ملف
أحمد صالح الرباكي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 6 .. ص 73
رابط العدد 6 : اضغط هنا
مقدمة :
خلال العصر البرونزي بدأ الاستقرار في جنوب شبه الجزيرة العربية في القرى الزراعية الأولى خلال العصر البرونزي بدلًا من النظام المعتمد على الصيد، وعلى الرغم من أنّ هذا التحوُّلَ بطيئٌ واستغرق حوالي ألف عام فإنّه خلال ذلك قد قامت حضارة بهذه الأنحاء، وشُيِّدَتْ مدن ومستوطنات على ضفاف الأودية حيث التربة الخصبة والمياه، وعلى المرتفعات الجبلية المطلَّة على القيعان الخصبة، فكانت الزراعة إلى جانب التجارة حيث أسِّسَتْ هذه المدن على طريق التجارة ومرور القوافل سببًا مُهِمًّا في إنشائها [1] ، فقد كانت الأعمال الزراعية تطلب جُهدًا جماعيًّا لاستمرارها ممّا أدّى إلى استقرارهم.
وكانت التجارة لاعبًا مُهِمًّا في قيام وازدهار المدن في جنوب شبه الجزيرة العربية، وخاصة تجارة البخور التي تنمو أشجارها في أراضي مملكة حضرموت ، وتنقل عبر الطريق البرِّي المعروف بطريق اللبان، والذي كان يمُرُّ بالمدن المقامة على الوديان الشرقية لأسبابٍ عِدَّةٍ، منها توفُّـر المياه بها وتجنب المرور بجبال المرتفعات الغربية في الهضبة الغربية؛ إذْ تشير مواقع المدن إلى أنّ خطَّ سيرِ القوافل كان مُحَدَّدًا ومضبوطًا [2] عبر طرق رئيسة وطرق فرعيّة منها البرية والبحرية، وكان لزامًا أنْ يَمُرَّ عبرَ تلك المدن حتى لو اقتضى الأمر أنْ يطولَ تفادِيًا للضرائب [3].
وإلى جانب الزراعة المرتكز الرئيس لنشوء تلك المدن[4] وكذلك التجارة هناك عواملُ عِدَّة أُخِذَتْ بعين الاعتبار عند اختيار مواقع المدن والمستوطنات، وأهمُّها العامل الجغرافي؛ حيث الموقع الجغرافي المناسب ذو الأرض الخصبة المروِيَّة بواسطة نُظُمِ رَيٍّ، والعامل العسكري بتوفُّر الأمن والأمان فتؤسّس المدن في أعلى الوادي وفي أسفله لفرض سيطرتهم الكاملة على مداخل الوادي ومخارجه، وتتوفر فيه الحماية أو يسهل الدفاع عنه سواءً من خطر الفيضانات أو من هجمات الأعداء، والعامل الاقتصادي المتمثّـل في موقعها على طرق التجارة وشبكة الطرق بينها ومحيطها الاستهلاكي لسلعها الإنتاجية [5].
والمدن التي نحن في سياق ذكرها قامتْ على مجرى وادي حضرموت الرئيس، الذي يحتل المرتبة الثالثة بين أودية الجزيرة العربية من حيث الطول بعد وادي الرمة والدواسر فيبلغ 160 كم ومساحته تبلغ 131265 كم مربع، وقد قامتْ مدنٌ في هذا الوادي كوَّنَتْ حضارةَ مملكةِ حضرموت. وقد حفلت النقوش بذكرِ عددٍ من مدن هذه المملكة، لعلّ أقدمها نقوش القرن السابع قبل الميلاد [6] ، ويذكر نقشٌ قتبانيٌّ عائدٌ إلى القرن الرابع الميلادي أنّ قتبان دَمَّرَتْ في هجومٍ لها على وادي حضرموت أكثر من 300 مدينة، وإنْ كان الرقم مُبَالغًا فيه غير أنّه يدلُّ على ازدهار المدن في وادي حضرموت، وضراوة تلك المعارك التي وقعتْ بين حضرموت وقتبان [7].
إنّ النقوش الحضرمية التي عُثِرَ عليها قليلة جدًّا، مقارنة بالنقوش السبئية، وما هو موجود لا يعطي للباحث صورة واضحة عن فترة القرون التي سبقت الإسلام، وحتى النقوش السبئية التي تتناول تاريخ حضرموت أعدادها محدودة، ومن بينها ما عثر عليها بمأرب مثل إرياني 32،31, وجام 665،656،643،116, ونقش حصن الغراب وغيرها.
نقشي (إرياني)32،31 IR[8]:
تتحدّث هذه النقوش عن الحملات العسكرية على حضرموت، في عهد الملك ذمار علي يهبر الثاني ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت.
فالنقش الأول يتحدّث عن حملة القائد لفعثت يشع المرحبي، في حوالي القرن الثالث ـ بداية القرن الرابع الميلادي، ويذكر النقش مُـدُنًا ومستوطناتٍ حضرمية، تعرّضت لهجمات هذه الحملة مثل: صوران وعقران ومريمة وشبام وتريم، وبعدها يذكر النقش جملة (وكل هجرن وسررن حضرموت) أي كلّ مدن ووادي حضرموت.
