نقد
أ.د. عبدالله حسين البار
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 5 .. ص 90
رابط العدد 5: اضغط هنا
محور التنديد بالموجود:
لم يكن الشاعر البار منغلقا على ذاته يستبطنها, وينشغل بهمومها في عزلة عن مشكلات مجتمعه وقضايا أمته. ولقد شغلته هذه وتلك شغل منغمر في أتونهما, متسامياً على مفهوم (أداء الواجب المفترض الأداء), وعلى وعي الشاعر بوظيفةٍ ومهمةٍ شأن بعض شعراء الإحياء في تاريخ الشعرية العربية الحديثة, ولكنه انشغال مستغرق في (التجربة) وينفعل بها, ويتفاعل معها فيغدو تعبيره عنها تنويرا في عتمة, وموقفا من وجود ترفضه الذات وتأبى له البقاء. هو التمرد إذا على الموجود, ولكنه تمرد مشوب باحترام لرأس السلطة وإن استعصى عليها تقييده, فلقد كان الشاعر البار مثل كثير من مجايليه ومعاصريه من مثقفي حضرموت في خمسينيات القرن العشرين يحلمون بإصلاح ما فسد في كيان الدولة واختل من تكوينها الإداري دون مساس بمقام السلطان, فاكتفوا بالتنديد بمن هو أدنى درجة, وزيرا للسلطنة – كان- أو موظفا ذا جاه عريض فيها. وتلك كانت أقصى درجات (المعارضة السياسية) كما مثلها (الحزب الوطني) الذي كان الصوت الصارخ في مواجهة الحكم والحكام في إطار السلطنة القعيطية. لقد بدأ البار داعية للإصلاح في إطار الموجود منذ منتصف الأربعينيات كما نجد في بعض قوله من قصيدة أثبتها في ديوانه الأول (من أغاني الوادي):
قدال إن العصر يسرع في الخطى ::: وجمودنا باق, فكيف الحـال؟ البـؤس جـم والجهـالة والونى ::: فينا, فهل يرجــى لهن زوال؟ خلت البـلاد من الشباب, وأقفرت ::: وتصرّمت في الغربة الآجـال وكأنمـا هـذي الحيـاة روايـة ::: للحـضـرميِّ ختامها الزلزال (39) |
مما أثار قلقا للسلطة الحاكمة فسعت إلى إغرائه بالوظيفة (المحترمة) فوقع الشاعر في سياق تسلط الحاكم, وهو ما يأباه, ففر من قيد الإغراء الناعم بعد أن خبر أسرار الوظيفة ومعاناة الموظف فكانت قصيدته (في سبيل البدلية) تنديدا (بالحياة البائسة التي – كان – يحياها الموظف الوطني بهذه البلاد). وهو يفتتحها بالدعاء للأيام الخوالي التي كان فيها حرا لا تعوق حركة أيامه قيود وظيفة ولا منغصاتها:
يا وقى الله عيشة الحـريّة ::: ورعى الله صبحها والعشيّة حينـما كنت طائـرا يتغنّى ::: عبر أجـوائه الفساح العليّة ويحيي الصباح والحسن فيه ::: والأصيل الجميل خير تحيّة (40) |
هنا حديث عن حريّة فرد عزّ عليه أن تقيده الوظيفة, ويستبد به روتينها اليومي البليد, وما يعلق بنفسه من أوضارها فانتفض يرمي عنه ما أصابه بسبها من هوان لا يليق به:
بدّلت حـالة اليسـار عـسـارا ::: وشكا الجيـب فقره والبليّة وانزوى (البار) في المكلا كأن لم ::: يك يوما ربَّ الندى والحميّة يلعن النشر والوظائف والكـون ::: ويبكي الـماضي بعين سخيّة ويـرى الشـهـر أول شـهـر ::: إذ يكرم فيه بمنحـة شعبيّة بعد جـهـد من الجحـيـم كأن ::: النـار قد حولت إلى الماليّة وسـؤال يجـر ألـف سـؤال ::: وكـلام غـثٍّ وحـال زريّة |
شكوى مريرة تنفثها ذات لقيت من بؤسها أحوالا من الألم الممض ولغة تدنو من لغة التداول غايتها إيصال المضمون في عبارة لا تستغرق في الشعرية من حيث هي وظيفة كل كلام سامٍ فغلب الإبلاغ على البلاغة. ولكنها حرصت على أن تجعل من ألم الذات مفردا في صيغة الجمع, فإذا ما أصابها يتجاوز حدودها ليلتحم بحدود الآخرين من أمثالها:
إنها قصة الموظف والبـؤس ::: بهذي المدينة الحضرميّة قصة تبعث القنوط إلى النفس ::: وتدني الشريعة البلشفيّة |
غدا التنديد سخرية من سوء الحال الذي يرى ويعاش. بل تجاوزه إلى شيء من (الترجيع) الذي اقتضته اللغة المتداولة:
قلت: يا صاحبي أريد حقوقي.
قال: ماذا؟
فقلت: لي بدليّة.
قال: ماذا صنعت؟
قلت: صنعت الخير نحو المجالس البلديّة.
قال: لا شيء في رصيدك.
فأذهب للسكرتير في السبيل السويّة.
قلت: سمعاً.
ورحت أسعى إليه فكأنيّ له رسول المنيّة.
قال: كم؟
قلت: مبلغ لا يساوي بعض هذي المواقف الحاتميّة.
ثم يختتمها ببيت يقتضب به تسلسل السرد في القصيدة فيقول
هذه قصتي فيا ويح نفسي ::: كيف يرضى إباؤها بالدنيّة
مذ ذاك أخذ الإبداع يتقصّى صور الفساد في (الحكم) ليندّد بها. واتخذ تعبيره عنها منحيين. أولهما منحى التنديد بالموجود دون أن ينشد تغييرا. إنها رغبة في الإصلاح دون مساس برأس الحكم في السلطنة, ربما لاعتلاء السلطان صالح بن غالب القعيطي على سدّة الحكم يوم ذاك. وثانيهما منحى التنديد بالموجود مع تعيين صورة المنشود, وهو ما تدل عليه قصائد الديوان بعد العام 1956م.
