كتابات
د. سعيد الجريري
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 6 .. ص 45
رابط العدد 6 : اضغط هنا
(1)
أن تشعر بأنوثتك تلك هي اللحظة التي تعلو فيها إنسانيتك درجاتٍ. ونادراً ما يشعر الرجل بأنوثته الكامنة، تلك التي تجرِّده من شوائب ذكوريته وأعبائها المتراكمة على إحساسه وتفكيره وطبيعة رؤيته للعالم، والتعامل معه.
أن تشعر بأنوثتك لا يعني أن تميل إلى ميوعة جسدية أونفسية شائهة، وإنما أن تشعر بأنك إنسانٌ متسامٍ، يدرك ما حوله بعينين تشعان جمالاً، وبقلب يفيض ورداً، وبصوت يهامس الكون كطفل يخشى أن يوقظه من نعاس حالم، هناك حيث ترقى إلى اكتمالاتك ذروةً ذروة.
(2)
أن تشعر بأنوثتك يعني أن تستلذ مذاق ضعفـك الإنسانـي، من دون أن يداخلك إحساس بقلة الثقة، فأنت في ذروة إحساسك بالضعف أقوى من أي صورة كرتونيـة أو نمطيـة للقـوة، كأن تربو فيك مفاعيل الفحولة كقيمة مضادة للأنوثة، لم يكن مفاجئاً أن تكون سمة الشعراء الكبار في الماضي، حيث لا مكان لوسم شاعرة ما بالفحلة مثلما يوسَم نظيرها الشاعر بالفحل. وتلك قيمة ترسبت في قاع تاريخي متعالية في المخيال الثقافي، ونظّر لها الفحول حتى قال الفرزدق : “إذا صاحت الدجاجة صياح الديك فاذبحوها”. وعلى نسق متوازٍ تتجلى في الأدب مثلاً ثنائية ملتبسة: الشعر# القصيدة، حيث يمتد التوازي بينهما، من صخب إلى همس، ومن أغراض إلى ثيمات كثيراً ما تحتفي بالمهمـش واليومـي والمنسـي والمقصي، وفق زاوية نظر ثقافية، تقترب مما هو إنساني أو إنسانوي، يتجاوز مكعبات التجنيس المألوف.
(3)
شعورك بأنوثتك ليس انسراباً (شاذاً)، ولكنه انغمـاس طفولـي في لحظتـك الأولى قبـل أن تـتـوالى عليها عوامل التعرية الثقافية والاجتماعية، فتوقظ فيك الوحشَ الغافي، لينقض على غزالة تركض، في فضاء لا يُحَد. تلك الغزالة الجميلة مأزقها جمالها، حتى لكأن الجمال خطيئة، ولأنها جميلة فثمة من يترصدها خلف أكَمةٍ مباغتة، وإذ تلوذ بالفرار مجفلةً تتناهى إليها دمدمات قبيحة تسد أمامها كل أفق. فأن تشعر بأنوثتك كأن ترى كل دربٍ بيانو تُموسقـه خطـواتُ الغزالة، لفتاتـها، حركاتها، سكناتها، وأنت على رملة الغيم تحسو خُطاها، لا يحدثك هاجسٌ نافر عن حفلة آثمة مثل ليل الشواء.
(4)
أن تشعر بأنوثتك أن تعيد قراءة ذاتك، باحثاً عن رقتك المجني عليها بوصايا كيدية عابرة للتاريخ، تهبط بك إلى هوة سحيقة ثم تعليك خارج الجاذبية، وفق قانون بائس يُعلي ويُخفِض، يُقصي ويُدنـي، بانتقائيـة مقدسـة، كأن محترفيها يعمَون، إذ يرون.
أن تشعر بأنوثتك خَلقٌ جديد لذات أخرى جديدة كأنها طالعةٌ للتوّ من النهر، خفيفة طليقة، بلا تاريخ، بلا خرافة، بلا وهم، بلا قناع، بلا شيزوفرينيا، بلا جناية عمد على طفلة جميلة أضاء وجهها لوحة يحف بها ملائكة، فاستدرك أحدهم، فغمس ريشته في العسل مضفياً لمسته الأخيرة على مقلتيها.
أن تشعر بأنوثتك رحلتك الأولى باتجاه شاطئ منسي، لكن محفوف بالأساطير والدهشة، حيث تشرق عليك الشمس لأول مرة، وتسترخي على قدميك بكسل لذيذ أول موجة تبللك بأول همسةٍ غير معنعنة عن طفلـة نسيتهـا سفينـة الهاربين، فلم تذرف دمعة واحدة، ثم تلاشت خطاها خلف أول شجرة في الأفق. على ذلك الشاطئ المنسي يبدأ تاريخ ليس كالتاريخ. إنه رديف الكلمة الأولى قبل أن يعبث بها اللسان، واستكنّت في قاعٍ لا تحيط به الصفات.
(5)
هل في شعور كهذا، أو في حديث كهذا عنه، خدش لذكورية تاريخية، تناسلت فصول شدتها في فحولة أسطورية، فشكلتا مصدّات نفسية عن تقبل تعبير كهذا؟. ربما. إنما لا غرابة، فمفاعيل النرجسيـة الذكوريـة، مازالـت تـرى في الأنثى أو المؤنث ظلاً باهتاً لها، وتحافظ على مسافة فاصلة بينهما مختلفين متضادين، خفضاً ورفعاً، متناسية أنهما نصفا التفاحة التائه أحدهما عن الآخر، منذ حكاية الغواية الأولى، قبل فاعلية التناص البشري.