أما النقش الثاني فيتحدّث عن حملة القائد سعد تالب الجدني، كبير أعراب ملك سبأ وكبير كندة ومذحج وحرام وباهل وزيد ايل وكل أعراب سبأ وحمير وحضرموت ويمنت، في بداية القرن الرابع الميلادي، وقد كانت القوة التي تحت إمرته مكونة من ثلاثمائة محارب من سبأ، وثلاثمائة محارب من الأعراب، ويعدِّدُ النقش المدن الحضرمية التي تعرّضتْ للهجمات، بدءًا بصوران في غرب حضرموت، ثم شبام ورطغة وسيئون ومريمة وحدب وحصن أهلان، وانتهاءً بتريم ودمون ومشطة وحصن كليب في الشرق، وهكذا هاجم جميع مدن حضرموت ووديانها، وكانت حصيلة المعارك قتل ألف وثلاثمائة محارب حضرمي، وجرح سبعمائة وأسْر ثلاثة الآلاف. وسوف نقف مع هذين النقشين في ذكرهما لهذه المدن والمناطق:
أولا:النقش ارياني 31 جام 657 :
نص النقش بالمسند
لفعثت/يشع/بن/مرحبم/وزع/شعبن/سبأ/هقني/كراهمو/المقهثهون/بعلاوم/اربعتن/اصلمن/الي/ذهبن/حمدم/بذت/خمر/عبدهو/لفعثت/يشع/اتو/بمهرجتم/واخيذتم/وسبيم/وغنمم/يكن/سبا/يعم/شعبن/سبا/عدي/ارض/حضرموت/يكن/وقههو/مراهمو/ذمرعلي/يهبر/ملك/سبا/وذاريدان/وحضرموت/ويمنت/لسبا/عدي/صوارن/وعقرن/وشبوت/ورطغتم/ومريمتم/وترم/وكل/هجرن/وسررن/حضرموت/وخمرهمو/المقه/اتو/يوفيم/وحمدم/وبمهرجتم/وغنمم/وحجن/كستوكل/بعم/المقه/ولوزا/خمرهمو/نعمتم/ووفيم/وحظي/ورضو/مراهمو/ذمرعلي/يهبر/ملك/سبا/وذيريدن/وحضرموت/ويمنت/ولخمرهممو/اثمر/وافقل/صدقم/ولهعنهمو/ينباستم/ونكيتم/وعدقم/وشصي/شنام/بالمقهثهونبعلاوم
لفعثت /يشع /بن/مرحبم /وزع/ شعبن/سبأ /هقني/مرأهمو /المقه ثهون/بعل أوم /اربعتن /اصلمن /الي /ذهبن /حمدم /بذت /خمر /عبدهو /لفعثت /يشع / أتو /بمهرجتم/ وأخيذتم /وسبيم /وغنمم /يكن /سبأ /يعم /شعبن /سبأ /عدي /أرض /حضرموت /يكن /وقههو /مرأهمو /ذمرعلي /يهبر/ملك /سبأ /وذاريدان /وحضرموت /ويمنت /لسبأ /عدي/ صوأرن /وعقرن /وشبوت /ورطغتم /ومريمتم /وترم /وكل /هجرن / وسررن / حضرموت /وخمرهمو / المقه /اتو / يوفيم /وحمدم /وبمهرجتم /وغنمم /وحجن /كستوكل /بعم /المقه /ولوزا /خمرهمو /نعمتم /ووفيم /وحظي /ورضو /مراهمو /ذمرعلي /يهبر /ملك /سبأ /وذي ريدن /وحضرموت /ويمنت /ولخمرهممو /أثمر /وافقل /صدقم /ولهعنهمو /ين بأستم /ونكيتم /وعدقم /وشصي /شنأم /بالمقه ثهون بعل اوم
محتوى النقش:
هذا هو (لفعثت يشيع المرحبي) من بني مرحب، وهو حاكم قبائل (سبأ) وهو يتقرب إلى سيده (المقه، ثهوان، بعل اوام) بأربعة أصنام من البرونز الذهبي حمدًا له لمنه على عبده (لفعثت يشيع) بما عاد به من نصر وقتل للعدو مع الفيء والسبي والغنائم، وذلك حينما قاد قبائل (سبأ) في حملة ضد (حضرموت) كان سيده الملك (ذمار علي يهبر ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت) قد أمره بشنِّها لمهاجمة (صوأران) و (عقران) و (شبوة) و (رطغة) و (مريمة) و (تريم) وكل مدن والسرير ووديان حضرموت، ولقد من عليه (المقه) بالنصر والعودة بسلام وحمد ومقتلة للعدو وغنائم جاءت مطابقة لما كان أمله من (المقه) ويدعو (المقه) أن يستمر في منحه النعمة والسلامة والحظوة والرضا عند سيده الملك (ذمار علي يهبر ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت) وليجودن عليه بالثمار والغلال الوفيرة، وليجنبنه من كل باساء ونكاية، ومن شرور كل عدو حاقد متوسِّلًا بحق (المقه ثهوان بعل أوام).[9]
يتحدّث هذا النقش الذي نشره مطهر الإرياني عن الحملة العسكرية التي قام بها لفعثت يشع المرحبي في حوالي نهاية القرن الثالث ـ بداية القرن الرابع الميلادي ضد حضرموت بأمر من ملكه ذمار علي يهبر ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت ويذكر النقش المدن والمستوطنات الحضرمية التي تمّت مهاجمتها مثل صوران وعقران وشبوة ورطغة ومريمة وتريم [10].
أرض حضرموت المذكورة بالنقش 31 والواردة في كثير من النقوش المقصود بها أرض مملكة حضرموت القديمة وأرض حضرموت القبيلة كما هو الحال في لفظة أرض سبأ وأرض حميرم [11] فقد لعبت الجغرافيا دورًا مهمًّا في صنع أحداث تاريخ مملكة حضرموت على امتدادها الزمني و الجغرافي، ولمعرفة هذا الدور كان لزامًا تتبُّع الأماكن التي عاصرت تلك الأحداث، فبعضها بقي بقاء الأرض نفسها والبعض اختفى اسمُهُ عن التداول في عصرنا وحفظته مؤلفات الأوائل كالهمداني، ثم أكّدته النقوش، على سبيل المثال موقع صوران، وهي مدينة قديمة ذكرتها النقوش المكتشفة حديثًا، قال عنها في الصفة إنها (في أنحاء الكسر) اختفت ولم يبق منها إلّا اسمٌ يُسمَّى به مسيال ماء من فروع وادي دوعن، ومن المعلوم أنّ نقوش المسند السبأية والحميرية ذكرت الكثير من المواقع الحضرمية وإنْ كان في سياق عسكري[12].
والمواقع التي نحن بصَدَدِ ذكرها ووردتْ في النقشين المشارِ إليهما جميعها تقع في وادي حضرموت، الذي تقع بدايته في أطراف رملة السبعتين، وإنْ كان يمتد طبيعيًّا ومورفولوجيا إلى منخفض الجوف، ويبلغ أقصى اتساعه في منطقة الكسر بحوالي خمسة عشر كيلومترًا، ويضيق تدريجيًّا حتى يبلغ عرضه حوالي كيلو مترين في ما وراء تريم حتى مصبِّه في بحر العرب بالقرب من سيحوت [13].
وهذا الامتداد الطولي من الغرب إلى الشرق أدّى إلى أنْ يتغير اسمُه عند ساكنيه من موضع إلى آخر هي (الكسر ثم السرير فالمسيلة)، التي تطلق على القسم الأخير منه، والذي يبدأ بعد تريم حيث يبدا ظهور مياه الوادي على السطح ويبدأ الوادي في الانعطاف تدريجيا نحو الجنوب الشرقي[14]
وقد أشرْنا سابقًا إلى العوامل التي أدّت إلى قيام المدن والمستوطنات في وادي حضرموت، فانتشرت المدن والقرى والحصون على ضفاف الوادي الرئيس وفروعه، بعضها ما يزال عامرًا يحمل الاسم القديم الوارد في النقوش، والبعض وإنْ تغير اسمه فهو يقع على مقربة من موقع قديم كما تدلُّ الخرائب المجاورة خاصة في قسمي الكسر والسرير حيث دارت فيهما معظم الأحداث التي تحدثت عنها النقوش [15].
المدن والأماكن:
صوران (صوأرن): من أهم مدن الكسر، أحد أجزاء وادي حضرموت في الجنوب الغربي من منطقة هينن الحالية، بينها وبين منطقة العجلانية في المكان المقام فيه قرية العادية المسمّاة اليوم بعادية بن عيفان، والواقعة إلى الجنوب الغربي من مدينة هينن بحوالي ثلاثة كيلومترات، تقع مستوطنة صوران القديمة المشار إليها في النقش أول المدن الحضرمية التي هاجمها الجيش السبئي، وقد زارها ثلاث مرات فون ويسمن في الأعوام (31 – 39 – 1958م)؛ ليتمكن من تحديد موقعها على خريطة رسمها للمنطقة ولا يختلف تحديده عن تحديد بيستون وبافقيه لموقع صوران[16].
