ملف
أ.د. محمد بن هاوي باوزير
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 6 .. ص 54
رابط العدد 6 : اضغط هنا
أولاً: نظرة سريعة في النطاق الجغرافي
مملكة حضرموت
تعتبر مملكة حضرموت من أقدم الممالك العربية الجنوبية وتقع في شرق قتبان وتمتد شمالاً حتى صحراء الربع الخالي ، وجنوباً حتى ساحل البحر العربي ، وشرقاً حتى سمهرم في ظفار عُمان (حالياً – خور روري ) ، ويتبعها عدد من الموانئ مثل قنا (بير علي) ، وسيجاروس (رأس فرتك) ، وميناء سمهرم[1]. وورد ذكر حضرموت في التوراة [2]، وكذا في المصادر اليونانية والرومانية (الكلاسيكية) أن اسمها (أدراميتا) ، (وخادراماتيتس) ، وأنها بلاد اللبان أو البخور ، أي تتميز مملكة حضرموت بإنتاج هذه المواد العطرية ذات الأهمية العظيمة في الطقوس الدينية ، وكانت عاصمتها شبوة مركزًا لتجميع هذه المواد العطرية وتصديرها إلى العديد من معابد دول العالم القديم ، وخاصة عالم البحر المتوسط ، ونظراً لأهمية هذه المواد كونها محاصيل نقدية ومقدّسة احتلت مكان الصدارة في الكتابات الكلاسيكية منذ القرن الخامس ق.م [3]. أما النقوش العربية الجنوبية (نقوش المسند) فقد تردّدت فيها لفظة حضرموت كثيراً ، ويقصد بذلك أرض حضرموت القبيلة أو أرض مملكة حضرموت[4].
وهكذا ظلّت حضرموت دولة ذات شأن عظيم حتى دخلت في حروب ضارية مع سبأ وحمير أفقدتْها تدريجياً تلك المكانة المهمة حتى أصبحت كلّها في ضمن نفوذ مملكة حمير في النصف الأول من القرن 4م [5]. على الرغم من زوال مُلكها فإنّ اسمها ظل حيا،ً بينما جاراتها من الممالك العربية الجنوبية ( أوسان ومعين وقتبان وسبأ وحمير ) التي عاشت قبل الميلاد وبعده بزوال ملكها ماتت أسماؤها أو بقي ذكرها بشكل محدود .
الأرخبيل الإيجي :
بحر (ذراع) من البحر المتوسط بين اليونان وآسيا الصغرى ويربطه الدردنيل ببحر مرمرة واسمه القديم (أرخبيلاجو) ، وبحر إيجه عبارة عن مجموعة من الجزر ومنها جزيرة ديلوس[6]، التي وصل إليها التجار الحضارمة والمعينيون . وتشير الشواهد على وجود صلات ملاحية للتجار الحضارمة والمعينيين مع بحر إيجه ، أما ديلوس فهي من أهم الجزر الإيجية قديماً ، ووفقاً للأساطير الإغريقية كانت مسقط رأس (أبولون) و (أرتميس) ، و أبولون هو إله النور والموسيقى والشعر والنبوءات عند اليونان ، وُلد هو و شقيقه أرتميس بديلوس ، و فيها أيضاً معبده و هو من أهم معابد اليونان[7].
وقد تمتعت جزيرة ديلوس بأهمية تجارية وسياسية كبرى في العصور القديمة ، وكانت بها خزانة حلف ديلوس إلى أن نقلت إلى أثينا ( 454 ق م ) ، وفيما بعد كانت بها سوق رائجة لتجارة العبيد، و في ( 88 ق م ) هدمها ميثريداتس السادس (131-69ق م ) ملك بونثوس القديمة [8]. ولم تقم لها بعد ذلك قائمة ، ونظراً لهذه الأهمية التي تمتعت بها جزيرة ديلوس في العصور القديمة كان محطة تجارية مهمة يرتادها الكثير من تجار العالم القديم ومنهم التجار الحضارمة والمعينيون الذين وصلوا بتجارتهم وسلعهم المقدسة (البخور ومشتقاته) إلى عالم البحر المتوسط . وحتى نفهم أهمية هذه التجارة (تجارة حضرموت للبخور) مع باقي أقطار العالم القديم جدير بنا أن ننظر إلى الدور الذي كانت تؤديه مختلف أصناف البخور الحضرمي في الحياة اليومية لأعظم الحضارات منذ القدم، ومنها بلدان البحر المتوسط ، ففي مصر استخدمت الأسر الفرعونية البخور بكل مشتقاته قرباناً للآلهة ، وربما دخلت بعضٌ منها في تحنيط الموتى عند الفراعنة ، وفي الشام يُحرق البخور لتطهير المعابد ، وعلى سبيل المثال كان يحرق بكثرة في معبد بعل بلبنان ، أيضاً نجده مطلوباً وبكثرة في المعابد العبرانية ، فمثلاً المعبد العبري كان دوماً محجوباً عن العيون بدخان كثيف من البخور. وفي كريت القديمة (كريت أكبر جزيرة باليونان وتعتبر الحد الجنوبي لبحر إيجة) استخدم البخور وأحرق أثناء الطقوس الدينية [9].