ولقد حدّق الشاعر البار في مشكلات وطنه (حضرموت) فوجد أوّلها شتات أبنائه في أصقاع الأرض حتى غدا (الحضرمي) ملاحاً تائهاً (أعياه طول الجهد في غير ملالة) حتى (ملّ سُراه النجم في لجّ الضلالة), ولا منجى له من ذلك التيه:
إنّه رحـالة في الكونِ يستـجـدي نـواله إنّه طـوّافة الـعـمـر فيـا لله يـا لـه قد سقاه الدهر من كأسِ الأسى حتى الثماله وتـولاه مـن الضـراء ما فـاق احتماله قـد نـبـا الموطن بالحرّ المفدّى لا أباله فتـولى عنـه لا يبـصر للـرشـد دلاله (41) |
ولذلك عاش (الحضرميّ) مضيّعا في وطنه, ومشرّداً في أوطان الآخرين:
وشعبٌ يعيش على أرضـه ::: وليس بـعـبـدٍ ولا سيّدِ يسير قطيعاً بلا غـايـة ::: سوى أنه الرائـحُ المغتدي ويرجع حين ينـال الكفاف ::: جريح الحشا دامي الأكبـدِ على كل أرض لـه ذلّـةٌ ::: تغنّى كأنشـودةِ المنـشـدِ وفي كل قـطـر له شعبةٌ ::: تعيش مع الموت في موعدِ تهدَّد بالطرد في كل حيـن ::: وبالذلِّ إن هي لم تـطـردِ (42) |
وتلك حال لم يجف انهمارها في الزمان, فما زال (الحضَارم) مضيّعين في الأرض عامة, وفي أرضهم خاصة, وهو ما جأرت به الذات المبدعة في قولها:
إنّا لأضيعُ أهل الأرض قاطبـةًً ::: في قفرة خلقت منّا مساكينـا مضلّلينَ حيارى فوق عالمنـا ::: كالبهم نرتادُ في جهدٍ مراعينا فليسألوا كل نجمٍ عن مهاجرنا ::: ليعرفوا الأشقيـاءَ المستذلّينـا يا ويحنـا إننا شعبٌ يخطّ به ::: بؤسُ الحياة وبلواها عناوينـا (43) |
ولقد يمكن لينابيع الشتات أن تجفّ لو عرفت (حضرموت) حكومةً رشيدةً يهمّها أمر شعبها, ولكن هيهات ذلك. فشتات (الحضرميّ) ليس معزولا عن سوء إدارة الحكام فيها, وهم (الرعاة) كما يصفهم البار في شعره, ومع ذلك فهم سبب النفور من البقاء في البلاد, وإيثار الغربة على الاستقرار في الوطن ما داموا يحكمون بالجفوة والقسوة :
يا بلادي حتّام في ضيعة العمر تُصمُّ الآذانُ عـن صيحـاتـك كم رفعنا فيك المرير من الشكوى فذابت أصواتنا في شكاتـك لهث الشعر والنثيرُ وما حـدّ لسان البيـان مـن ويـلاتـك وتلاقـى جـور الطبيعة في الحـكم عليك بجفوة من رعاتك الرعاة الذين يمضون في اللاشـيء هذا النفيس من أوقـاتك الرعاة الذين يـجـرون في الأمـر لما لا ندري على نفقاتك الرعاة الذين لم يستجيـبوا لـهـتـافٍ يدوي بكل جـهـاتك (44) |
وهنا تبرز المشكلة الثانية التي حدّق البار فيها بعمق, وندّد بها في شعره, إنهم (الحكام) الذين لا يرون للشعب حقا, ولا ينظرون إلا إلى مصالحهم دون اكتراث بالجموع التي تضبحّ ممّا تعاني البلاد وممّا يعاني الشعب.
يا ضيعة الأحقاف في أدوائــها ::: خرس البيانُ وعيّتِ الأقـلامُ حـفّ السراب بكلِّ مشروعٍ بها ::: فهوى وذاب وجفّ وهو ركامُ مسكينةٌ تخذ الدخيـل مـهـازلاً ::: من كلّ ما يبـنى بها ويقـامُ مبهورة الأنفاس في لجج الأسى ::: لا الشعبُ ينقذها ولا الحـكامُ (45) |
والبار يضمّن تنديده بالموجود دعوات حرّى للعدل والحريّة وحقّ الإنسان في أن يعيش كريما غير مهانٍ. وتلك شنشنة التنويريين في الأرض:
وهو لم يتحدث عن طاغية جبار في السلطنة القعيطية ولكنه تحدّث عن إداريٍّ فاسدٍ شقيت به البلاد والشعب:
ولقد بلغ التنديد بالموجود حدّه الأقصى حين صبّ لعناته على رؤوس أعلامٍ من المتنفّذين المتربعين على إدارة السلطنة وذلك حين (طغى على حضرموت المجلس البلدي), وحين (لم ينج من شرّه سهلٌ ولا جبل) فقال:
فقل “لبوستيد” و”القـدال” أين بنا ::: إذا لعنّـا نظـام المجلس البلدي
وقل “لبامطرف” جاوزت كل مدًى ::: في كلّ موضعِ شبرٍ مجلس بلدي
والأعلام الثلاثة أيقونات في دست الحكم يومذاك كما لا يخفى.