وأمّا ياقوت الحموي فقد خلط بينها وبين (ضروان) على بعد نحو أربعين كيلًا شمالًا، وهي المنطقة التي أشار إليها القرآن الكريم، وظهرت بها النار التي أحرقت زرع أصحاب الجنة، فقال “صوران قرية للحضارمة باليمن، بينها وبين صنعاء اثنا عشر ميلًا، خرجتْ منها النار فثارتْ بالحجارة وعروق الشجر حتى حرقت الجنة التي ذكرت في القرآن الكريم (إنّا بلوْناهم كما بلوْنا أصحابَ الجنة)” [17].
ويؤيد احتمال موضع المستوطنة بهذا المكان عدة دلائل: [18]
ويرى بطرس غزيازنفتش أنّ موقع صوران هو ما يعرف الآن بمستوطنة بير حمد المقابلة لواديي رخية ودهر على خط عرض 47.50 درجة وخط طول 15.44 درجة، وذلك نتيجة لقيامه بالاستكشافات التاريخية الجغرافية للمنطقة في أثناء عمل البعثة اليمنية الروسية المشتركة في عام 1985م، ولكن الأبحاث الأخيرة لآثار مستوطنة “بير أحمد” ونقوشها لم تؤكد هذا الرأي [19].
وقد حفلت نقوش المسند بذكر صوران في كثير منها من أهمها (CH334/18,Ir31,Ir32,MAFRAY=al-mi’sal4,CIAS 39.11/03no.4=YM349)، فهي تحتل موقعًا جغرافيًا استراتيجيًا مهمًّا يجعلها تتحكّم في الطرق التجارية التي تتّجه من مناطق وادي حضرموت إلى العاصمة شبوة، وإلى قنا ميناء مملكة حضرموت عبر وادي دوعن. أمّا سياسيًا فقد شهدت المدينة أحداثًا تأتي في طليعتها ثورة أحرار يهبئر عام 217م تقريبًا، فقد وقفتْ قبيلة يهبئر وذوهجرم وقبائل جدمم والصدف وكل قبائل الكسر وبعض قبائل وابوت حضرموت ومناصروهم من قبيلة مهرة ووصفوا إجمالًا بحضرموت ضد الملك العزيلط الذي تمكن على ما يبدو من إخماد ثورتهم بعد معارك خاضها ضدهم بدعم من حليفه شعر اوتر ومعه ناصر يهحمد بن معاهر قيل ردمان وخولان رغم وصول الثوار إلى العاصمة شبوة ابتداء من مدينتهم صوران [20] ، ويهبئر قبيلة حضرمية قديمة ذكرت في نقوش قبل الميلاد [21]
ومن صوران اتجه الجيش الحميري نحو عقران:
عقران (ع ق ر ن) : قال ناشر النقش “لا أعرف عنها شيئًا والعقر اسم لعدة أماكن في غير هذا الموقع” [22]، بينما في الواقع تقع مستوطنة عقران المذكورة في النقش فهي تقع في نفس موضع القرية المسماة اليوم بعقران والواقعة قرب بلدة حذية في مديرية القطن على بعد 7 كم جنوب شرق مدينة شبام، وعثر خارجها على بقايا مبنى يمثل معبدًا يقع شرق المستوطنة، وقد شُيِّد على مصطبة حجرية مستطيلة أبعادها 12x 25م، ولم يتبقَّ منه سوى أسسه الحجرية، وعثر فيه على النقش RES 3512 ، وهو عبارة عن مذبح ويسجل إهداء للإله سين ذي اليم وبالتالي فإن المعبد كرس للإله سين ذي اليم [23] وتوجد بالقرب منه أطلال معبد قديم تعرّض للخراب الشديد كما يبدو أنّ الحصن القائم اليوم في القرية قد بُنِيَ على أكمة أثرية وقد استخدمت بعض حجارة المباني القديمة في بناء منازل القرية الحالية [24].
شبوة (شبوت): }شبام{: ويثير الاستغراب ذكر مدينة شبوة بعد عقران حيث إنّه من المنطقي أن يكون سير الحملة إلى شبام الواقعة بعد عقران إلى جهة الشرق ومن ثم سيرها إلى المدن الأخرى المذكورة في النقش والواقعة إلى جهة الشرق من مدينة شبام، لذلك قد يكون هناك خطأ في أصل النقش أو عند نقله حيث من المفترض أن يحل اسم شبام محلّ اسم شبوة [25].
فشبام مدينة حضرمية قديمة تعرّضت لحملات عسكرية مرارًا، قامت بها جيوش سبأ وحمير ذكرتها نقوش أخرى، مثل نقش الشظيف من عهد شعر اوتر ونقش شرف الدين 32 من عهد شمر يهرعش [26].
رطغة: (رطغتم): بالطاء في نقوش المسند، وعند الهمداني بالتاء [27] رطغة من المدن المذكورة في المؤلفات العربية الإسلامية التراثية (رطغة – رتغة)، وتقع في منطقة السرير بوادي حضرموت الرئيس وذلك في الجزء الممتدّ من مدينة شبام حتى تريم، فهي مذكورة في نقش شرف الدين، إضافة إلى نقش ارياني 31 و32 ، ولا يعرف مكانها حاليًّا، ونظنّ أنّ مستوطنة رطغتم هي نفسها “رتغة” المذكورة في مؤلفات العصور الوسيطة، ويجب تحديد مكانها في تلك المنطقة التي تقع فيها ـ كما هو مذكور عند الهمداني ـ إضافة إلى رتغة كل من: حبوضة ومدودة وتريس، وهذا يعني أنها في الجزء الأوسط من وادي حضرموت الرئيس، فيما بين مدينتي سيئون وشبام، وقد افترض ف. ميللر أنّ اسم “رطغتم” كانت تتسمى به قرية قديمة تقع في مكان مدينة الغرفة الحالية [28].
إنّ “رطغتم” مذكورة في كل النقوش الثلاثة (ارياني 31،32،شرف الدين 32)، وهذا يعني أنها احْتُـلَّـتْ لثلاث مرّات في فترة الحملة التي قام بها يعمر أشوع وأخوه زيد قوم اريم زعيما “شعب سبأ”، وذلك في عهد الملك شمر يهرعش (شرف الدين 32)، وفي فترة الحملات العسكرية التي قام بها لفعثت يشع (ارياني 31) وسعد تالب يتلف في عهد الملك ذمر علي يهبر الثاني (ارياني 32) [29].
مريمة (مريمتم): وهي كذلك مثل رطغة المدن المذكورة في المؤلفات العربية الإسلامية التراثية، وتقعان في منطقة السرير بوادي حضرموت الرئيس، وذلك في الجزء الممتدّ من مدينة شبام حتى تريم، ومازالت تحمل ذات الاسم، وتقع في شرق مدينة سيئون.