وأشار( ليوكوك ) إلى أنه وبحلول أزمنة الرومان كان بوسع (بليني وهو من أهم الكتاّب الكلاسيكيون الذين اهتموا بجمع المعلومات عن البخور وذكر مواردها وصادراتها) أن يكتب مايلي :
” لنأخذ في الاعتبار العدد الضخم من الجنائز التي تقام في أرجاء العالم كل سنة وأكوام الروائح الزكية التي تحترق في شرف الموتى … أنه شرف الإنسان الذي يظهر حتى في طقوس الموت الذي جعل العربية حقاً سعيدة “، ولعله يقصد بالعربية البلاد الملقبة بالسعيدة وهي الأرض التي تنتج البخور أو الطيوب ، فهل يعني ذلك أن بلاد الطيوب (مملكة حضرموت) مرادفة للعربية السعيدة [10].
ثانياً:الحضارمة في عالم البحر المتوسط :
تؤكد العديد من الشواهد الأثرية والنقشية على وجود صلات وعلاقات تجارية وحضارية بين حوض البحر المتوسط و خاصة الأرخبيل الإيجي وبين مملكة حضرموت وبعض من الممالك العربية الجنوبية (مملكة معين )، وقد أكدت الشواهد الأثرية ذلك التواصل الحضاري بين حضرموت و عالم البحر المتوسط من خلال ما تم العثور عليه من بقايا أثرية ، ففي أقليم ظفار التابع لمملكة حضرموت القديمه، عُثر على بعض الفخار وبقايا خزف في ميناء سمهرم ( قديماً بناه الملوك الحضارمة في القرن الأول الميلادي نظراً لتزايد الطلب على البخور وتصديره لمناطق البحر المتوسط والشرق القديم ) ، تبيّنَ للبعثة الأمريكية لدراسة الإنسان بعد فحص الفخار والخزف أنه مستورد من موانئ البحر المتوسط في القرن الأول للميلاد ، ووجوده في هذا المكان يشير بالطبع إلى الاتصال التجاري بين مملكة حضرموت وسكان البحر المتوسط آنذاك[11].
من تأثيرات حوض البحر الأبيض المتوسط على شبوة عاصمة حضرموت القديمة أنه تم اكتشاف أجزاء من تماثيل من البرونز لأشخاص وحيوانات ( أحصنه و أسود و فهود.. )، وكذلك عثر على يد من العاج وقطع صغيرة من العاج ، وفيها امتُزِجَت الفنون المحلية بلمسات الفنون العالمية كالفن الروماني والهلنسي . وفي شبوة أيضاً تُظهر الحفريات الأثرية لبعض المباني و خاصة القصر الملكي والمقابر ، المكانة المتميزة لشبوة في التبادل التجاري وذلك في بداية القرن الأول للميلاد ، حيث عُثر على بعض الفخار الروماني (المختوم) ، ومصابيح وجرار ، وزجاج مستورد ، وقد كان تقليد الفن اليوناني – الروماني واضحاً في صناعاتهم المحلية ، وأحياناً يكون التقليد بشكل متقن . كما عثر على بقايا أو كسرات من الفخار ( الأواني الفخارية ذات الاذنين ) المنتجة في ورشات أيلة / العقبة تؤلف حوالي 80% من هذا النمط ، وكانت تستخدم من أجل نقل الحبوب والزيوت الآتية من بلاد الشام والمتوسط . كما عثر في محيط منطقة حريضة بحضرموت على مجموعة من الخرز السوري في القرن السابع والخامس قبل الميلاد[12].