على أن هذا التنديد لا يتجاوز الموجود ليصل إلى المبتغى المنشود, والشاعر البار ذو نظرةٍ متطلعة إلى غدٍ جديد يتلمسه في كل ظرفٍ ومقام فيقول:
وهبّي محدِّثةً عن غدٍ ::: فإنّا نريد حديثَ الغدِ
في سياق تحيته ليلة المولد النبويّ, ويناجيها بما يتجاوز حاضرها إلى غدها المقبل قائلا:
فيا ليلة النور من بعد عامٍ ::: تعوديـن مُشْرِقةً فـاشهدي
ستلقين ما يصنع العاملون ::: وما يفتدي الوطن المفتـدي
شعـوبٌ تطهِّر أوطـانها ::: من الدَّنَـسِ الآثـم المفـسدِ
وتصرخ في وجهه حـرّةً ::: بملء الحـنـاجـر لا تقعـدِ
وتمضي تدافعُ عن حقِّها ::: وتسعى إلى الأفضـل الأَرغــدِ (46)
وهذا يقوله في سياق التحضيض على الفعل, وسياق التأسي والاقتداء. ويوغل في التحدّي بعيداً لأنّ نيل المطالب لا يكون بالتمنّي ولا غير فلا بدّ من الفعل إذاً, وسبيله لدى بصيرة البار واضحة:
غير أني سأحـطم القيد يومـاً ::: وسأمضـي في ظلّ حريّاتك
سوف أمضي مع العروبة حيّـاً ::: أبعث الروح في رميم رفاتك
سوف أمضي مع الشعـوب إلى حقّي وأمضي إليه رغم عـداتك
سوف أمضي مع المبادئ أبني ::: من كياني على ظبى أسـلاتك
وسأحيـا وإن فنيـت سأحيـا ::: في سجل الخلود من ذكرياتك (47)
تلك رؤيته لما ينبغي أن يكون. أما وسيلة تحقيق ذلك المنشود فهو عزم الشباب القادر على تحمل تبعات التغيير, والسير بصخرته الثقيلة حتى تستقر على جبل يؤوي ويعصم من الفشل:
يا فتـيةَ البعث الجـديد تحفّزوا ::: فلعلّ برقًـا في الجواء يشامُ
وتحيّنوا فـرص الحياة وجدِّدوا ::: فيـها, فأنتم في الحياةِ الهامُ
أنتم غدٌ, فامضوا إلى الغد شعلةً ::: تفري الدجا والخالِفُون نيـامُ
مستقبل الأحقـاف فـي أيديكمو ::: فليـرسـمٍ المستقبلَ الرسامُ
فلنحن أولى في الزمان بموطنٍ ::: إن نحيى نحيى به ونحن كرامُ (48)
لكنّ في حضرموت أمّة لا تستيقظ فضاعت صرخاته هباءً, على الرغم من اشتعال نيران التغيير في كل شبر من بلاد العرب:
الكون يغلي وهي في غفواتها ::: لم تصحُ منـها المدن والآكـامُ
عبرت عليها النائباتُ سواحقًا ::: البـؤس في طيـاتـهـا والذامُ
فاستمرأت ذلّ الحياةِ ولم تقف ::: أترى خلت من أسدها الآجـامُ؟ (49)
ومن أغوار هذا اليقين العروبيّ كانت قصائده عن (يوم العروبة) و (يوم الجزائر) وعن (بور سعيد الخالدة) وما أشبهها من قصائد.
محور الموت :
وأقصد بهذا المحور قصائد الرثاء التي اشتمل عليها الديوان, وهي خمس قصائد. واحدة في رثاء ولده الصغير علي, وثانيتها في رثاء أمه الثانية – وهي خالته التي كفلته بعد وفاة أمّه -, وقد رثاها في سياق رثائه ابنها عبدالله والثالثة مرثيته في ذكرى الفنان محمد جمعة خان, وقد ألقاها في ذكرى الأربعين, ونشرت في صحيفة الطليعة, وذلك قبل سنة من وفاة الشاعر. وهناك مرثيتان في علمين علامتين من علماء حضرموت هما السيدان (عبدالرحمن بن عبيداللاه السقاف ), و(محسن بن جعفر بو نمي). وهناك قصائد أخرى قالها الشاعر راثيا قريبًا أو صديقًا أو عالمًا أو ما قرب من هؤلاء صفةً أو بَعُدَ ولكن الديوان لم يضم منها غير تلك القصائد المذكورة سلفًا. وليس في ذلك من ضير ما دام بالموجود غَناءٌ عن سواه. وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق.
والرثاء نواحُ الشاعر على الميّت. وقديمًا وصف الشاعر العربي بأنّه (مدّاحة نوّاحة). وإذا كان الوصف مخصوصا بأبي تمام فيما نسب قوله للبحتري, فهو ينطبق على عموم شعراء العربية من الجاهلية حتى اليوم على تفاوت وتنوع وتمايز. ولقد تلازم المدح والرثاء لا في أشعار الشعراء وحسب بل وفي كتب البلاغة والنقد, وفي الدراسات الأدبية الحديثة حتى غدا (الرثاء) في نظر كثيرين منهم (مدحا) ولا فرق (إلا أن يذكر في اللفظ ما يدل على أنه هالك) كما قال قدامه بن جعفر في “نقد الشعر”. وأن (لا فصل بين المدح والتأبين إلا في اللفظ دون المعنى, فإصابة المعنى به ومواجهة غرضه هو أن يجري الأمر فيه على سبيل المدح). وقس على ما سلف ذكره ما جاء في كتب البلاغة كالعمدة وما أشبهه فالمقروء دالّ على المجهول من نظائره.
وإذا كان اهتمام شعراء العربية بالمدح قد تراجع منذ شعراء (الرومنسية) حتى تلاشى في الأجيال التالية, فكفَّ الشاعر العربي عن أن يكون (مدّاحة) فإنّ كثيرين من شعراء العربية لمّا يزل (نوّاحة). وما زال (الرثاء) تجربة في الحياة متصلة برؤية الشاعر للزمن والموت من حيث هما بنيتان فكريتان نفسيتان يبرزهما الشاعر حسب موقفه منهما, ووعيه بهما, ومدى تفاعله معهما. وظلّ (الرثاء) هاجسًا من هواجس الشعر عند كثير من شعراء الحداثة وإن تنوّعت طرائقهم في جلاء تجاربهم, وبيان مواقفهم منه. فإذا وقف مفهوم (الرثاء) عند نزار قباني عند مفهوم (الندب) كما عرفه التراث الشعريّ والنقديّ العربيّ, تجاوز شعراء مثل أحمد عبدالمعطي حجازي, وأدونيس, وعمر أبو ريشة, وعبدالله البردونيّ وآخرون أشباههم ذلك المفهوم الموروث للرثاء ندبا وتأبينا وتعزية إلى مدى يحتاج درسا نقديًّا يبلور رؤية, ويجلو مفهومًا, ويكشف عن أبعاد للكتابة الشعرية في مثل ذلك الهاجس الشعريّ.