وفي مملكة قتبان تحمل إحدى مدنها أيضًا اسم مريمة في وادي حريب يطلق عليها حاليًّا موقع هجر العادي، ويطلق على ساكني هذه المدينة بالاريوم (اريمن) رغم أنّ نقش قتباني آخر يأتي على ذكر الاريوم كمقيمين في مدينة شبام، التي نجهل تحديدها نظرًا لتعرُّض الأحرف التالية لاسم مدينة شبام للطمس [30].
ويذهب الباحثون إلى أن اسم مريمة من مادة (ر ي م) المسندية، الدالّة على العلو والارتفاع؛ لكون المنطقة ترتفع نوعًا ما عن مجرى الوادي، الواقع شمالًا، ومازال في حضرموت يطلق على سطح المنزل بلفظة (ريم) [31].
تريم (ترم): مازالت مدينة عامرة لم تخرب وتهجر منذ أنشئت، حاملة الاسم نفسه، شهدت أحداثًا تاريخيّة عظيمة، فقد كانت عاصمة سياسية لوادي حضرموت، وذهب البعض إلى اشتقاق اسم تريم، وجعل تسمية تريــم وكذا مريمة بهذا الاسم، نسبة إلى اللفظ اليمني القديم (ريم) ([32]) , والذي ما زال مستخدمًا في اللهجة الشعبية المحلية حتى الآن بمعنى سطح المنزل ([33]).
أما في المعاجم والمؤلفات العربية فقد أتت على النحو التالي: تريم بفتح التاء المثناة من فوق وكسر الراء ثم ياء مثناة من تحت، وقال عنها لسان اليمن الهمداني: “و تريم مدينة عظيمة” ([34])، وقال أيضًا: “و تريم و تريس بحضرموت”، وهي غير تريم من ديار تميم من مساكن العرب بين العراق والشام وهي بكسر التاء وسكون الراء- تِرْيم ـ من بلاد عذرة قديمًا بشمال ظبا بقرب جبل شار ([35]) وردت في شعر كثيِّر وغيره منه قوله:
إليك تبارى بعدما قلت قد بدت جبال الشِّبا أو نكَّبت هضب تِرْيم ([36])
والتي بحضرموت بفتح التاء المثناة وكسر الراء كما سبق.
ويذهب نشوان بن سعيد الحميري إلى أن “تريم” على وزن فعيل، التاء زائدة، وبناؤها تفعل، من رام يريم ([37]). وسمّيت باسم تريم بن السكون بن الأشرس بن كندة، بطن من كندة القحطانية.
وأمّا عن نسبتها فلا يوجد لدينا دليل تاريخي يشير إلى البدايات الأولى لهذه المدينة العريقة، وأقصد بذلك زمن التأسيس والإنشاء.
هناك جملة من الآراء التي تناولت سبب تسمية تريم بهذا الاسم ومن ذلك ما يأتي:
1) الرأي الأول: يذهب إلى القول إن تريم سمّيت باسم بانيها “تريم بن حضرموت بن سبأ الأصغر” أول ملوك الطبقة الثانية للدولة السبائية، الذين يبتدئ ملكهم من (أواخر القرن الثاني قبل الميلاد، إلى أوائل القرن الثاني بعد الميلاد)([38])، وكذلك شقيقتها الأخرى مدينة شبام، أو كما جاء عند ياقوت: “تريم اسم إحدى مدينتي حضرموت اسم للناحية بجملتها، ومدينتاها تريم وشبام، وهما قبيلتان سميت باسمهما البلدتان” ([39]). وقال آخر: “تريم كأمير مدينة بحضرموت سمّيت باسم بانيها تريم بن حضرموت”([40]), وذهب إلى هذا الرأي أغلب المؤرخين العرب والإخباريين.
ويذهب الأستاذ “حداد بلفقيه” إلى أن تاريخ نشوء المدينة يعود إلى ما قبل الميلاد بأربعة قرون, عند بدء ظهور دولة الحميريين، مستندًا على ما أكدته النقوش، التي وجدت في شمال المدينة في مكان يسمى “شعاب الهادي” على يد السائحة الأجنبية فرايا إستارك ([41]).
2) الرأي الثاني: يذهب إلى القول بأن مدينة تريم تنسب إلى الملك التبع “اسعد الكامل”، وأنه هو الذي اختطتها، ويجعل أصحاب هذا الرأي أنه يتفق مع ما ذكره العلامة علي بن عبدالرحمن المشهور في كتاب (شرح الصدور) من أن حصن الرناد أسس قبل البعثة بأربعمائة سنة ([42]).
ويرى الباحث[43] أن الرأي الأخير مجانب للصواب، فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون مدينة تريم من المدن المنسوبة للتبع أسعد الكامل؛ لأن ذلك يخالف ما جاء في النقوش التي سبقت عهد التبع أسعد الكامل، ولكننا يمكن أن نعدل هذا الرأي أو القول ونقول: بأن تريم من المدن التي ربما أعاد أعمارها التبع أسعد الكامل، بعد خراب أصابها، فنسبت إليه. حيث يعتبر التبع الكامل من أعظم التبابعة الحميريين, فهو كما جاء في النقوش “أبي كرب اسعد بن ملكي كرب يهامن” ، وهو عند الإخباريين وفي المأثورات العربية يسمى “أسعد الكامل” , وقد جلس على عرش حمير في أواخر القرن الرابع ـ أوائل القرن الخامس الميلادي, و تحديدًا في الفترة الواقعة بين عامي (380م-440م) ([44]) , وهذا الملك يعتبر من أعظم ملوك اليمن التبابعة, فقد اتخذ اللقب الملكي الأطول في تاريخ اليمن القديم و هو (ملك سبأ وذي ريدان و حضرموت و يمنات وأعرابهم طودًا و تهامة )، واكتملت الوحدة اليمنية على يديه, و يعتبر عصره من أبرز عصور التاريخ اليمني قبل الإسلام ([45]) , فكما نسب الناس إلى “عاد” كل قديم فقالوا “عادي”, كذلك نسب اليمنيون كثيرًا من المنشآت القديمة, وآثار السدود, ووسائل الري إلى أسعد الكامل, فيقولون حجر أسعد, وكريف أسعد, وقصر أسعد, بل إن كل ما تقادم العهد عليه من أثر فهو أسعديّ ([46]).
ثم تأتي في سياق النقش:
وجملة وكل /هجرن /وسررن / حضرموت: ذهب الارياني إلى أن هذه العبارة جاءت خاطئة في نسخ النقش، وأنّ الصحيح هو (وكل/ هجرن/ سررن/ وحضرموت)؛ ليكون معناها هو (وكل مدن السرير وحضرموت) وجاء في النقش الذي يليه (ارياني 32) (ونجثو كل /هجر/حضرموت/وسررن)، وشرحها هو (واستولوا على كل مدن حضرموت والسرير)، فليس بين عبارتي النقشين من خلاف إلّا فرق التقديم والتأخير، والسرير هو أحد أقاليم حضرموت المهمّة جاء ذكره في نقوش أخرى منها (جام 656-668)، وذكره الهمداني في الإكليل فقط وغاب عن الصفة [47].
