباهه من العوامّ: هذا تاريخُ حضرموت!. فقبِل ذلك منه طوائفُ من الصمِّ والبكم، وصدّقه في قوله من لا عقلَ عنده ولا علم. فكانَ ذلك مما حملني على البدار بإبرازِ ما اجتمع لديَّ” (13).
السبب الثالث: إلحاح الكثيرين من محبيه وتلاميذه عليه في نشر ما جمعه من تاريخ حضرموت. كما ذكر هو في مقدمة الكتاب.
طريقة تأليف وطباعة الشامل:
بعد هجرته من حضرموت سنة 1344هـ إلى إندونيسيا، وتفرغه للتدريس والتأليف في أثناء إقامته بين جاكرتا وبوقور، أكب المؤلف على جمع توافر لديه من المصادر التي قرأها ولخصها، أو استجلبها معه إلى مهجره، فكتب عدداً من المقالات التاريخية الرائعة التي لم يسبق إليها، ونشرها على صفحات المجلات العربية الصادرة في المهجر المذكور.
وكانت جُلّ مقالاته في تلك الآونة يصدر على صفحات مجلة «الرابطة العلوية»، ومنها استقى بعض معاصريه مادةَ كتابٍ زعم أنه تاريخ لحضرموت، مع إغفال مصدر معلوماته التي لم تكن سوى تلك المقالات. فلما اطلع المؤلف على ما حدث، علم أن تأخير نشره كتاباً يضم أشتات المعلومات النادرة التي اجتمعت له عن حضرموت، سينتج عنه أمرٌ غير محمود. قال رحمه الله: “فكانَ ذلك مما حملني على البدار بإبرازِ ما اجتمع لديَّ مكتفياً ببعض ما اجتمعَ، لئلا يطولَ الكتاب، ..” (14).
الصعوبات التي واجهت المؤلف:
1- الفترات المجهولة في تاريخ حضرموت: أكبر العوائق كان عدم أو قلة توافر المصادر التي تتحدث عن بعض الحقب الزمنية، ومع أن المؤلف كان قد حاول أن يسد تلك الثغرات ما استطاع إلى ذلك سبيلا، لكنه لم يجد بُدًّا من التصريح في مقدمة كتابه بقوله: “..على أنّ في التاريخ الحضرمي فصُولاً، لا يزال أمرُها مجهولاً، وخفايَا لم نجدْ في كشفِها سبيلاً” (15).
2- بعده عن مكتبته في حضرموت: كان بعده عن مكتبته في قيدون، المشتملة على المصادر النادرة التي جمعها في شبابه، يجعله يتحسر على عدم توافرها بين يديه، ولكنه لم يكن يستطيع أن يتأخر عن دفع ملازم الكتاب إلى المطبعة أولا بأول، لذا نجده كثيراً ما يعتذر للقراء عن بعض القصور الذي قد يجدونه في الكتاب.
من ذلك قوله: “وعندي رسالة في ترجمة أحَد فقهاء المشايخ أهل الرباط، وأحسبها من تأليف الشيخ أحمد بن عمر، أو غيره من عشيرته. وهي غير حاضرةٍ الآن. فإنَّا حررْنَا هذا التاريخ بالبلاد الملايوية، أيام حرب الأُمَم الكبير، فبعُدَ عنا كثيرٌ من المظانّ، والفوائد التاريخية، التي يحسُن إلحاقها بهذا المجموع”(16).
وقوله: “وأحسب أن عندي شيئاً من ترجمة هذا الشيخ، ولكنها غير حاضرةٍ الآن، وقد سبق اعتذارنا عن فقد أمثالِ ذلك”(17). وقوله: “وعندي له في بعضِ مجاميعي: (ترجمة) حافلة، ولا يمكن استحضَارها، ولا نقلُ شيء منها، مع حدوث هذه الحرب، وكوننا نبيّضُ هذا التاريخ مع الطبع، فلا يمكن الانتظار، مع طول المسافة، وإبطاء الكتب ذهاباً ورجوعاً، وفيما ذكرنا كفايةٌ”(18). وقوله: ” ولم يحضرني الآن تاريخُ ذلك بالتفصيل، ولا اسم باشميلة، والقائم بمنصب الشيخ في ذلك الوقت، وهو في مجموعِ مسوَّداتٍ في البلد، لم يمكنني الإتيان بها، ..” (19).