والرثاء صورة من صور مواجهة الإنسان مع الموت. والموت قضيّة وجوديّة تلازم الحياة. لكنّ من الفلاسفة وعلماء الكلام من جعلوا منه أشكالا يستعصى عليهم حلّه, ولغزا حاروا في السبيل المسعفة لفكّ غوامضه وكشف أسراره. حار فيه (جلجامش) كما حار فيه (ابو العلاء), وألبس أمره على فلاسفة اليونان وشعرائهم وهم الباحثون عن خلود الإنسان في الدنيا وهو الفاني وإن تطاولت به أعوام العمر, أو مُنح من الآلهة سبلا لتحدي الفناء والنجاة من الموت كما حدّث هوميروس عن (أخيل) في (الإلياذة). لكنّ العقل المسلم لا يرى في الموت إشكالاً, بل يراه يقينا يفد إليه مطمئنًّا ويقبله راضيا مرضيا, وهو يقين ينبع من إيمانه العميق بقوله تعالى : (إنك ميّتٌ وإنهم ميّتون). وبقوله جلّ وعلا : (نحن قدّرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين). وبقوله عزّ من قائل : (قل إنّ الموت الذي تفرّون منه فإنه ملاقيكم ثم تردّون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون). فغدا في وعيه مسلّمة لا سبيل إلى الجدل حولها, أو الاستغراق في التفكير فيها لإدراك كنهها. لكنّ أثره لا يُنكر, وما من إنسان مات إلا وماتت معه قطعة من عمر إنسانٍ ارتبط به بعلاقةٍ ما. ومن هنا عدل كثير من الشعراء (المسلمين) عن التفكير في فلسفة الموت,والنظر إليه في بعده الميتافيزيقيّ إلى حديث عن ألم الفقد وفداحة الخسارة في الميت كائنة ما كانت صفة علاقة الذات الشاعرة به.
ولقد مسّ الرثاء عند شعراء الحداثة شيء من التطوير لمعناه ومفهومه وطرائق عرضه بحيث استحال عند بعضهم إلى محاكمة لتاريخ العلاقة بين الراثي والمرثيّ على مستويات عديدة سياسيًّا واجتماعيًّا وحضاريًّا كالذي يجده المرء في قصيدة (مرثية العمر الجميل) لأحمد عبدالمعطي حجازي, وقصيدة (مقدّمة لملوك الطوائف) لأدونيس.
وللبار منظوره لمفهوم الرثاء في الشعر, وتنوعت طرائقه في التعبير عنه لتنوّع تجاربه الشعريّة ومواقفه الشعوريّة والفكريّة. ففي (دموع الغريب) يتوجع في سياق الفقد الذي ابتلي به في غربته:
أوّاه فقدك يا علي ::: وافى الغريب ليبتلي
فرأى الذي لما يبق من جـلـدٍ به إلا بلي (50)
ويبالغ في تصوير أثر الموت على وجدانه, فيرى خبر موت ولده جيشا لجبًا يرميه بأحدّ من السّنان, ويحرقه باللهب:
ورمى الفؤاد من السطور المحرقات بجحفلِ
ومن الهموم السائراتِ رواكضـًا في قسطلِ
والذكـريـات الزاخـرات بآخـرٍ وبـأولِ
وإذا الفؤاد يذوب ما بين الضلوع ويصطلي
وهو في (فقيد العلم والفتوة) يتأوه متوجعًا في سياق الأسى والفقد متجاوزًا الذات ليتسع القول فيشمل أرضا شاسعةً بحجم (الجنوب) كاملاً:
يا ويح ما لقي (الجنـوب) لمصرع ::: أهوى على أمل وغال رجاءَ
فمضـى يصعّـد زفرة من روحـه ::: موصولةَ الآهاتِ صبح مساءَ
ومضى يقيس بك الرجال فلم يجـد ::: وظهرت وحدك دُرّة عصماءَ
بل يتعالى على ذلك ليتصل بأخص خصائص المرثيّ وهي (العلم) و(الفتوى):
العلم ويـح العلم إنّـك ربُّـه ::: كم رحت فيه تصـارع الأنواء
يا ويح للفتـوى تولى شيخها ::: فلتستعرْ في حضرمـوت بكاء
بك يا ابن عبداللاه عاشت حُرّةً ::: تدمي الطغاة, وترشد الجهلاء
وهو في (في ذكرى رائد الفن) يفتتح المرثية على سياق الفرحة والابتهاج متخطيا مقتضيات الرثاء من بكاءٍ ونواحٍ ونحيب:
سلوا ربـى الخلد هل رفّـت حواشيها ::: حفيّة بهزار قـد ثـوى فـيـهـا؟
واستنطقوهـا أمـا أصغت إلى وتـر ::: من صادق الحس إن غنى سيعطيها؟
واستخبروا ساجعات الورق هل سرقت ::: منه اللحون وراحـت عنه ترويها؟
نـاحـت – كما نـاح للأيـام- باكية ::: طـورا .. وآخـر ذابت في تغنيها؟
وحـدّقوا في ثرى “يعقوب” هل نبتت ::: بصفحتيه ريـاض تـاه رائـيـهـا؟
وهـل تفجـر فيـها صيـِّب غـدق ::: إذا بكى استضحكت وازينـت تيـها؟
وهل تردد فـيـهـا هاتـف غـزل ::: أو هامش يصنع الأنات .. يوريـها؟
وإنما صار (الموت) هنا راحة بعد تعب ولغوب, لأن (الحياة) كانت مكابدة بؤسا وشقاء وآلاما لا تكفّ, ومع ذلك وهبها المرثيّ خير ما وهبه من عبقرية فنية ليسعد في شقائه أهل زمانه:
غنت على شدوه (الأحقاف) راقصة ::: حينا من الدهر قاصيـها ودانيـها
يا ما تمايـل فيـها كل ذي طرب ::: في نشوة .. فرحة الأغصان تحكيها
وكم تثنت غصـون في جوانبـها ::: ما بيـن حاضرها أو بيـن باديها
لكنه على غزارة ما أعطى وقيمته لم يلق من أهله إلا العقوق. فيقول البار في سياق الاعتراف بهذا العقوق, وفي سياق التبكيت على سوأة الفعل:
لقد عققناك والأيـام شـاهـدة ::: والعبقرية تأبى من يواسيـها
والدهر يصرخ والدنيا تهيب بنا ::: عسى نخفف شيئا من مآسيها
إنا تركنـاك منسيا وقد صنعت ::: يـداك فنّـا مع الأيـام يبليها
هكذا يتسع الرثاء لسياقات شتى, منها الثقافيّ ومنها الاجتماعيّ ومنها الجماليّ. وتغدو القصيدة فضاء تطوف فيه العلامات التي تنثّ أشتات المعاني ومختلف الدلالات.