ثانيًا: النقش ارياني 32 جام 657
نص النقش بالمسند
سعدتالب/يتلف/بن/جدنم/كبر/اعرب/ملك/سبا/وكدت/ومذحجم/وحرمم/ وبهلم/وزدال/وكل/اعرب/ سبا/وحميرم/ وحضرموت/ ويمنت/
هقني//مراهمو/المقه/ بعل/ اوم/ صلمم/ذذهبم/حمدم/بذت/ كاسي/ عبدهو/ سعدتالب/ ذجدنم/ وتمهريتو/ عبرن/ قرنم/ بنشقم/ بن/ حضرموت/
ومظات/ عبرهو/عظتم/ وطيبتم/ عظن/ مراهو/ ذمرعلي/ يهبر/ ملك/ سبا/ وذريدن/ وحضرموت/ويمنت/كليسبانن/ ويظبا/ سعدتالب/ ذجدنم/ وليقتدمن/ شعبن/ سبا/ ابعل/ مرب/ واعرب/ ملك/ سبا/ وكدت/ ونجرن/ وسفلن/
ونفصو/ عدى/ محرمن/ ذيغرو/ وقيوو/ كل/ اجيشهمو/ سبعت/ يمتم/ وال/ نقصو/ غير/ كبن/ سبا/ ثلث/ ماتم/ اسدم وبن / اعربن/ ثلث/ ماتم/ اسدم/ وعشري/ اسدم/ اتلوت/ ركبت/ افرسم/ ذاسيو/ سنهمو/ قرنم/ بهجرن/ نشقم/
وتجعر/ بعهمو/ خمسي/ افرسم/ ويسباو/ وستغرن/ هجرن/ صوارن/ ويتقدمو/ بعهمو/ ابعل/ صوارن/ بخلف/ هجرن/ صوار/ ويسبطو/ ذجدنم/ وجيشهو/ بنهمو/ مهرجتم/ واخيذتم/ وسبيم/ وغنهم/ ذعسم/
وبعدنهو/ فسبعو/ لهمو/ ومطو/ عمهمو/ اسد/ صوارن/ بعلي/ ابعل/ بعلي/ شبم/ وصدفن/ وتقدمو/ وهترجن/ بعم/ صدفن/ وابعل/ شبم/ بخلف/ شبم/ ويهرجو/ بنهمو/ سبعي/ اسدم/ وعدوو/ بسحتم/ هجرهمو/ وصنعهو/ وتنحبو/ عمهو/ ثلثت/ عشر/ يمتم/ عدي/سبعو/
وبعدنهو/ فستغرو/ وظورن/ رطغتم/ وسيؤن/ومريمتم/ وحدب/ وهسبعهو/ وهغرو/ عدى/ عراهلن/ وترم/ وتقدمو/ بعم/ ابعل/ ترم/ وملالاا/ هرجو/ بن/ ابعل/ ترم/ وعدوو/ هجرهمو/ سحتم/ وحويهمو/ وظورن/ ثني/ عشر/ يمتم/ وجبذو/ الفن/ اعمدم/ وجباو/ وصريهو/ وتعربن/ وسبع/ لهمو/
وبنهو/ فهغرو/ عدي/دمن/ ومشطت/ وعركليبم/ وسبع/ لهمو/ ونجشو/ كل/ هجر/ حضرموت/ وسررن/ وبنهو/ فيايتو/ وقفلوا/ باحللم/ واخيذتم/ وسبيم/ وغنمم/ ذعسم/ وهرجو/ ثلث / ماتم/ والف/ بضعم/ وسبع/ ماتم/ زخينتم/ وثلثت/ الفم/ سبيم/
واتوو/ وقفلو/ عدي/ هجرن/ ظفر/ عبر/ مراهمو/ ملكن/ واولو/ عمهمو/ انمرم/ ذهملكو/ حضرموت/ وربعت/ بن/ والم/ وافصي/ بن/ جمن/ وجشم/ بن/ شرال/ وبهثم/ بن/ زكيم/ وثوبن/ بن/ جذمت/ اصدفن/
ويطع…. سيبنين وقضعم سيبنين ..ات…قتر..لاتي بعمهمو بن..
سعد تألب / يتلف / بن/ جدنم/ كبر/أعرب/ ملك/ سبأ/ وكدت/ ومذحجم/ وحرمم/ وبهلم/ وزدال/ وكل/ أعرب/ سبأ/ وحميرم/ وحضرموت/ ويمنت/
هقنى/ مرأهمو/ المقه/ بعل/ أوم/ صلمم/ ذذهبم/ حمدم/ بذت/ كأسى/ عبدهو/ سعد تألب/ ذجدنم/ وتمهريتو/ عبرن/ قرنم/ بنشقم/ بن/ حضرموت/
ومظأت/ عبرهو/ عظتم/ وطيبتم/ عظن/ مرأهو/ ذمر علي/ يهبر/ ملك/ سبأ/ وذريدن/ وحضرموت/ ويمنت/ كليسبأنن/ ويظبأ/ سعد تألب/ ذجدنم/ وليقتدمن/ شعبن/ سبأ/ أبعل/ مرب/ وأعرب/ ملك/ سبأ/ وكدت/ ونجرن/ وسفلن/
ونفصو/ عدى/ محرمن/ ذيغرو/ وقيوو/ كل/ أجيشهمو/ سبعت/ يمتم/وأل/ نقصو/ غير/ كبن/ سبأ/ ثلث/ مأتم/ أسدم/ وبن/ أعربن/ ثلث/ مأتم/ أسدم/ وعشرى/ أسدم/ أتلوت/ ركبت/ أفرسم/ ذأسيو/ سنهمو/ قرنم/ بهجرن/ نشقم/
وتجعر/ بعهمو/ خمسي/ أفرسم/ ويسبأو/ وستغرن/ هجرن/ صوأرن/ ويتقدمو/ بعهمو/ أبعل/ صوأرن/ بخلف/ هجرن/ صوأر/ ويسبطو/ ذجدنم/ وجيشهو/ بنهمو/ مهرجتم/ وأخيذتم/ وسبيم/ وغنهم/ ذعسم/
وبعدنهو / فسبعو/ لهمو/ ومطو/ عمهمو/ أسد/ صوأرن/ بعلى/ أبعل/ بعلى/ شبم/ وصدفن/ وتقدمو/ وهترجن/ بعم/ صدفن/ وأبعل/ شبم/ بخلف/ شبم/ ويهرجو/ بنهمو/ سبعى/ أسدم/ وعدوو/ بسحتم/ هجرهمو/ وصنعهو/ وتنحبو/ عمهو/ ثلثت/ عشر/ يمتم/ عدى/ سبعو/
وبعدنهو/ فستغرو/ وظورن/ رطغتم/ وسيؤن/ ومريمتم/ وحدب/ وهسبعهو/ وهغرو/ عدى/ عرأهلن/ وترم/ وتقدمو/ بعم/ أبعل/ ترم/ وملأ/ هرجو/ بن / أبعل/ ترم/ وعدوو/ هجرهمو/ سحتم/ وحويهمو/ وظورن/ثنى/ عشر/ يمتم/ وجبذو/ ألفن/ أعمدم/ وجبأو/ وصريهو/ وتعربن/ وسبع/ لهمو/
وبنهو/ فهغرو/ عدى/ دمن/ ومشطت/ وعركليبم/ وسبع/ لهمو/ ونجشو/ كل/ هجر/ حضرموت/ وسررن/ وبنهو/ فيأيتو/ وقفلوا/ بأحللم/ وأخيذتم/ وسبيم/ وغنمم/ ذعسم/ وهرجو/ ثلث/ مأتم/ وألف/ بضعم/ وسبع/ مأتم/ زخينتم/ وثلثت/ ألفم/ سبيم/
وأتوو/ وقفلو/ عدى/ هجرن/ ظفر/ عبر/ مرأهمو/ ملكن/ وأولو/ عمهمو/ أنمرم/ ذهملكو/ حضرموت/ وربعت/ بن/ وألم/ وأفصى/ بن /جمن/ وجشم/ بن/ شرإل / وبهثم/ بن/ زكيم/ وثوبن/ بن/ جذمت/ أصدفن/
ويطع ….. سيبنين وقضعم سيبنين وأربع .. أت … قتر .. لاتى بعمهمو بن
محتوى النقش:
القائد (سعد تألب يتلف الجدني) كبير أعراب ملك سبأ وكبير (كندة) و(مذحج) و (حرام) و (باهل) و (زيدايل) وكل أعراب سبأ وحمير وحضرموت ويمنت، تقرب إلى سيّده (المقه بعل أوام) بصنم من البرونز الذهبي حمدًا له لأنّه أوصل عبده (سعد تألب ذي جدن) ومن معه إلى عبران ليرابطوا بمدينة (نشق) عائدين من حضرموت ـ بعد غزوة سابقة لها ولقد وصلته ـ وهو مرابط ـ الأوامر من سيده الملك (ذمار علي يهبر ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت) بأن يتولى (سعد تألب ذو جدن) قيادة قبيلة (سبأ أهل مأرب) وأعراب ملك سبأ و (كندة) و(نجران) و (سفلان) فانطلقوا ـ هو ومن معه ـ إلى منطقة (المحرم)، وجمعوا جيشهم في سبعة أيام فكان من (سبأ) ثلاث مئة محارب ومن الأعراب ثلاث مئة راكب رجال وفرسان، وهم الذين كانوا مرابطين معه في مدينة (نشق)، وانضمّ إليهم خمسون فارسًا، فانطلق بهذه القوة فهاجم أوّل ما هاجم مدينة (صوأران)، وقد نازل أهل (صوأران) في ضواحيها فألحق (ذو جدن) وجيشه بهم مقتلة، وأحرزوا فيئًا وسَبْيًا وغنمًا مُرْضِيًا، فخضعوا له وساروا معه لمهاجمة أسياد (شبام)، فقتلوا منهم سبعين محاربًا، واكتسحوهم إلى المدينة فتحصّنوا فيها، وقاتلهم ثلاثة عشر يومًا حتى استسلموا وخضعوا له، وبعد ذلك أغاروا وحاصروا كلًّا من (رطغة) و (سيئون) و (مريمة) و (حدب) فاستسلموا وخضعوا له، فأغار على (عر أهلان- حصن الاهل) و (تريم) فاكتسحوا مدينتهم بعد حصار دام اثني عشر يومًا ، واستولوا على ألف عريشة من عرائش العنب، وبعد أن خضع لهم كل هولاء أغاروا على (دمون) و (مشطة) و (عركليب ـ حصن كليب) فاستسلموا لهم، وهكذا هاجموا جميع مدن حضرموت ووديانها، وبعد ذلك عادوا قافلين بالمغانم من الأنعام والأموال وبالأسرى الكثيرين، ولقد قتلوا ألفًا وثلاثمائة تقطيعًا بحدِّ السيوف، وجرحوا سبعمائة مقاتل، وأسروا ثلاثة آلاف أسير، وآبوا عائدين إلى مدينة (ظفار) نحو سيدهم الملك، وأحضروا معهم المدعُـوَّ (انمار)، الذي نصبه أهل حضرموت ملكًا، كما أحضروا كلًّا من (ربيعة بن وائل) و (افصى بن جمان) و (جشم بن مالك) و(ثوبان بن جذيمة الصدفي) و (يدعـ … سيبنين) و(قضاع سيبين) واربعـ…ات … لاتى …. بعمهوبن ….
النقش IR32 يتحدّث هذا النقش الذي نشره أيضًا مطهر الارياني عن الحملة التي قام بها سعد تألب يتلف الجدني كبير أعراب ملك سبأ وكبير كندة ومذحج وحرام وباهل وزيد ايل وكل أعراب سبأ وحمير وحضرموت ويمنت لغزو حضرموت بأمر من ملكه ذمار علي يهبر ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت (بداية القرن الرابع الميلادي).
وقد كانت القوة المقاتلة التي تحت إمرته مكوّنة من ثلاثمائة محارب من سبأ، وثلاثمائة وعشرين محاربًا من الأعراب راكبي الرحال والفرسان. وانضمّ إليهم خمسون فارسًا، وقد هاجم بهم مدينة صوران، وأخضعها وسار معه مقاتلوها لمهاجمة شبام والصدف.
وقاتل المدافعين عن مدينة شبام في ضواحيها فقتل منهم سبعين محاربًا، وتحصّن الباقون بها، فأخذ في مناوشتهم لمدة ثلاثة عشر يومًا، حتى استسلموا له وخضعوا.
وبعد ذلك أغار على مدن: رطغة وسيئون ومريمة وحدب وحاصرها فاستسلمت له هذه المدن وخضعت. وأغار على حصن أهلان وعلى تريم، واكتسح مدينة تريم بعد حصار دام اثني عشر يومًا، قام محاربوه أثناءه بقطع ألفي عريشة من عرائش العنب.
وبعد ذلك أغار على دمون (الواقعة بالقرب من تريم) ومشطة (الواقعة الى الشرق من تريم) وحصن كليب فاستسلمت له هذه المدن.
وهكذا هاجم جميع مدن حضرموت ووديانها وعاد محمَّلًا بالمغانم من الأنعام والأموال والأسرى. ولقد كانت حصيلة هذه المعارك قتل ألف وثلاثمائة محارب حضرمي وجرح سبعمائة وأسر ثلاثة آلاف
وعند عودته إلى مدينة ظفار نحو سيده الملك أحضر معه المدعو “أنمار”، الذي نصبه أهل حضرموت ملكًا، كما أحضر معه كل من “ربيعة بن وائل” و “أفصي بن جمان” و “جشم بن مالك” و “عدي بن نمر” و “قيس بن بشر أل” و “بهثم بن سكي” و “ثوبان بن جذيمة الصدفي” والصدف قبيلة حضرمية ورد ذكرها في نقوش سبئية وحميرية من القرن الثاني قبل الميلاد والقرنين الثالث والرابع الميلادي [48] ، وكذلك “يدع إل ـ أو يدع اب – … السيباني” و”قضاع السيباني” ، وسيبان أيضًا قبيلة حضرمية ورد ذكرها في نقش كرب ايل وتر نقش النصر وكانت حينها تقطن مدن أثخ وميفع ورثخم وتقع أراضيها حاليا على بعد 80 كم شمال ميفع في المرتفعات الواقعة بين المكلا ودوعن [49].