تعتبر الفترة الممتدة بين نهاية القرن الثاني والقرن الخامس للميلاد – من غير شك – فترة أوج ازدهار قنا الميناء الحضرمي القديم ، وخلالها عثر على أوانٍ فخارية من صنع إيجه ، وفخار أسوان المصري وغيره ، وعثر أيضًا كسرات قوارير روديسية ( قوارير الخمور المستوردة )، وكسرات من أواني نبطية شديدة الأناقة … وهكذا كانت العلاقات التجارية لقنأ القديمة (الميناء الحضرمي القديم) تغطي منطقة واسعة تبدأ من شمال غرب المتوسط ( أسبانيا ، صقلية ، إيطالية ) وحتى شرق المتوسط ( مصر و الشام )، ومن معثورات قنا أيضاً كسرات الأواني الفخارية ذات الأذنين والتي تعود في أصولها إلى شمال أفريقيا وربما امتدت تلك العلاقات إلي جنوب غرب المتوسط ( المغرب العربي ) بدليل أن الاسم القديم لمدينة سوسه القرطاجية كان يعرف بحضرموت ، فربما كان الفينيقيّون مؤسّسو قرطاجة هم من أطلق على هذا المكان اسم حضرموت تيمنًا بموطن البخور حضرموت، بل مازال هذا الاسم (حتى اليوم) يطلق على أشهر وأقدم فنادق سوسة (نُزل حضرموت)، ويطلق أيضًا الاسم حضرموت على شاطئ سوسة السياحي وعلى بعض المحلات التجارية ، بل نجده متداول في المنتديات والفعاليات الثقافية عند أهل سوسة ، فأثناء تواجدي في سوسة ، في ديسمبر 2012م حصلت على دعوة مشاركة في فعالية ثقافية معنونة بـــ “ملتقي حضرموت الثقافي”.
أمّا الشواهد النقشية فقد تم العثور علي الكثير من النقوش والمخربشات التي كتبها تجار حضارمة ومعينيون [13] وتؤكد أنهم تاجروا مع بلدان شرق المتوسط ( مصر و سوريا وفلسطين ) وذكروا في نقوشهم ( مصر و غزة و صور و صيدا ) وهذا يؤكد أن تجّار العربية الجنوبية وخاصة التجار الحضارمة والمعينيون كانوا يتاجرون بالبخور ومشتقاته مع تلك البلدان وهي من السلع المطلوبه في معابدهم [14].
وتشير تلك الشواهد الى أن التجّار الحضارمة والمعينيون قد تعدَّوا بتجارتهم مصر متجهين نحو مناطق حوض البحر الأبيض المتوسط الأخرى وصولاً إلي الأرخبيل الإيجي حيث عثر في جزيرة ديلوس (Delus) اليونانية الواقعة في بحر إيجه في منطقة مونت سنت (Mont Cynthe) على نقشين الأول هو(RES3570) لتاجر معيني ويمثل مذبحًا هرميًّا يعلوه مكان للقربان مكتوب بالخط المسند واللغة الأغريقية، وهو عبارة عن إهداء للإله ( ود ) إله معين الرئيس، يتألف من ستة أسطر قصيرة الأسطر، الثلاثة الأولى بالخط المسند وبقية السطر الثالث والأسطر الثلاثة الأخيرة يحتوي كل منها على كلمة يونانية ويعود تاريخه إلى 166ق. م ، ونشر عام 1931 م. ويوجد النقش حاليا في متحف جزيرة ديلوس ونصه:
2- ن ص ب / م ذ ب ح / و د م / و إ ل إ ل ت .
3- م ع ن / ب د ل ث .
ويوجد في يمين السطر رموز بثلاثة اشكال دينية وأسفل النص المعيني نجد النص الإغريقي (ود، إله المعينيين، ود) ، انظر الشكل (2) .
والنقش الآخر هو (RES3952) وصاحبه تاجر حضرمي ، ويعد بمثابة قطعة حجرية من المرمر الأبيض مكسورة إلى جزئين ، تعلوها فجوتان مستطيلتان وثالثة دائرية ، عليها سطران من الكتابة بالخط المسند ، وهو نقش تذكاري تركه تاجر حضرمي عبارة عن إهداء لإله حضرموت القديمة (سين ذي اليم) نشر عام 1928م ، ويبدو من ترجمة النقش أن الإهداء من شخص حضرمي يدعى (غلبن بن ..) النقش:
وختاما إنّ العديد من الشواهد الأثرية والنقشية تبرهن في كثير من الحالات على أنّ الممالك العربية الجنوبية و خصوصاً حضرموت أبعد ما تكون به عن الانغلاق ، بل كانت مفتوحة للعلاقات والتأثيرات الخارجية ( التأثير والتأثر ) ، و خاصة مع بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط بما فيها العالم اليوناني والروماني.
[1]– انظر النعيم ، الوضع الاقتصادي في الجزيرة العربية في الفترة من القرن 3 ق.م -3 م، دار الشواف ، الرياض 1992م ، ص 37-38.
[2]-التوراة، سفر التكوين ، الإصحاح 10 ، فقرة 26-27.