وفي مقام (الرثاء) هنا يحضر في الذهن سؤال سائل من الكتاب: (هل في الأدب شيء آخر غير الأدبية؟). وهو سؤال لا يحتاج إلى كبير اعتناء لأن إجابته يسيرة متيسّرة. فالعمل الأدبي كالعلامة عند دوسوسير تتشكل من دال ومدلول. ولا وجود لدال دون مدلول, ولا لمدلول دون دال. والأدب كائنا ما كان جنسه التعبيري يتألف من علامات متجمعة, وله ما للعلامة اللغوية في حالتها المفردة من خصائص وسمات, أي تتألف من (تصوّر) يصبح مدلولا, ومن (صورة سمعية) تغدو رموزا لفظية أو دالا في النص. لكن دارسي الأدب وقرّاءه عمدوا إلى تلقي علاماته مشطورة, فنظر قوم منهم إلى مدلوله معزولا عن الدال, ونظر آخرون إلى دالّه دون اكتراث بمدلوله. فبدا النص – في الحالتين – شقا يفتقد شقه الآخر, وتاه ناتج علاماته الدلالي في ثنايا النظرة الأحادية لمكونات العلامة. ومن هنا صحّت نظرات القائلين بالتلاحم الوثيق بين (الثقافيّ) و(الجماليّ) في العمل الأدبي كائنا ما كان جنسه التعبيري.
من هذا المنطلق اقرأ الأبيات الخمسة الأولى من مرثية البار في العلامة الحبيب عبدالرحمن بن عبيداللاه السقاف, متأملا في مطلعها, وهو بيتها الأول:
عبرت حياتك عزّة وإباءَ ::: واليوم تسمع للمنون نداءَ
عبور الحياة بعزّتها وإبائها يفضي إلى زمن ماضٍ يعادل الموت. وسماع (المرثيّ) نداء المنون في حاضره يفضي به إلى الزمن الماضي الذي يعادل الموت. فكأنما انقطعت (الحياة) بالمرثي حاضرا ومستقبلا وغدا ماضيا لا امتداد له. والمقصود بالحياة هنا لا المعنى الفسيولوجي ولكن المقصود معناها العلمي والثقافي. لذلك قال:
علما فقدنا فيك عزّ نظيره ::: هيهات بعدك نطلب النظراءَ
فكأن (الحياة) لدى الحضرمي حاضر مشهود وسواه هو العدم. أو لم يقل الحضارم في أمثالهم: (من غاب عن العين غاب عن القلب)؟ وما الموت إلا غياب لا لقاء بعده. لكنّهم قالوا في أمثالهم كذلك: (ماغاب نجم إلا ظهر زاهر). وإنما هذا في الأمنيات لا في الواقع المعيش, ومن باب هذه الأمنية جاء قول البار في ثنايا المرثيّة:
فاذهب فأنت اليوم أعظم باعث ::: ولرب ميتٍ يبعث الأحياء
لكنّ أحدًا لم يبعث, وأحدًا لم ينبعث. أتراه قارّا في وعي الشاعر أن هذا انقطاع لن يكون له انبعاث لأن تلك هي سيرة العلم والعلماء في حضرموت؟! هذا أمر يجوز. والشواهد شواهد.
ولجلاء الصورة آتيك بنقيض ما قال البار, وهو البيت الأول من مرثية أحمد شوقي في (عمر المختار), وهو مطلعها:
ركزوا رفاتك في الرمال لواء ::: يستنهض الوادي صباح مساء
وهنا ينماز شوقي برؤية ديناميكية لحياة المجاهد عمر المختار وموته. انطلق شوقي من لحظة الماضي التي تعادل الموت (ركزوا رفاتك), لكنه تجاوزه إلى حاضر يتمدد إلى المستقبل حين أحال (الرفات) (لواءا يستنهض الوادي صباح مساء) فغدا نواة لبطولات لا يحصى عددها. وأسعفه استخدام الفعل المضارع (يستنهض), وظرف الزمان (صباح مساء) في تحصيل الاستمرار والديمومة والتواصل والتمدد.
والبار يستخدم (التكرار) في مظانّ من مراثيه الخمس, ويجيء به في أنساق معلومة. منها نسق (النداء) في قوله:
أوّاه
يا أمل الغريب بنورك المتهلّل
يا نفحة العمر الكئيب
وبهجة المستقبل
يا رقّة الروض الخصيب
ويا غناء الجدول
يا فرحة الأم الحنون
وبهجة العيش الخلي
فيحقّق تكرار (النداء) هنا بتنوعه نوعا من الانتظام الإيقاعي مصحوبا بصور تتنامى في تشكيل استعاري تشي برؤية الشاعر للطفولة ومعناها.
ولقد يسهم (التكرار) في تحقيق انتظام على المستوى الوزني للأبيات في تشكيلها الرأسي والأفقي:
يا ويحها ما حالها في رعشة المتزمل؟
يا ويحها ما خطبها في وثبة المستقتل؟
في صرخة الثكلى وفي إطراقة المتبتل
حيث تتوالى تفعيلة (متفاعلن ل ل ـ ل ـ) مخبونة في التفعيلات الثلاث الأولى من كل بيت (متْفاعلن ـ ـ ل ـ). وتشذّ التفعيلة الرابعة في كل بيت فتجيء تامة سليمة تارة ومخبونة تارة أخرى. لكنه ينزاح في البيت التالي لهذه الأبيات عن ذلك النسق, وهو قوله:
في وحشة الزمن الكنود وذلّة المترمل
حيث تسود تفعيلة (متفاعلن ل ل ـ ل ـ), ولا تحضر مخبونة إلا في أول البيت الأول.