متى شرع المؤلف في كتابة الشامل؟
من سبب التأليف الذي تقدم نقله من مقدمة الكتاب، نستطيع الجزم بأن فكرة تأليف كتاب شامل عن حضرموت كانت تدور في ذهن العلامة الحداد من أيام تحريره المقالات في مجلة (الرابطة)، أي من منتصف الأربعينات الهجرية. بوصفه محرراً لكثير من مواد المجلة، فقد أخذ ذلك من وقته الكثير، إضافةً إلى مشاغله الاجتماعية الأخرى من تدريس ودعوة واجتماعات، كل ذلك حال دون تفرغه.
أضف إلى أن المؤلف بعد تعثّر صدور الرابطة، تلاه توقفها التام سنة 1351هـ، لم يلبث إلا يسيراً حتى تم تعيينه مفتياً في سلطنة جوهور، في سنة 1353هـ. ومن ثم ؛ فلم يتوافر الوقت الكافي لإتمام التأليف إلا بعد استقراره في جوهور، في وظيفته الجديدة، حيث تسنى له أن ينظم وقته، ويقتنص من أوقات عمله ما يكفيه لتأليف عمل عظيم كهذا. ومن النصوص التي وقفت عليها، في هذا الصدد، رسالة من السيد المؤلف لقريبه السيد علوي بن محمد،بعث بها من جوهور إلى بوقور، بتاريخ 7 جمادى الأولى 1357هـ، يقول فيها:
” كما أريدُ منكم أن تكلفوا خاطِركم في البحْث عن كتب الأخ عبدالله بن طاهر التي تصِلكم من البلاد، ومنها بغَينا معرفة متى كان الابتداء في شُغل عَتْم الغَيل، ومتى وصَل إلى البلاد، بادِرُوا بتاريخ الابتداء والانتهاء، لأن الطبعَ الآن وصَل إلى ذكر بلد (قيدون). وأخبروني من هيَ التي أوصَت بالدراهم للغيل؟ وكمْ كانَ القدْر؟ وكم بذل الشيخ أحمد باسلامة؟ ولو بالتقريب.
والطبعُ الآن في البَاب الذي هو تحت عنوان: (وصف بلدان حضرموت ووديانها). وقد ذكرنا الجبال والأودية، من القُرْحَة، وإذا وصلنا إلى بلدٍ ذكَرنا أهلَها ومن كان فيها من أهل الفضْل، وشيء من تاريخها إذا وُجِد، كلّ ذلك باختصار.
وقد تمّ وادي دَوعن والأيسر إلى قيدون. ونحن الآن في قَيدُون، وسيكون الكلام فيه أطولَ ما يكُون. بانذكر طوله والعرض وآباره وقلة ماه وكريفه، وبانذكُر الغيل، ومن قام في عمارته وتقريب مَاه إلى قيدون. والرّباط ما باننساه، وعُلماء وأولياء قيدون السابقين واللاحقين ..” (20).
اهتمام الحضارمة بطبع الشامل:
قال السيد أبوبكر بن شهاب في الرحلة ص 220 ضمن مجريات أحداث يوم الجمعة 22 شوال سنة 1358هـ: “ثم سعينا في جمع مال لطبع التاريخ الذي صنفه الأخ علوي بن طاهر الحداد، والذي حصل:
1- من الأخ سالم بن بصري: خمسين ربية، 50.
2- ومن الأخ سالم الجفري: خمسين ربية، 50.
3- ومن آل العيدروس؛ شهاب: خمسين ربية.
الجملة: مائة وخمسين ربية، 150.
4- ومن الفقير: 150 ربية.
5- ومن الأخ عبدالله أبوبكر الحبشي: 150 ربية.
6- ومن الأخ حسين بن أحمد بن شهاب: 100 ربية.
7- ومن الأخ هاشم بن محمد بن شيخان السقاف: 100 ربية .
وأما غيرهم يوعدون فقط، لكن بحمدالله، الذي جمعت من بتاوي وغيرها وسنقافورا ليس بالقليل.أما آل حضرموت؛ فالذي حصَل من تريم: ألف وسبعمائة، 1700 ريال فرانصة».
مصاعب تزامنت مع طباعة الشامل:
ولم تكن مصاعبُ توافر المصادر، التي قدمنا ذكرها، هي الوحيدة، بل كانت هناك مصاعبُ أُخر تنتظر الكتاب والكاتبَ عقب انتهاء التأليف، كانت تلك المصاعب هي الأشد إيلاماً، لأنها تسببت في ضياع مسودات الكتاب إلى الأبد، فقد التهمتها نيرانُ الحرب العالمية الثانية!. وأخبرني اثنان ممن عاشا مع المؤلف زمن تأليفه كتابه الشامل، أولهما ابنه سيدي العلامة حامد بن علوي، وثانيهماالأستاذ السيد أحمد عمر بافقيه: أن المؤلف رحمه الله كان ينتهز أوقات فراغه من عمله الحكومي في دائرة الإفتاء في جوهور، ليجمع مادة تاريخه هذا، وكان وقته يضيق عن أن يؤلف الكتاب كله دفعة واحدة(21).