[3]– Schoff.The periplus,op.cit.,ch27,p.32.Groom,Nigel.Frakincense and Myrrh.Astudyof The Arabian incense Trade(Arab BackgroundSeries) London and New York,181,p.160.
[4]– بافقيه ، محمد عبدالقادر . توحيد اليمن القديم (الصراع بين سبأ وحمير وحضرموت من القرن الأول إل القرن الثالث الميلادي ، ترجمة علي محمد زيد ، صنعاء : ط1، المعهد الفرنسي للآثار والعلوم والاجتماعية ،2007،ص160.
[5]– لمزيد من التفاصيل عن اسم حضرموت ودورها السياسي في جنوب الجزيرة العربة ، وكذا نشاطها التجاري في الداخل والخارج راجع منير عربش : معطيات جديدة حول تاريخ مملكة حضرموت القديمة من القرن 7 ق .م -3م ، حوليات يمنية ، المعهد الفرنسي للآثار والعلوم الاجتماعي ، صنعاء ، 2003، ص 7-14 .وباوزير ، محمد بن هاوي : كراسات في تاريخ حضرموت ، ط 1 ، دار الوفاق للدراسات والنشر ، عدن ، ص 17-35 ، 91 وما بعدها .
[6]– الموسوعة العربية الميسرة لمجموعة من العلماء والباحثين العرب , اشراف محمد شفيق غربال . دار الشعب القاهرة و مؤسسة فرانكلين صورة طبق الأصل من طبقة 1965م الجزء الأول ص278 .
[7]-الموسوعة العربية الميسرة , ج1,ص836.
[8]-خاض هذا الملك ثلاثة حروب مع الرومان عرفت باسمه وفيها استولي على اكثر أسيا الصغري وجزر بحر إيجه– عدا جزيرة رودس أنظر الموسوعة العربية الموسعة ج1/ص 836 ،ج2/ص1797 .
[9]– انظر : رونالد ليوكوك : وادي حضرموت ومدينة شبام المسورة ، عدن أبريل 1983م ، ص6 . وانظر : والتر مولر : الموسوعة اليمنية ، مجلد 2 ، مؤسسة العفيف ، صنعاء 1992م ، ، ص 793 – 795 .
[10]– ليوكوك ، المرجع السابق ص 6 ، وسبق أن قمنا بتوضيح لفظة السعيدة وأن حضرموت تستحق أن تنعت بالعربية السعيدة .. انظر باوزير ، محمد بن هاوي : (( حضرموت في المصادر الكلاسيكية )) مجلة حضرموت الثقافية ، العدد (2) ، ص 82-84، تصدر عن مركز حضرموت للدراسات و النشر ، المكلا .
[11]– للمزيد من التفاصيل عن التأثيرات الأجنبية ، أو ( التأثير والتأثر) انظر : “كتاب اليمن في بلاد ملكة سبأ” : ألكسندر سيدوف : قنا ميناء كبير بين الهند والبحر المتوسط ،ص193-196. وإرنست ويل: الفنون في مدرسة اليونان وروما ،ص198-202. بوركهارد فوكت وكريستيان وروبان : الوحدة الثقافية لبلاد اليمن ، ص223-226.وأنظر : عزة علي عقيل وجان فرانسوا بريتون : شبوة عاصمة حضرموت القديمة ،ص75-87 ، 156-157،173-175، ومحمد جاسم المشهداني : تاريخ ظفار، عن ندوة ظفار عبر التاريخ ..، ص 72-73. واسمهانالجرو : دراسات في التاريخ الحضاري القديم ، دار الكتاب الحديث ، 2003م ، ص 74-75 .
[12]– الجرو : التاريخ الحضاري ص 85-86.
[13]– العلاقة بين حضرموت القديمة ومعين متينه , وقد اشتركت الاسرة الحاكمة في حضرموت في حكم الدولة المعينية في بداية ظهورها انظر نورة النعيم ، الوضع الاقتصادي في الجزيرة العربية في الفترة من 3ق م -3م دار الشواف العربية السعودية ص36 . ويبدو أن هذه العلاقة استمرت بينهما من خلال قيام الجاليات المعينية في شمال الجزيرة العربية بدور الوسيط التجاري بين حضرموت وبلدان البحر المتوسط.
[14]– لمعرفة المزيد عن ذلك أنظر كراسات في تاريخ حضرموت ، مرجع سابق ، ص 125-129 ، والسيد رشدي : العرب في مصر قبل الإسلام , ص 89-91 , وقارن مع النقوش ،
(RY 361,360) (MAFRY 13 ) (RES 3022,3771,3427)