ولقد يكون (التكرار) باستخدام (كم) الخبريّة لإفادة معنى التكثير:
كم وقفة لك ليس ينساها امرؤ ::: لم تتخذ صلفـا ولا خـيـلاء
كم غضبة للحق قـد أرسلتـها ::: أفدي بروحي الغضبة الحمراء
كم وثبة لك تبتغي مـن خلفها ::: لمّ الشتـات وتـدفـع الأرزاء
هذا دون أن يخليها من الصوتية التي تتولد عن التكرار. وإنّ من نافلة القول الإشارة إلى أنّ هذا المكون الأسلوبي قد جاء على أنساق متنوعةٍ, منها الثنائي ومنها الثلاثي ومنها الرباعيّ, ولم يتجاوزها إلى سواها من أنساق في إطاره.
ويحضر (النداء) في نسق آخر, فينادي البار علما مستخدما أداة النداء (يا):
وهو نسق يتوالى في سياق البعد. لكنه يأتي بالنداء في نسق غير ما سلف, فينادي (صفة):
أماه مصرع عبدالله قد وثبت ::: من أجله كل آلامي بلا عدد
أو ينادي (كنية):
أيا علي فداك الشعر منحدرا ::: ملاحنا صغت من قلبي قوافيها
وذاك نسق يتعالى في سياق القرب على الرغم من مسافة البين واتساع قدرها.
والحديث عن هذا المحور (الموت) على أيّة صورة من صوره جاء لا يكاد يحدّ, ولذلك نكتفي بما سلف, وحسبنا ذلك إيضاحا لتجلياته في ديوان (أصداء) للشاعر البار. لكنني أشير هنا إلى أن مراثي البار في الديوان خُصّ بها واحدٌ من القرابة ولدا أو (أمّا / خالة) أو ابن خالة. أو خص بها صديق حميم, ما يغلّب صفة (الوجدانية) في رثاء الشاعر من رثى من هؤلاء. أو خُصّ بالرثاء واحداً من علماء حضرموت فغدا أقرب مايكون لأداء واجب مفترض الأداء. لكنك تعدم مرثية في سلطان أو والٍ أو حاكم كائنة ما كانت صورته أو صفته. ولهذا دلالته في مثل هذا السياق التحليليّ.
محور الدين:
يذهب كثير من العارفين بالحداثة في الشعر ونقده إلى نفي الصلة – كائنة ما كانت صفتها – بين العقيدة الدينية والشعر. ويرون أن العقيدة يقين ثابت راسخ لا يأتيه شك ولا يقبل حيرة ولا يمسّه تأويل. وإن قليلا من بعض ذلك إن ألمّ بامرئٍ قد يفضي إلى جحود أو كفر أو إلحاد والعياذ بالله. أما الشعر فهجس بالسؤال لا ينقطع, وإبحار في الشك لا وصول له إلى شاطئ, وتحيّر دائم, ودهشة لا تزول. ويعللون هذا وذاك بأن أولهما وحي من إله لا سبيل إلى الكفر به عند المؤمنين بوجوده, وبأن ثانيهما نشاط عقلي ونفسي لذات بشرية تتفاعل مع الحياة, وتنفعل بها.
وينسى أولئك العارفون أن كبار شعراء الحداثة في الشعر كانوا من أصحاب الإيمان العميق بعقيدة دينية, وكان لها أثر في صوغ شعرهم, وفي تنفيذ جزئيات تجاربهم وتعيين رؤاهم. كان من هؤلاء جبران في العربية, وإليوت في الإنجليزية ومن أمثالهما آخرون. فالشعر من حيث هو مكون ثقافي لا يتنافى مع العقيدة الدينية, بل لعله في لحظة ما يكون باعثا على الإبداع ومحفّزا لعناصره بالتكوّن والنشاط. على أن لا يعني هذا تحول الشعر إلى وعظ بارد أو نصح وإرشاد. فالتجربة الدينية بكل أبعادها مجال رحب, ومداها طويل, وغورها عميق, ولا يحسنها عرضا ولا تشكيلا إلا شاعر هيمن على اللغة واقتدر على تصريفها أنّى شاء له الإبداع, وملأ استيعابه الدين ومتعلقاته كل جوانحه فتجاوز الآني المحدود إلى المطلق المنهمر في الزمان.
ولحضور الدين في الشعر سلطان لا بد من وفوره لتستقيم التجربة, وهو سلطان متعدد الصور, منها ما يتصل بالإيمان بالله مطلقا لا ريب فيه, وما يتعلق بذلك الإيمان من معان ورؤى. ومنها ما يمت بنشأة الشاعر بصلة. ومنها ما يتراسل مع الأبعاد الثقافية التي يحصلها في أدوار حياته. وإن أثر هذا كله لمتباين, وقلّ أن يتحد. ومن ثنايا هذا التخالف في التكوين يكون عمق التجربة أو يتراءى سطحها. ومن هنا كان اختلاف تجارب الشعراء سببا في ضوع عبير الشعر وإن تمايز شاعر من شاعر, فأحمد شوقي في تجربته الدينية غير أبي شبكة, وهما غير جبران في تجربته, وكلهم يختلفون عن شعراء كالحامد وأحمد محرم وعبدالمعين الملوحي والبار ومن شاكلهم من الشعراء.