ونظراً لوجود مطابع ذات حروف عربية بجواره في سنغافورة، فقد يسر له ذلك الأمر أن يرسل بين الفينة والأخرى ملازم أو صفحات مما يتم تحريره وكتابته، فتطبع في المطبعة، ثم تعود إليه فيصحح مسوداتها، ويعيدها إلى المطبعة مرة أخرى فتدرج التصويبات في مواضعها. وهو ما صدّقته لي بعض المسودات من الصفحات الأخيرة من الكتاب التي وقعت تحت أيدينا، كما سيأتي في صور النماذج المرفقة.
سألت الأستاذ بافقيه: بما أن المطبعة كانت قد احترقت، فكيف تم إنقاذ الجزء المتوافر من الكتاب؟. فأجابني: كانت المطبعة ترسل للمؤلف الصفحات التي يفرغون من تصحيحها وتنفيذ ملاحظاته على مسوداتها، فإذا أقرها، طبعوا منها كمية مناسبة، وهكذا إلى أن تجمع من الكتاب هذا القدر (260 صفحة)، ولما اشتد القصف، واقترب من المطبعة، تحركت أنا وبعض الإخوة وقمنا بشحن تلك الملازم المطبوعة في سيارة شحن، ونقلناها بعيداً عن المطبعة، التي ما لبثت أن اشتعلت فيها النيران!.
أصداء طباعة الشامل:
طبع في سنة 1359هـ بالمطبعة الأحمدية (أحمد برس) في سنغافورا، وهي المطبعة الشهيرة بها آنذاك، وفيها كانت تطبع مجلة (العرب) التي كان يديرها الأستاذ أحمد عمر بافقيه. وكان موقعها في شارع الملكة فكتوريا.
قال السيد أبوبكر بن شهاب في رحلته:
” وقد طبع التاريخ في سنقافورا، المسمى بالشامل، إلى صفحة 232، والآن بقي متوقف من عدم البياض، وتطور الوقت، ربنا يتممه على أحسن حال، لأنه با يفيد كثير، لم يسبق مثله في تاريخ حضرموت، والذين هم أكثر المساعدين لهذا العمل: السيد الهمام إبراهيم بن عمر السقاف، والولد النشيط عبدالله بن أحمد بن يحيى، ومن بعدهم كثير من العلويين”.
تفاعل الناس وتفاءلوا بطبع هذا الكتاب النافع، وجاءت الرسائل من الأقطار للتهنئة، فمن رسالة مؤرخة في 21 محرم 1360هـ من الحبيب عبدالله الشاطري إلى السيد علوي بن طاهر:
” وبلغنا أنكم جمعتم تاريخ حضرموت، وأنكم عزمتم على طبعه،ربَّنا يأخذ بأيديكم، ويقيض من يساعدكم على طبعه، حتى ينتشر في الآفاق، وينتفعون به الناسُ، مثل ما انتفعوا بكتبكم السابقة: (القول الفصل)، وغيره من كتبكم المؤلَّفة، ربنا يمتع بكم في عافية، لنتفع بكم الخاص والعام، ويهدي بكم كافة أهل الإسلام”.
أين بقية أجزاء الشامل؟
ترسخ عند المطلعين على هذا الكتاب في طبعته الأولى، أنه مؤلف في عدة أجزاء، وشاع على الألسن أن المؤلف وضعه في 3 أجزاء. وذلك الأمر الشائع ليس بالغريب، وليس من الرجم بالغيب، فقد ورد في ثنايا الكتاب عبارات تصرح بأن هناك جزءاً ثالثاً كان المؤلف قد شرع في وضع ملامحه العامة.
من ذلك قوله: “.. وهذا استطرادٌ مختصر، جرّه ذكر طريق السيارات، وموضع ذكر ذلك، بأبسطَ مما ذُكر، في الجزء الثالث، الذي نرجو من الله الإعانةَ عليه، بفضله ومنّه، آمين” (22). وقوله: “… فإنَّا حررْنَا هذا التاريخ بالبلاد الملايوية، أيام حرب الأُمَم الكبير، فبعُدَ عنا كثيرٌ من المظانّ، والفوائد التاريخية، التي يحسُن إلحاقها بهذا المجموع، فعسى أن يعينَ الله على إلحاقنا لها بالجزء الثالث” (23).
ومن النصوص التي تصلح أن تكون دليلا وخيطاً للباحثين، وحافزاً على مواصلة البحث عن بقية مسودات هذا الكتاب، ما جاء عند السيد الجليل علي بن حسين العطاس (ت 1396هـ) دفين جاكرتا رحمه الله، في كتابه القيم (تاج الأعراس)، حيث قال، بعد أن نقل قصة اليهودي الهندي المعمر، الذي لقيه بعض … السيد حسين بن أحمد العيدروس، في سياحته في بلاد الهند، وسمعها منه عدد من أقرانه والآخذين عنه، وهي طويلة، قال عقبها: «وقد روى هذه الحكايةَ أيضاً، الأخ العلامة المحقق علوي بن طاهر الحداد، في (الجزء الأول) من كتابه «الشامل في تاريخ حضرموت». ذلك النص غير موجود فيما بين أيدينا من (الشامل)، وهو الجزء الماثل بين يدي القارئ الكريم، ففي هذا دلالة كبيرة على وجود مسودات أو أجزاء منسوخة من الكتاب تقبع في شيء من المكتبات الخاصة بجاكرتا.
________________________
الهوامش :
(*) دكتوراه في أصول الدين، جامعة عليكرة، الهند. من مواليد مدينة شبام، حضرموت. باحث في الشريعة الإسلامية، ومهتم بالتراث عموما، وبتاريخ حضرموت على وجه الخصوص. صدرت له عدة مؤلفات، وتحقيقات لكتب تراثية.
1. عقود الألماس: ص 253-254.
2. السابق: ص 254.
3. باذيب، أضواء على حركة طباعة التراث: ص 372-377.
4. سارجنت، المؤرخون وكتابة التاريخ الحضرمي، تعريب سعيد النوبان، (عدن: مطابع جماعة عدن، د.ت): ص 77-105. مع التنويه إلى أن التعليقات على المقال هي للكاتب نفسه، وقد ميزتها بحرف(س).
5. بعض هؤلاء المؤرخين، ومنهم صلاح البكري، قد تمت الإشارة إليهم في مقالي: (نشوء المؤرخين الحضرميين في المجتمع العربي): لندن؛ العدد 11، 9/ 1950م: ص 8-9. (س).
6. كلام غير صحيح، وقد تقدم في ترجمته ما يغني عن تصديق كلام سارجنت هذا.
7. هذه المعلومة غير صحيحة أيضاً، فقد ظل المؤلف على رأس وظيفته، رغم المحن والشدائد التي قاساها في أثناء الحرب العالمية الثانية، وبقي في جوهور الى وفاته.
8. لم تناقش هذه المصادر هنا من بين تلك الأعمال (النفحة العنبرية في أنساب خير البرية)، والتي توجد منها نسخة واحدة فقط في بتافيا بحوزة علي بن جعفر السقاف. وفي عدد 1230 من (النهضة الحضرمية): أشير أنه مازال يكتب التاريخ، وتمتد معلومات إلى المهرة إذ نشر مقالاً في (الرابطة العلوية): 2 – ص 97. (س).
9. عقود الألماس: 1/28 ، 32 ، 44. وفي أثناء كتابتي هذا المقال سعدت باستلام رسالة من وزير التربية المغربي بالرباط، ومدّني بالمعلومات التالية من مخطوطة (حوالات حبسية) في مراكش: “تنص سجلات الأوقاف المغربية التي ترجع لأوائل الدولة العلوية الحاكمة سواء منها ما هو مخطوط أيام المولى إسماعيل أو محمد الثالث على أن التزامات المغرب سنويا نحو الحرمين الشريفين ، وأهل الحجاز ومصر وحضرموت كذلك كانت تقدر بآلآف الدنانير .. وأنه ينوب منها أهل البيت باعلوي باليمن وحضرموت مائة دينار”. (س)
10. كان على اتصال بعلماء كثير. (س)
11. الجنيد، العقود الجاهزة: ص 234.
12. الشامل: ص 2.
13. الشامل: ص 2-3.
14. الشامل: ص 2-3.
15. الشامل: ص 2-3.
16. الشامل: 137.
17. الشامل: ص 167
18. الشامل: ص 184.
19. الشامل: ص 231
20. سرور الفؤاد: 2/ 871-872.
21. باذيب، السيد أحمد بن عمر بافقيه: ص 169 بافقيه، الهامش. العقود الجاهزة: ص 234.
22. الشامل: ص 119.
23. الشامل: 137.