ومن المؤكَّد أنّ الحميريين قد احتلوا لمرّتين في الأقل كلًّا من عقران وشبام وصوران ومريمة وتريم [50].
المدن والأماكن:
صوأران(صوارن): سبق ذكرها في النقش السابق
شبام(شبم): سبق ذكرها في النقش السابق وجاء لفظها هنا بلفظ شبام مما يؤكد خطأ كتابة لفظ شبوة محلها في النقش السابق.
رطغة (رطغتم): سبق ذكرها في النقش السابق
سيئون (سيؤن): مدينة مشهورة تتوسط وادي حضرموت، وهي عاصمته السياسية حاليًا، ومازالت تحمل ذات الاسم الذي ذكر في النقش.
مريمة (مريمتم): سبق ذكرها في النقش السابق.
حدب (حدب): حاول كل من فون فيسمان وف. ميللر مطابقة مستوطنة “حدب” بالخرائب الواقعة بالقرب من قرية سونة في وادي عدم، والتي تحمل اسم “حدبة الغصن”، واقترح محمد عبدالقادر بافقيه البحث عن خرائب “عر اهلن” و “عر كليبم” في التلال المعزولة الواقعة إلى الشرق من مدينة تريم [51].
وبقي تحديد مكان هذه المدينة مجهولًا حتى سنوات خلتْ وتحديدًا في عام 2010م؛ حيث تمّ عمل حفريات في موقع عادية الغرف جنوب مدينة تريم، وهو الموسم الخامس للعمل بهذا الموقع منذ بدء العمل في 1981م، فتم خلال الموسم المشار التعمّق في دراسة الاسم التاريخي لموقع عادية الغرف؛ حيث تمّ العثور على نقش في بقايا مباني في جنوب غرب الموقع ب 350 م، وهو عبارة عن نقش نذري على كسرة من لوحة برونزية، مكوَّن من أربعة أسطر وجزء من سطر، يعلوها شكل رأس أسد، ويذكر النص أنّ شخصًا وابنًا له قدَّما تقدمة لربِّ السماء سين ذي كهرخن بحدب نذرا….[52] وموقع حدب بالفعل مثلما جاءت في النقش هذا بعد مريمة وقبل تريم.
عر أهلان (عراهلن): قال ناشر النقش معلِّقًا: يوجد في حضرموت أكثر من مكان اسمه العر ولكن أهلان لم أعرف عنه شيئا، وكذلك عر كليب ـ الآتي ذكره ـ ولكن الهمداني ذكر آل كليب في نسب حضرموت [53].
إذا أعدْنا النظر إلى النقش فسنجد لفظ عر أهلان أي (حصن اهلان)، وهذا الموقع لا يعرف مكانه حتى الآن, وبإلقاء نظرة على أسماء المدن المذكورة في النقش فسنجدها مرتبة جغرافيًا من الغرب إلى الشرق, فبعد سيئون تأتي مريمة, وهي معروفة، ثمّ تأتي حدب وهي معروفة مؤخّرًا، ثم يأتي عر أهلان وهو لا يعرف موضعه, ثم تأتي مدينة تريم وهي أشهر من نار على علم, وعلى هذا فموضع حدب وعر أهلان بين مدينتي سيئون وتريم, ويمكننا أن نحدِّد موضع عر أهلان, فإلى الجنوب من مدينة تريم تقع منطقة باجلحبان, وهي واقعة تحت سفح جبل يسمى (جبل كحلان), والواقع به حصن مطهر, حيث تلتقي عنده مياه واديي عدم وسر, والذي يرى الباحث أن الاسم حُرِّفَ وصُحِّفَ من أهلان إلى كحلان وبهذا يمكن أن يكون في هذا الجبل موضع عر أهلان. بينما يرى الدكتور بافقيه بأن عر أهلان ربما هو حصن الرناد بتريم, ولكنه لم يدلّل على هذا [54]. ويرى الباحث بأنّ حصن أهلان يقع في المنطقة المذكورة وحيث أنه (عر) أي حصن أو قلعة في جبل وليس مدينة أو قرية كالمدن التي ذكرت في النقش.
تريم(ترم):سبق ذكرها في النقش السابق
دمون (دمن): ذهب ناشر النقش إلى أنها دمون الهجرين؛ حيث أورد ذكرها في شعر امرئ القيس، وأنها من مدن الصدف [55] ، والصحيح أنّ دمّون المذكورة هي دمون تريم وهي تقع إلى الشمال الشرقي من مدينة تريم، وكانت ضاحية لها والآن بتواصل العمران أصبحت واحدة.
مشطة (مشطت): آخر المدن التي ذكرها النقش، وقد ذكرها الهمداني فقال: “ثم مشطة قرية مقتصدة ” [56]، وهي مازالت تحمل هذا الاسم تقع إلى الشرق من مدينة تريم تبعد عنها حوالي 8 كلم وقد عثر أثناء عملية بناء أساسات منارة مسجد القرية الجديدة أجزاء من نقوش إلى جانب آثار لقنوات ري ممّا يرجّح أنّ المسجد القديم قد بني فوق أنقاض معبد [57].
عر كليبم (حصن كليب): أما عر كليب فهو يأتي في ترتيب المناطق في النقش بعد مشطة، الواقعة إلى الشرق من تريم، وموضعه غير معروف، ويرى الدكتور محمد عبد القادر بافقيه أن موقعه في التلال الواقعة إلى الشرق من تريم [58].
ويذكر الهمداني في الأنساب في الإكليل أنه: (أولد ذو جدن : بني عوف وبني حقيق، وبني ربيعة وبني شخيم، والاذمور وآل عمرو، وهم بالمسفلة من حضرموت، وهم بنو كليب ) [59]، فأولئك هم بنو كليب أصحاب (عركليب)، وكان عر هم بسفليّ حضرموت، ومنهم المرأة التي تُدعَى تهناة بن كليب, من قرية تنعة (إلى الشرق من منطقة الحصن وهي قرية لازالت قائمة إلى اليوم ), التي قد خاطت للرسول صلى الله عليه وسلم كسوة, بعثتْ بها مع ابنها كليب بن أسد بن كليب، والذي وفد على الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقال فيه شعرًا منه:
أنت النبي الذي كنا نخبره *** وبشرتنا بك التوراة والرسل
والذي يشير إلى أنّ مؤلِّفه كان يهوديًّا, والأرجح أنه ينتمي إلى الحضارمة الأصلاء [60].
ويقول الدكتور محمد عبد القادر با فقيه عن عر كليب في آخر دراساته, بعد أن حدّده سابقًا بأنه في التلال الواقعة إلى الشرق من تريم بأن ( عر كليب هو حصن العر اليوم وفيه بقايا حصن قديم ) [61].
ثم جاءت جملة (ونجثو كل /هجر/حضرموت/وسررن) وشرحها هو (واستولوا على كل مدن حضرموت والسرير) ، والسرير هو أحد أقسام وادي حضرموت المهمّة كما سبق ذكره، وجاء ذكره في نقوش أخرى منها (جام 656- 668)، وذكره الهمداني في الإكليل فقط وغاب عن الصفة [62].
[1]الأغبري : فهمي علي، التحصينات الدفاعية في اليمن القديم،رسالة ماجستير، 1994م ، ص 1
[2]الأغبري : مرجع سابق، ص5 -6
[3]نفسه ، ص 6
[4]حبتور : ناصر صالح ؛ وحسين: اسوان محمد، عامل نشوء المراكز والمدن في اليمن القديم، مجلة سبأ، جامعة عدن، عدن، العدد (18 -20) ابريل 2013م، ص 149
[5]الأغبري : مرجع سابق ، ص 9
[6]حبتور : ناصر صالح، أسماء الأماكن في نقش عبدان الكبير، مجلة سبأ، جامعة عدن، العدد (18- 20) ابريل 2013م، ص 56
[7]عربش: منير؛ والسقاف: عبدالرحمن، نقش جديد من عهد يدع أب ذبيان يهنعم ملك قتبان ويدع أب غيلان ملك حضرموت، حولية ريدان، العدد (7) عام 2001م، ص 114
[8]الارياني : مطهر علي ، نقوش مسندية وتعليقات، مركز الدراسات والبحوث اليمني، صنعاء، ط2، 1990م، ص 192 – 205.
[9]الارياني: مرجع سابق، ص 192 – 194
[10]نفسه، ص 193.
[11]بافقية: محمد عبدالقادر، توحيد اليمن القديم، ترجمة علي محمد زيد، المعهد الفرنسي للاثار والعلوم الاجتماعية، صنعاء، ط1، 2007م، ص 160
[12]بافقية: توحيد..، مرجع سابق، ص 161 – 162
[13]نفسه، ص 162.
[14]بافقية : محمد عبدالقادر، حضرموت القبيلة والوادي في النقوش وعند الإخباريين، مجلة المنتدى،العدد(8)،دبي،مايو 1990م،ص8؛ وبافقيه: توحيد ..، مرجع سابق، ص 162
[15]بافقية: توحيد..، مرجع سابق، ص 164
[16]فرانتسوزوف:سرجيس، تاريخ حضرموت الاجتماعي والسياسي قبيل الإسلام وبعده، ترجمة :عبد العزيز بن عقيل، المعهد الفرنسي للآثار والعلوم الاجتماعية، صنعاء، ط1، 2004م ص 250.و بارباع: مرعي مبارك، منطقة الكسر في وادي حضرموت، دار جامعة عدن للطباعة والنشر، ط1، 2014م، ص 128
[17]الارياني: نقوش ..، مرجع سابق، ص 194
[18]سرجيس: تاريخ…، مرجع سابق، ص 240
[19]سرجيس: تاريخ…، مرجع سابق، 121
[20]بارباع: منطقة الكسر ..، مرجع سابق ص 74 – 77
[21]عربش: نقش ..، مرجع سابق، ص 118
[22]الارياني: نقوش..، مرجع سابق، ص 194
[23]الحسني: جمال محمد، الاله سين في ديانة حضرموت القديمة، دار جامعة عدن للطباعة والنشر، ط1، 2014م، ص115
[24]سرجيس : تاريخ..، مرجع سابق،ص 241
[25]نفسه، ص 241
[26]عربش: نقش..، مرجع سابق، ص 115
[27]سرجيس : تاريخ..، مرجع سابق، ص 121
[28]سرجيس: تاريخ..، مرجع سابق، ص 121
[29]نفسه، ص 121
[30]الحاج: محمد علي، مدينة شكع وأرض يهمطل في ضوء نقش قتباني جديد مؤرخ بعهد الملك شهر يجل يهرجب، ضمن كتاب المملكة العربية السعودية عبر العصور، جامعة الملك سعود، الرياض، 2013م، ص 124
[31]بيستون وآخرون: المعجم السبئي، منشورات جامعة صنعاء؛ دار نشر بيترز لوفان الجديدة، مكتبة لبنان ، بيروت، ط1، 1982م، ص 120 والارياني : مطهر علي، المعجم اليمني في اللغة والتراث ، دار الفكر ، دمشق، ط1، 1996م، ص 371 . وسرجيس: تاريخ..، مرجع سابق، ص 19
([32])بيستون،أ.ف .ل /ريكما نز،جاك/الغول،محمود/مولر،والتر:المعجم السبئي،دار نشرياتبيترز لوفان الجديدة،مكتبة لبنان،بيروت، 1982م ،ط1 , ص120.
([33])تعليقات الدكتور عبد العزيز بن عقيل في كتاب تاريخ حضرموت السياسي لـ سرجيسفرانتسوزوف ص19.
([34])الهمداني : الحسن بن احمد, صفة جزيرة العرب, تحقيق محمد علي الاكوع, مكتبة الإرشاد, صنعاء, ط1 , 1990م , ص 170.
([35])الهمداني : صفة جزيرة .., مصدر سابق , ص 293.
([36])الهمداني : صفة جزيرة .., مصدر سابق ,ص 346.
([37])الحميري : نشوان بن سعيد, منتخبات في أخبار اليمن, دار الفكر, دمشق, ط2, 1981م, ص 14 .
([38])بلفقيه : عبد الله بن حسن , صفحات مجهولة من تاريخ حضرموت , تحقيق مصطفى العطاس , تريم للدراسات والنشر , تريم , ط1 , 2005م , ص 39-40 .
([39])الحموي : ياقوت بن عبدالله , معجم البلدان , دار إحياء التراث العربي , بيروت , ط1 , 1997م , مج 1 , ص 442.
([40]) السقاف :ادام القوت , مصدر سابق, ص490.
([41])بلفقيه : حداد ابوبكر , تريم اسم في ذاكرة الزمن , مجلة الفيصل , دار الفيصل الثقافية , الرياض , العدد 300 , أغسطس – سبتمبر 2001م, ص 51 – 53 .
([42])المشهور: علي بن عبد الرحمن, شرح الصدور بذكر بعض أحوال وسير وإجازات عبد الرحمن بن محمد المشهور, مخطوط بمكتبة خرد, ص234-240 .
[43]للمزيد انظر (الجديد في تاريخ تريم القديم) للباحث
([44])غاجدا: ايفونا , جنوب الجزيرة العربية موحداً تحت راية حمير, ضمن كتاب (اليمن في بلاد ملكة سبا) ,ترجمة بدر الدين عردوكي, باريس – دمشق, 1999م , ص 188.
([45]) أبو الغيث: عبد الله,العلاقات السياسية بين جنوب الجزيرة العربية وشمالها – ق 3- 6 م- وزارة الثقافة والسياحة,صنعاء,ط1, 2004م ,ص 12-13.
([46])عبدالله : يوسف محمد , أوراق في تاريخ اليمن وآثاره , دار الفكر, دمشق – بيروت , ط2 , 1990م , ص 256.
[47]الارياني: نقوش..، مرجع سابق، ص 195