والشاعر في بشريته تتناوشه هواجس من الإيمان والكفر, ومن اليقين والشك, ومن الهداية والضلال, ومن التمكن والحيرة. ولذلك كان (الشعر) بيت السؤال وإن انطلق من ربوات الهداية واليقين. هذا الشاعر البار يقف معترفا بما اقترف من ذنوب, مقرّا بخطاياه في حياته, موقنا بأنه مسيّر في قدره ذلك بلا مراء:
وإنني في حياتي لا مشيئة لي ::: لا السعي سعيي ولا التدبير تدبيري(53)
وليس في مثل هذا القول جبر أو ما أشبهه, ولكن تمثل لقول القائل : إن الإنسان مسير في القدر مخير في الشرع. ولقد اختار البار الإقرار بذنبه سعيا للتخفيف من عبئه الثقيل, وأملا في النجاة من وزره. لكن أيتحقق له ما رام؟ أم يخفق في مسعاه, ويعود بخفي حنين؟ هنا يكون الشك محفزا للشاعر على القول, وتتكاثر الأسئلة:
فهل أعود وآمـالي مبعثرة؟ ::: وهل أعـود بذنـب غير مغفور؟
وهل أعود بآلامي مضرّجة؟ ::: على جـنـاح مـن الآلام مكسور
وهل أعود وأيامي مضيعة؟ ::: وهل أعود وروضي غير ممطور؟
حيرة تورث اضطرابا في النفس, لكنها لا تخلو من يقين يدفع عنها بعض شيء من تلك الحيرة:
حاشاك تجني على نفس مولهة ::: شوقا, وقلب على الإيمان مفطور
والشاعر البار من شعراء الوجدان الذين يقبلون على متع الحياة يعبّون منها ما يشاءون, وإنهم لمؤمنون بعقيدة الإسلام وشريعته, ومن ثنايا هذا الجدل يكون اندفاع في الحياة وكبح, كما يكون كر وفر, فينشط الإبداع إقبالا على الرغبات أو إدبارا عنها ما دفعتها نوازع الإيمان في النفس. تلك طرائق كثير من شعراء الوجدان عند عرضهم التجربة الدينية في أشعارهم.
ولقد عرض لها البار في صورتين, أولاهما مناجاته الذات الإلهية في ثلاث قصائد اشتمل عليها الديوان. وثانيتهما مدائحه النبوية.
أما الصورة الأولى فالبار فيها مشايع أضرابه من شعراء حضرموت حين يعرضون لمقام الذات الإلهية في أشعارهم. فهم ينأون عن الانشغال بفلسفة الأفكار وبسط وعيهم بالألوهية بما هي مشكلة ميتافيزيقية, فيحصرونها في دائرة الابتهال والمناجاة والفزع إلى العزيز الجبار ليأمن خائف ويسكن مضطرب ويرجو مؤمل. لذلك لم تتجاوز التجربة بعدها الشعري والتخييلي فغلب عليها ذلك التفكير فلم توغل في سواه فلسفيا كان أو شبيها به. وفي الديوان ثلاث قصائد قالها الشاعر في أثناء مرضه مثلما أشار, فجاءت كلها في سياق الشكوى من الداء ومناجاة الله ليزيده من عطائه موفورا , وابتهاله ليعجل له بالشفاء:
منك الإعانة والرعاية ::: وبك الإغاثة والحماية
مـالي سواك مـؤمل ::: أرجـو نداه لكل غاية
أنت المـلاذ وأنت إن ::: أضنتني الدنيـا نهاية
يا رب يا أمـل الغريق إذا تردى في الغـوايـة (54)
لذلك كثرت أساليب النداء والالتماس لعل قطرة من بركاته تشفيه مما يألم منه:
يا إلهي .. ضاقت عليّ سبيلي ::: ودليـلي هـداك خـيـر دليـلِ
فاهد نفسي إلى صراط سـوي ::: وامسح الشك عن فـؤادي العليلِ
وامسح الضر والوساوس عني ::: واشـف باللطف يا إلهي غليـلي (55)
هنا الدعاء وسيلة العاجز لبلوغ المرام. وإنما كان العجز بسبب المرض الذي شلّ حركته, فازدادت حيرته أمام حيرة العقل على تبين علّة ما هو فيه. ومن هنا تلاقى مرض روحه في حيرتها وقلقها وخوفها مع ما كان أحسّ به من وهن في الجسم وعجز عن التحدي والنشاط. فانعدم الإحساس بالابتهاج في أيامه, وغلب الإحساس بالشقاء عليه ممّا كدّر خاطرا ظلّ صدّاحا مغردا:
أقبل العيد والنوازع في نفسي ::: ظـلام فـي بكرتي والأصيـلِ
أقبل العيد فـرحـة ونشيـدا ::: وهو عندي يبدو كروح العويلِ
فكان لا بدّ مما ليس منه بد. التمس سبل العلاج لدى الورى. لكن نفسه المطمئنة لربها أبت ذاك عليه, فكان وقوفه أمام ذاته في بنية (التجريد) البلاغي ليعتب ويلوم وينسرب من بعد إلى ابتهال يناجي فيه ربه كأرق ما تكون النجوى:
أضنـيـت بالتفكير نفسك ذائبـا ::: ونسيت أنك يا فتى مربوب
وذهبت تلتمس العلاج من الورى ::: ونسيت من إحسانه موهوب
من شدّ أزرك في الزمـان بفضله ::: والدهر مربدُّ الجوا مرهوب
فارجع إلى مـولاك واطلب عطفه ::: فالله عنـدك قط ليس يخيب (56)
اتحد اللائم والملوم فيه. واستعصم بحبل الله منصرفا عن كل شيء سواه, وبدت له علامات النجاة. فكان الاعتراف بالذنب بداية التماس سبل التوبة والخلاص منه:
ضاقت بي السبل العراض مذاهبا ::: فوقـفـت أخشى أيهن أجوب
وطغت علي نوازع ملكت مشـا ::: عر خافقي, ما إن لهن غـروب
إني وقـفـت بباب فضلك وقفة ::: وأنـا خـجـول مذنب وهيوب
كم جئت من ذنب وغيري جاءه ::: فـاغـفـر فما أعيتك قط ذنوب
والبار وإن عاش في بيئة يهيمن عليها التصوف أيا كان معناه, وإن لذ له ترديد أشعار بعض أعلامه الشعراء, فإنّه في إلهياته هذه يصدر عن تجربة معيشة يتلمس جزئيات صورها من ثنايا ما أحاط به فلا يستلهمها من دفاتر من سبقوه من شعراء متصوفة. وهذه علامة فارقة في قصائده هذه. وهو ما نجده يتجلى واضحا في مدائحه النبوية. فهو يتخذ منها تعلّة لبث وجده وحنينه لزيارة المصطفى صلى الله عليه وسلم, أو كشف ما أصاب الأمة من خور وضعف وهوان, أو دعوة لخلاص وطنه مما ألم به من ظلم وجور وامتهان.
