مركز حضرموت للدراسات التاريخية والتراث والنشر

صحرابةٌ كأنَّها غابحراء!

كتابات

د. سعيد الجريري


المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 5 .. ص 83

رابط العدد 5: اضغط هنا


(1)

   الغربة غابة عارية في شتاء مثقل بالجليد. قد تبدو صورتها هنا قارسة قارصة، لكن الغربة لا تكون كذلك إلا عندما يلف المرءَ فراغ داخلي، لا يترعه أي امتلاء خارجي. لكن الغربة أيضاً في صورة أخرى، صحراء جرداء لا حدود لها ولا منتهى، في صيف مثقل بالصهد والغبار حتى إذا يئس المرء من قطرة ماء يبل بها الصدى، رأيته يلوذ من السراب بالسراب.

   الغربة أن تضج، في أدغال روحك ورماله، غابة وصحراء تتناوبان على إثقالك بالجليد والصهد، حيث لا دفء ولا رواء. وليست الغابة العارية سوى نفسك، تماماً كما هي الصحراء الجرداء.

(2)

   تسألني: أغابةٌ تثقلك أم صحراء؟، أقولْ لك: إنما هما المشتى والمصيف، فثمة غابة فاتنة تضج أنفاسها تحت الجليد، هي التي توميء إليك أنْ تعال. وثمة صحراء مدهشة أيضاً تعزف رياحها شبابة منسية، هي التي تنتظرك على قهوة الأصيل. فبأيّ غابة تستظل، وأيَّ صحراء تفترش، كأنك البدوي القديم؟ ذلك هو السؤال.

   ليست الغربة مكاناً. إنها أنفاسك التي تجاذب ما حولك لغة متعالية، فإن فككت الشيفرة السرية استكمل تيار موسيقا الأنفاس دورته فيك، منك وإليك، هارمونياً، لترى في قلب الصحراء غابة الربيع، أو تمس دفء الرمال في قلب الغابة العارية المثقلة بالجليد.

(3)

   ثمة شجرة تخفي عنك الغابة، وثمة رملة تلهيك عن متاهة الصحراء، لكنك تستطيب لعبة الشجرة والرملة، هرباً من عينيك إذ تغرورقان بالدمع والرمل، فتنزع إلى لغة المجاز، تجتاز بها مفازة باردة، كغابة يلفحك هجير برودتها، ثم تخلد إلى أغنية هنا أو قصيدة هناك أو حكاية لا تعرف نهاياتها لكنك تقصّر بها ليلاً شتائياً لا يكاد ينتهي، كيما تسيل بأعناق المطيّ الخرافية صحارى مفتوحة على صحارى!

(4)

   ثنائية الغابة – الصحراء تمازج فيك إحساساً بهما في آن معاً، حيث “الصحرابة” أو “الغابحراء”، مزيج ينفي كلتيهما، فتنترع روحك بأجمل ما فيهما على غير مثال سابق.

   ولكل امرىء غابته الخاصة أو صحراؤه، لكنه إذ يعمى عن ذاته، يضيع دربه بلا دليل، ثم يحسب أن كلاً منهما دهَمَهُ فأطفأ فيه جذوة الدفء والنور.

(5)

   في مرآة لم تكن تراها، تبدو لك الغربة الآن فضاء يحررك من أفكار غبية، كنت تظن أنها منتهى الكون، فتعيد قراءة ماضيك صفحة صفحة، على مسافة عاطفية محايدة، لترى كم هي الغربة ميلاد جديد، تماماً مثلما هي غربة الإنسان الأولى إذ يصرخ صرخته الأولى، ثم تشكله الكائنات المحيطة به تشكيلاً لم يختره هو، حتى إذا رام بحثاً عن ذاته، استوحش ما حوله، غريباً إما أن يجد ذاته التائهة، وإما أن يتماهى في محيط اغتراب جديد أثقل على الروح وأشد.

(6)

   هل تهشم تلك المرآة لأنها لا تعكس الصورة القارّة في الأعماق؟ إنك – إن فعلتَ – لن تغير من الأمر شيئاً، ربما تجرح يدك فقط، وربما تنتبه فجأة إلى دمك ينزُّ بألم، لترى حينئذٍ، صورة المنازعة في الرمق الأخير ، لكنك تظل تسائل ذاتك الشاردة: إلى أين؟ فيتناهى إليك رجع صدى بعيد: ليس إلى حيث سواك!