يامـولد المخـتـار أيقظ أمة ::: في حضرموت يزينها الإسلام
الكون يغلي وهي في غمراتها ::: لم تصـح منها المدن والآكام
عبرت عليها النائبات سواحقا ::: أترى خلت من أسـدها الآجام (57)
وفي مدائح البار يلتحم الزمان والمكان في معنى السمو والرفعة لالتحامهما بالذات المحمدية. فإحياء ليلة المولد كل عام لا يقل في نظره عن زيارة المدينة المنورة. ففي ليلة المولد إحياء لذكرى مولده:
نحييك يا ليـلة المـولد ::: نحييك للمجد والسؤدد
نحييك للذكر الخـالدات ::: وللغابر المشرق الأمجد
ونهفو لذكرك من كل عام ::: إلى فائض طيب المورد (58)
والمدينة المنورة موئله من أذى قريش وسوء صنيعها معه في حياته, وهي مثواه بعد مماته, فطابت به, وغدت مهوى أفئدة, ومبتغى قلوب:
خذي وقودا من الأشواق عـارمة ::: من كل قـلب بنار الشوق مسجور
وسابقي الطير في أشواط سرعتها ::: أولا فطيـري على أحلامنا طيري
حتى إذا طيـبة لاحـت معالمهـا ::: فخففي الوطء وامشي مشية العير
وخلّفيـنا نعب النـور في لهـف ::: بـهـا لنطفئ منـه كل مسعـور(59)
فطيبة المكان ما طابت إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم, وغدت ذات مكانة عالية لا تدانيها فيها بقعة في الأرض في الشرف, ومن هنا يشتاقها البار كآخرين من أمثاله:
إنا ظماء إلى شتى محـاسنـها ::: مما ترى العين أو من غير منظور
وإنهـا أمـل عشنـا به زمنـا ::: هامـت به الروح في يسر وتقتير
وإنها غاية الأشـواق, تربتـها ::: قـد طـهـر الله منها أي تطهير
وإن فيها تراثا قـد سما شرفـا ::: فيـا تراثـا ثوى في هـذه الدور
فيها الهداية فيها النور منبسطا ::: سـالـت أشعته في كل معـمـور
فيها الرسول الذي دستوره كلم ::: فـاقـت دسـاتيـر أرباب الدساتير
وفي مدائح البار النبوية خطاب نوريّ ذو نبرة سياسية اجتماعية تنحو إلى الإصلاح يوم كان السبيل إلى الإصلاح مهيّأ, وإلى الدعوة الحارة إلى تغيير المجتمع وتقويض أسسه المهترئة المتداعية وجدرانه الآيلة إلى الانهيار يوم صار الحال يتطلب موقفا مثل هذا. ففي احتفال النادي الثقافي بالمكلا بمناسبة المولد النبوي يقف البار هاتفا بشباب ذاك العصر قائلا:
يا فتية البعث الجديد تحـفّـزوا ::: فلعل برقا في الجواء يشام
وتحيّنوا فرص الحياة وجـدّدوا ::: فيها فأنتم في الحيـاةِ الهام
أنتم غد فامضوا إلى الغد شعلة ::: تفري الدجى والخالفون نيام (60)
وهذه دعوات تتماهى مع نزعاته الإصلاحية, ومناشدة بني قومه الاندفاع المحموم نحو تغيير المجتمع وإعادة تشكيله على نحو مغاير ومخالف ما هو عليه على أقل تقدير. ولهذا مضى البار يتلمس الصورة الثورية في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم, وما اشتملت عليه شمائله الرفيعة من تلك الصفة, وهو في هذا مشايع من تأملوا في الأبعاد الثورية لشخصية النبي وطبيعة الإسلام ومبادئه السامية.
وبثّي طيوبا من الذكريـات ::: تفوح عـن العلم المفـرد
عن الثـائـر العربيّ الذي ::: بـدا في الغيـاهب كالفرقد
وأوحى لصحـرائه أن ثبي ::: وسيري إلى المطمح الأبعد
وسلّ الجزيـرة من شركها ::: عميـقـا, وقال لها وحّدي
ونادى العروبة في عيشها ::: رتيـبـا, ألا جدّدي جدّدي
وكأنه يقيم تناظرا بين حال المجتمع في عصر النبوة, وبين حال المجتمع في عصره هو. فكما ساد الفساد يوم ذاك ساد في زمنه وفشا. وإذا كان الخلاص من فساد يوم ذاك سبيله الثورة عليه متكئة على مبادئ دينية فلا سبيل إلى دفع الفساد في زمنه إلا بثورة تستلهم مبادئ الدين الذي جاء به هذا الثائر العربيّ:
وأبـدى مبـادئ من دينه ::: بأضوائها يهتدي المهتدي
مبادئ سار بها المدلجون ::: من الرحّـل الصبّر السهّد
فكانت لهم قبسا في الفلاة ::: وكانت لهم أعظم المرشد (61)
وهنا يهيمن الثقافيّ بأبعاده السياسية والاجتماعية على الدينيّ بكل أبعاده. فيغدو الدينيّ مثيرا تستجيب له ذات الشاعر لتنثّ من خلاله وعبره كل رؤاها في سياسة المجتمع والأمة على نحو لا يبعد عن مناحي الديني وسمات مكوناته المعرفية.
تلك إذا صورة لهواجس الديوان الموضوعية, أو قل أبرز معالمها فيه. وثمة ملاحظة وهي اختفاء شعر (الحب) من ديوان شاعر رومانسي كالبار عرف بغزلياته واشتهر بها. فهل هو الانشغال بهموم المجتمع والأمة صرفه عن تأمل ذلك الهاجس وأثره في نفسه؟ أو هي مشاغله اليومية في العمل الصحفي منذ خمسينيات القرن العشرين حتى وفاته؟ أو هو شعوره أن ما يتقطّره من مشاعر حب وعواطف عشق في نفسه كان يصوغه في شعر يصدح به الفنان المغني بدءا بالعبقريّ محمد جمعة خان وانتهاء بالفنان عبدالرب إدريس؟ فغدا شعر الأغاني ذاك مجالا رحبا لهاجس الحب في شعره, وهو ما اشتمل عليه عاميّا وفصيحا مغنى ديوانه الثالث الموسوم بـ(الأغاني), وله حديث آخر في مقام غير هذا المقام.
الحواشي: