مركز حضرموت للدراسات التاريخية والتراث والنشر

المعتقدات والطقوس الدينية بحضرموت قبـيـل الإسلام .. ( القرنين الخامس والسادس الميلاديين )

ملف

علي سالم علي باهادي

إعداد .. علي سالم علي باهادي

نائب مدير مركز الرناد للتراث والآثار والعمارة .. تريم ـ  حضرموت


المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 6 .. ص 78

رابط العدد 6 : اضغط هنا


المقدمة :

تُـعَـدُّ ظاهرتا (التدين والعبادة ) جزءًا من حاجات النفس البشرية، وقد زرعت  في الإنسان منذ أنْ خلقه الله وأوجده على هذه  الأرض , وقد جعلها الإنسان في مقدمة تفكيره ، وكان من بين اعتقاده فيها أنها تجلب له الخير والبركة وتدفع عنه السوء , والإنسان موحِّدٌ بفطرته ، لكن عند ابتعاده عن تعاليم الرسل ينحرف بعبادته إلى غير الله , فيرسل الله الرسل مبشرين ومنذرين .

تستعرض هذه الورقة العلمية الموسومة (بالمعتقدات والطقوس الدينية بحضرموت قبيل الإسلام) الأوضاع الدينية بحضرموت في القرنين الخامس والسادس الميلاديين في أعقاب سقوط مملكة حضرموت وتفتُّت كيانها السياسي  وانضمامها تحت لواء  الدولة الحميرية ، التي حاولت توحيد ممالك جنوب الجزيرة العربية .

تتوزّع الورقة على : مدخل : احتوى على صورة عامة عن حضرموت في تلك المرحلة ، ومبحث أول : تناول المعتقدات الوثنية بحضرموت قبيل الإسلام والطقوس التي تمارس تبعًا لتلك العبادات الوثنية , ثم مبحث ثاني : تناول الديانات التوحيدية بحضرموت عشية ظهور الإسلام والأخلاقيات التي ترتقي إلى أن تكون تعاليم إسلامية  مارسها الحضارم قبل الإسلام , واختتمت الورقة بخاتمة .

     لا زال الغموضُ يشوبُ الكثيرَ من مراحل تاريخ حضرموت القديم خاصة الجانب الديني ,  وقد لاحظ ذلك الإشكال الكُتّاب الذين اعتمدنا على مؤلفاتهم في هذه الورقة أمثال الأستاذ الدكتور محمد عبدالقادر بافقيه في كتابه (تاريخ اليمن القديم) ، والباحث التونسي بناجي العبدولي في كتابه (قبيلة كندة في صدر الإسلام والدولة الأموية) ، وكذلك الباحث الروسي سرجيس فرانتسوزوف في كتابه (تاريخ حضرموت الاجتماعي والسياسي قبيل الإسلام وبعده) , وقد ردُّوا ذلك الغموضَ إلى شحه المصادر النقشية وقلة التنقيبات الأثرية وانحصار الكثير من مادة النقوش الشحيحة ، التي تم العثور عليها على ذكر الحوادث السياسية أو النذور التي تقدم للآلهة الوثنية . وتُعَدُّ الدراسة التي قام بها  الباحث جمال الحسني (الإله سين في ديانة حضرموت القديمة) من أهم الدراسات الحديثة ، التي أعطت مادة تحليلية عن ديانة حضرموت والإله سين وفق النقوش . أما المصادر العربية القديمة التي تم الاعتماد عليها أيضًا فإنّ مادتها الدينية ـ على أهميتها ـ تعطي لمحة موجزة ولا تقدم للباحث تفاصيل عن المعتقدات والشعائر التي يقوم بها السكان .

     ـ كل الشكر والتقدير لمركز حضرموت للدراسات التاريخية والتوثيق والنشر , وإدارته الموقّرة على الجهود الجليلة التي يقومون بها في سبيل حفظ تراث حضرموت وتوثيق تاريخها المجيد , وعلى جهدهم في الدفع بالباحثين الشباب نحو الكتابة الجادّة في تاريخ حضرموت  .

1ـ مدخل :

     تقع حضرموت في الزاوية الجنوبية الشرقية من الجزيرة العربية ، وقد اختلف المؤرخون اختلافًا كبيرًا في حدودها ، ويرجع ذلك إلى الناحية السياسية في الأكثر، وقامت على أرض حضرموت في الألف الأول  قبل الميلاد مملكة امتدّت لمساحات واسعة من جنوب الجزيرة العربية ، واتخذت لنفسها  مكانة بارزة بين ممالك جنوب الجزيرة  المجاورة لها ، وقد قطع اسمها مئات من الأميال قبل الميلاد ، فبلغ مسامع اليونان والرومان ، وسجّله كتّابهم في كتبهم لأول مرة في القارة الأوروبية ، وكُتِبَ لذلك التسجيل الخلود حتى اليوم ، ولكن سجلوه بشيء من التغيير والتحريف ، اقتضته طبيعة اختلاف اللسان ، أو سوء السماع ، أو طول السفر .

     في مطلع القرن الرابع الميلادي أصاب تجارة اللبان والبخور شلل تام بفعل اعتناق الإمبراطور البيزنطي (قسطنطين الكبير) المسيحية ، وجعلها الدين الرسمي للإمبراطورية , وهذا الأمر أثر سلباً على تجارة البخور واللبان ، الذي أخذ يفقد صفة القداسة نظرًا لانحسار المعتقدات القديمة التي كانت تستخدم البخور في الصلوات والطقوس الأخرى ، أدّى ذلك إلى تدهور مملكة حضرموت إضافة إلى الصراعات التي كانت تشهدها  ممالك جنوب الجزيرة في ما بينها ، وكان من نتائجها انهيار تلك الممالك القديمة وبروز قوى محلية جديدة كحمير ودخول قوى أجنبية  إلى الساحة كالفرس والأحباش .

     وأرجع بعض علماء العربيات الجنوبية سقوط مملكة حضرموت واندماجها كُلِّيًّا في مملكة سبأ وذي ريدان في أيام (شمر يهرعش) بعد السنة 300م ،  وذهب بعض الباحثين إلى أن سقوط حضرموت كان في القرن الرابع بعد الميلاد فيما بين 335م وسنة 370م ([1]) ؛ وعقب وفاة شمر يهرعش الذي تميز عهده بالقوة حدثت ثورة كبيرة في حضرموت ربّما أراد الحضارمة الانفصال عن الدولة المركزية والحنين إلى مملكتهم التي أزالها شمر يهرعش أخذت حمير تعلن النفير لاستعادة حضرموت،  فاشترك جيشا الدولة الحميرية وهما الخميس أي (النظامي) وجيش الأعراب أي (البدوي) في القضاء على تمرُّد قبائل حضرموت كما جاء في نقوش (إرياني 32,و إرياني 39) ([2]).

     و بعد أن ضعفت الدولة الحميرية أخذت المدن والمستوطنات الحميرية تستقل تباعًا , وأخذ زعماء القبائل و الأقيال و الأذواء يستقلّون بما تحت أيديهم من أراضي وأودية ([3]) ، وقد ضعفت دولة الحميريين بعد استيلاء الأحباش على اليمن ، وفي الفترة التي تسبق الإسلام مباشرة كان حكم حضرموت في يد قبيلتي حضرموت وكندة ، ولكلٍّ من القبيلتين ملوك و أمراء ، والواقع أن تسميتهم بملوك إنما هو تجوُّزًا ؛ لأنهم مشايخ عشائر وإقطاعيون نعتوا أنفسهم بملوك وكثيرًا ما سمَّتِ العربُ مشايخَها الأقوياء بالملوك ([4]).

     وقد نزحت قبيلة كندة تاركة ديارها الأصلية من وسط الجزيرة العربية (ويبدو أن تدهور الأوضاع في حضرموت قد شجعها على ذلك النزوح) فنزلت كندة في اثنين من أودية حضرموت : وادي دوعن ووادي العبر([5]) ، ثم تفرّقوا في قرى حضرموت ومدنها ، فكان بنو عمرو بن معاوية في مدينة تريم ، ونزل بنو الحارث الملك في  دمّون وجاوروا بها إخوانهم من الصدف ([6]) .

     وأخذت الصراعات القبلية في حضرموت تزداد في أعقاب نزوح قبيلة كندة إليها ، فكانت علاقة أقيال حضرموت مع كندة هي الحرب ، وقد دخلوا في حروب كثيرة حتى كاد الفناء أن يَعُمَّهم ، وكانت الغلبة في الأكثر لكندة ، وقد تتحدَّان معًا ضد الغزو الخارجي ([7]) ، ولم يحجز بينهما إلا ظهور الإسلام ([8]) ، بالإضافة إلى العلاقات المضطربة مع القبائل المجاورة سِلْمًا وحَرْبًا ، فقد كانت كندة في حالة نزاع مع مذحج ، وقد نشبتْ بينهم الغارات المتبادلة إلى حدِّ أن ملك كندة  قيس بن معد يكرب والد الأشعث بن قيس قدْ قُـتِـلَ في معركة مع (مراد) المذحجية ، وكانت قبيل البعثة بحوالي خمس سنين ، وقد أراد الأشعث أن يثأر لأبيه فوقع في الأسر فافتدى نفسه بثلاثة آلاف بعير ، ولم يعرف أن أحدًا افْتُدِيَ بمثل هذا الفداء من العرب [9].

2ـ المعتقدات الوثنية بحضرموت قبيل الإسلام :

     عرف الحضارم العديد من المعتقدات الوثنية قبيل الإسلام وشاركوا سُكَّانَ المجتمعات المجاورة لهم في الكثير منها وانفردوا بالبعض منها , ومارسوا طقوسًا وثنية مختلفة , وقد ساهمت الديانات التوحيدية عند دخولها حضرموت في إزالة تلك الرواسب الوثنية .

1/2 عبادة الأجرام السماوية :

     تُعَدُّ عبادة الأجرام السماوية والكواكب إحدى الديانات التي انتشرت في حضارات العالم القديم  , وكانت الديانة اليمنية القديمة ديانة فلكية ، أي : أنها تقوم على عبادة آلهة تجسدها أجرام سماوية تمامًا كبقية الشعوب العربية أو السامية الشمالية ، ومهما اختلفت أسماء الآلهة عند قبائل اليمن وممالكها فإنه يمكن إدراجها تحت أحد أجزاء ثالوث يتكون من الزهرة والشمس والقمر ([10]) .

     وانتشرت في حضرموت عبادة القمر وسمي ذلك الإله بالإله (سين) ؛ حيث انتشرت المعابد في طول البلاد , ووجدت الكثير من النقوش في أنقاض وخرائب المعابد والمستوطنات الحضرمية  تحتوي على نذور وإهداءات للإله سين , وذلك في فترة ازدهار مملكة حضرموت , لكن مع سقوط حضرموت ـ  في نهاية القرن الثالث  بداية القرن الرابع الميلادي ـ ودخولها في إطار الدولة الحميرية اختفت تلك النقوش النذورية المهداة للمعابد ، ومع ضياع الاستقلالية السياسية للمنطقة انقرضت العبادات المرتبطة بالآلهة المحلية وبالذات (سين) الإله الرئيس والرسمي لمملكة حضرموت القديمة , وكان انتشار الديانتين اليهودية والمسيحية في جنوبي الجزيرة العربية ومن ضمنها حضرموت بمثابة الضربة النهائية لديانات الشرك التقليدية في المنطقة ([11]).

     أما قبيلة كندة التي نزحت إلى حضرموت في تلك الأثناء فلم يكن وضعها الديني بغريب عن السكّان المحليّين ؛ حيث تشير المستندات التاريخية إلى أن ديانة الكنديين تجسدتْ من خلال الإله (كهل) المعبود الرئيس لأهل (قرية) ؛ حيث كانت تقيم كندة في دهرها الأول , و(كهل) هو إله (القمر) عند الحضارم ، وكان في هيأة رجل مُسِنّ , وبغير هذه الإشارة فإنَّ الرقوم اليمنية لا تُسْعِفُنا بشيء البتّة عن ديانة كندة القديمة لتبقى معلوماتنا رهينة لما روتْه لنا المصادر العربية على اقتضابها وتأخرها ، ويبدو أن الكنديين قد كانت تتجاذبهم دياناتٌ عِدَّة ؛ إذ تعايشتْ معهم الديانة الوثنية والتوحيدية في الوقت ذاته ([12]) .

2/2 عبادة الأصنام :

     إنَّ عبادة الأصنام هي إحدى الديانات الوثنية القديمة ، وقد انتشرت في مناطق مختلفة , وكان نبي الله نوح هو أول رسول بعثه الله لإعادة البشر إلى الطريق السويِّ بعد أن انحرفوا إلى عبادة الأصنام ، ويبدو أن الصلات التجارية بين تجار وسط الجزيرة وبلاد الشام والرافدين قد أدخلت تلك الأصنام إلى شبه الجزيرة العربية ومكة المكرمة ؛ حيث تشير كتب السنة النبوية إلى رجل يدعى عمرو بن لحي بأنه أوّل من أدخل الأصنام إلى مكة .

     ويبدو أن غياب السلطة المركزية وسقوط الكيان السياسي بحضرموت ودخولها في إطار التبعية لقوى خارجية قد سمح بدخول تلك العبادات الوثنية إلى المنطقة وانتشارها على حساب الديانة القديمة .

      ومع ذلك فقد تعايشت المعتقدات الوثنية للبدو الرُّحَّل النازحين من وسط الجزيرة العربية جنبًا إلى جنب مع بقايا عبادات الشرك للسكان الحضارمة الأصلاء ومع ديانتي التوحيد اليهودية والمسيحية اللتين دخلتا إلى المنطقة مزيحتَيْنِ من أمامهم الوثنية القديمة ([13]) .

الأصنام التي عبدها الحضارم عشية ظهور الإسلام :

     تذكر المصادر العربية القديمة عددًا من الأصنام التي عبدها الحضارم ودارت حولها بعض الطقوس والعبادات والنذور ، وهي أصنام يشترك في عبادتها مجموعة قد تكون قبيلة أو قبائل عِدَّة  :

     1ـ صنم ذريح : الذي عبدته حضرموت، وكان بحصن النجير في حضرموت، وكانت تلبيته: (لبّيك اللهمّ لبّيك كُلُّنا كنود وكلنا لنعمه جحود فاكفنا كُلَّ حيّةٍ رصود)([14]) ، والملحوظ في هذه التلبية استخدام كلمة كنود بمعنى (العصاة) وذلك لمقاربتها في النطق مع كلمة كندة المشتركة معها في الجذر , ولا نجد في المصادر ما يوضح نوع الإله الذي يمثّله ذريح المذكور ، وقد أرجعه أحد الباحثين إلى الفعل اليهودي زرح , والآرامي دنح بمعنى أشرقت أو سطعت الشمس , وضمه آخر إلى مجموعة الآلهة الكوكبية ([15]).

     يتضح ممّا سبق أن حصن النجير ([16]) الذي هو معقل كندة وكان آخر مراكزهم أثناء حروب الرِّدَّة بحضرموت لم تكن له أهمية حربية وعسكرية فقط بل كانت له أهمية دينيّة أيضًا .

     2ـ صنم مرحب : وعبده الحضارمة ، وزعموا أنّ له سَادِنًا اسمه (ذو مرحب) مثله مثل أيّ صنم كان في وسط الجزيرة العربية ، ويعني اسم ذريح في النقوش العربية المتأخرة اسم لمبنى معيّن . وتوجد بالمتحف الوطني بمدينة عدن قطعة حجرية بها نقش يذكر (شمسم بعلت مرحبم) ، وإذا حكمْنا من شكل الحجر الذي هو عبارة عن صخرة معمولة بشكل رديء كانت تقع بجانب صخرة كبيرة عبارة عن بيت إيل أي بيت إله , فإنّ مصطلح مرحبم في هذه الحالة يجب فهمه كموضع طبيعي وليس كمبنى للعبادة .

     3ـ صنم الجلسد : وهو عبارة عن صخرة بيضاء لها ما يشبه رأس أسود ، إذا تأمله الناظر رأى فيه كصورة وجه إنسان , وكانت له حمى ترعى فيه بحرية تامة الإبل التابعة له ، ويفقد المالك حقَّ ملكيته لحيواناته إذا أضطرها الجوع لأن تدخل في حمى الجلسد .

     وهنالك عادات وطقوس يجب القيام بها قبل الوقوف أمام الجلسد لطلب مساعدته في الشؤون اليومية ، مثل العثور على الإبل الضائعة  يجب أخذ ثوبين نظيفين من السَّدَنَة ولبسهما ، ويعتبر الدخول إلى المعبد في جنوب الجزيرة في ثياب نجسة ذنبًا يتوجب على صاحبها التوبة منه , ويعتبر ذلك الطقس شبيهًا بالوضوء في الإسلام ، وهو يهدف إلى الغرض نفسِه ألا وهو بلوغ الطهارة الطقوسية ، ويمكن مقارنتها كذلك بالعادة الكنعانية التي توجب لبس ملابس خاصة عند التعبّد للإله (بعل) , وتُـقَـدَّمُ الحيواناتُ كالإبل أضاحي للجلسد ، ويُطْلَى الصنم بدم الأضاحي ، وتصاغ الطلبات والتضرُّعات إليه بعبارات مسجعة . ويجب إحناء الرأس عند الاقتراب من الجلسد ، ويعكس ذلك بيت من الشعر الجاهلي قاله المثقب العبدي أو عدي بن ودّاع:

فبات يجتاب شقارى كما      بيقر من يمشي إلى الجلسد ([17])

     والفعل آتٍ على الأرجح من اسم (بقر) ، وتعني في أصلها (مشية يطاطي فيها الرجل رأسه). وتشير الطقوس المرتبطة بعبادة هذا الصنم إلى أنه كان حاميًا للمواشي ، وقد كان هذا المعبود موجودًا بأشكال مختلفة لدى الشعوب والقبائل السامية . أمّا اسم الجلسد فيمكن إرجاعه إلى (جسد) أو إلى (الجلمد) التي تعني الصخرة أو الإنسان القوي ([18]) ، وقد اختص بسدانة الجلسد بيت بني علاق من بني شكامة بن شبيب بن السكون من كندة ، وكان له حمى من الأرض ([19]) على الرغم من الأساطير التي تدور حول الجلسد لكن الوصف التفصيلي للصنم نفسه وطقوس عبادته لا تترك شَكًّا على وجوده الفعلي .

     4ـ ذو الخلصة : ويقع بتبالة موضع بين مكة واليمن , وهو منحوت من حجر أبيض عليه ما يشبه التاج , وكان سدنته بني أمامة من باهلة بن أعصر, أما عن موقعه  اليومَ فعتبة باب مسجد تبالة على ما يذكر الكلبي ([20]) , ويُرْوَى أنّ امرأ القيس الكندي استقسم عند صنم يُدْعَى ذو الخلصة ، ويوحي ذلك بانتشار الوثنية في كندة قبل الإسلام ([21]) .

     5ـ العُـزّى : ويقع خارج حضرموت ، لكن شهرته قد جعلته يصل إلى العديد من القبائل في الجزيرة العربية , ويعتبر من أعظم الأصنام عند قريش ؛ حيث كانت تُقَدَّم له الذبائح وتسمي أبناءها به وتقصده بالزيارة ([22]) , ويبدو أن عبادته قد انتقلت مع القبائل النازحة إلى حضرموت من وسط الجزيرة العربية , وفي المخربشات الحضرمية كثيرًا ما نقابل اسم الإله العزّى ([23]).

     أورد المؤرخون أيضًا أصنامًا عبدها الحضارم وهي أشبه ما تكون بالأصنام الشخصية فقد ذكر علماء السير أن من أسباب وفادة وائل بن حجر وإسلامه قصة حدثتْ له مع صنمه الذي يضعه في مخدعه , ويذكر الشاطري نقلًا عن المؤرخ أحمد دحلان أنّ صنم وائل كان من العقيق ([24]) ، وقد سمع منه هاتفًا ودار بينهما حديث في قصة طويلة رواها أهل السير والحديث , ويتضح من قصة صنم وائل اهتمام الحضارم باقتناء الأصنام ، ويبدو أن مكانة وائل بن حجر الاجتماعية قد جعلته يمتلك صنمًا من العقيق ، والذي حطّمه قبل ذهابه إلى المدينة وإعلان إسلامه.

3/2 طقوس وسلوكيات وثنية :

     لم تصل إلينا الكثير من النصوص الدينية المطوّلة من قصص وأساطير وأدعية وصلوات كما هو الحال مع الشعوب السامية الأخرى , ولعل ذلك يرجع إلى طبيعة الكتابة الحجرية على الأحجار والتي التزمت الإيجاز في كل ما تعرّضت له من موضوعات دينية ودنيوية ومع ذلك فإنَّ النصوص على إيجازها صِيَغٌ تكاد تكون جامدة ومكرّرة ، تدلّ دلالة قوية على عمق الشعور الديني ([25]) , لكنْ على الرغم من شحّة المعلومات في تلك المصادر التي لم تبين الكثير من الطقوس التي أداها الحضارم في عبادتهم الوثنية فإنّنا يمكن إيجازها في الأتي :

     أ ـ السحر : وكان منتشرًا بحضرموت ؛ إذْ كانَ الاعتقاد بالسحر والسحرة مُشَاعًا في النّاسِ وذلك حسبما ذكره ابن سعيد المغربي وابن خلدون في مؤلفاتهما. وقد ذكرتْ لنا بعضُ المصادرِ وجود السحرة في أوساط قبيلة السكاسك الذين كانُوا يُوهِمُونَ النّاسَ استطاعتهم إيقاف السحابة الماطرة وجلب السيول المفاجئة ([26]), وحاول السكان حماية أنفسهم من تلك القوى الخارقة من خلال وضع التمايم على الرقاب والتي هي عبارة عن سن الثعلب وتبدو أقرب إلى شكل الهلال ([27]) والذي يرمز إلى إله القمر .

     ب ـ الكهانة : حيث وجد الكهنة في القبائل الحضرمية قبل الإسلام ، وكان مركزهم الاجتماعي وكذا علاقة الآخرين بهم مختلفة أشد الاختلاف . ومن هؤلاء الكهنة الكاهن الغني المشهور (خنافر بن التؤام الحميري) الذي يملك قوات محاربة خاصة به، وقد داخل في حلف مع الزعيم المهري القوي (جودان بن يحيى القرضمي) , كذلك  الكاهنة (زبراء) وهي جارية مقطوعة النسب وهي من مولدات العرب , ويبدو أن وضعها الاجتماعي قد جعل تكهناتها محل سخرية الناس [28] , وكان الكهنة يتدخلون في الحياة العامة بصور مختلفة ويتميزون بمكانة مرموقة [29]. وكانت كندة تستخدم النسيء، وقيل كانت أول من استخدمه [30] .

      ج ـ الصيد المقدَّس : في بداية العصور التاريخية في جنوب الجزيرة العربية انتشرت مناظر صيد الوعول؛ حيث كانت ترافقه طقوس وشعائر دينية موسمية امتدت إلى بداية الديانة الكوكبية في جنوب الجزيرة، وأصبح تقديس الوعل وصيده من الشعائر الدينية التي يقوم بها الملك , وظهرت لوحات برزتْ فيها عمليات صيد الوعل وزُيّـنَتْ بها أعمدة المعابد وجدرانها. وبعد أن تطورت وسائل الإنتاج وتحسنت الظروف الاجتماعية وأخذت الديانات التوحيدية تنتشر شيئًا فشيئًا في ربوع الجزيرة العربية بدأت مهنة الصيد لا تؤدي غرضها الديني، بل أصبحت عادة بين المجتمعات كنوع من القوة والزعامة والتفاخر بين العرب, ونظرًا لما يمثله الوعل من مظاهر الشموخ والقوة فقد اتخذته بعض حضارات جنوب الجزيرة رمزًا مقدّسًا للإله (عثتر)، وهو إله الزهرة، وله مكانة عالية في نفوس سكان جنوب الجزيرة العربية .

     وبما أن مجتمعات جنوب الجزيرة زراعية فقد كانت تقوم بالصيد المقدّس كأحد الطقوس الدينية التي ترضي الإله كي يمنّ عليها بالخير والبركة، وعلى حسب اعتقادهم فإنّ أداء الصيد المقدس يجلب لهم نزول المطر؛ كي يروُون الأرض، وتحلّ بهم النعمة، وإهماله قد يؤدي إلى غضب الإله، وكان يرافق الصيد المقدس بعض الاحتفالات قبل الصيد وبعدَه، ويعمُّ الفرح جميع من خرج في الرحلة، بالإضافة إلى اعتقادهم بأن صيد الوعل يجلب خصوبة الأرض، ويتّضح أن المناطق التي تناسب عيش الوعول تكون من أفضل المناطق الزراعية [31] , وقد عرفت حضرموت الصيد منذ القدم تدل على ذلك الرسوم الصخرية ورسوم المنحوتات, وتقدّم تلك النقوش معلومات عن وجود طقس الصيد الملكي في حضرموت القديمة , وفي حضرموت لازال الناس يمارسون صيد الوعل إلى الزمن الحديث ويستبشرون عند صيده بدورة زراعية جيدة [32],  ويذكر الأستاذ محمد بافقيه أن من المعتقدات القديمة التي لازالت باقية إلى اليوم وضع قرني الوعل في زوايا المنازل من الخارج، أو وضعها على بعض القبور كما يشاهد في مدافن شبوة الحديثة، وقرنا الوعل كقرني الثور يذكّران بالهلال [33] رمز الإله القمر .

     وقد اختفى ذلك الطقس الديني مع انتشار الديانات التوحيدية في حضرموت، لكن العادة ظلّت مستمرة، ولازال قنيص الوعول يستهوي الكثير، ويُـعَـدُّ من الرياضات الشعبية التي يقوم بها السكان، وتستقبل جموع العائدين من القنيص في أطراف المدن بالأهازيج، ويعُـمُّ الفرح وتزف المواكب إلى داخل ساحات المدن، وتوضع قرون الوعول على البيوت للتفاخر والزينة, بقيت العادة بشكلها الاجتماعي الشعبي منذ تلك العصور واختفى الارتباط الديني فيها .

     د ـ الزجر : وهي عادة جاهلية انتشرت بين الكثير من القبائل العربية , وتقوم على أساس زجر الطير أوالوحش، وملاحظة الناحية التي يسلكها ليبني على ذلك تفاؤله أو تشاؤمه , وقد كان هذا الاعتقاد منتشرًا لدى سكان حضرموت الأصليين , فبحسب رواية علقمة وعبد الجبار ابني القيل وائل بن حجر فإنّ والدهما كان من مشاهير الزاجرين [34], وعلى الرغم من أنّ الإسلام يعد الزجر من بقايا الوثنية الجاهلية فإنّه تذكر لوائل بن حجر قصة في ذلك بعد استقراره في الكوفة بعد الإسلام.

     هـ ـ جز النواصي : وهي من عادات الأعراب في الجاهلية؛ حيث يجزّ شعر الناصية قبل الدخول في المعركة إشارة إلى الاستعداد للموت من أجل حِمَى القبيلة , واعتبره البعض له معنى طقوسي يتمثل في تقديم خصل الشعر المجزوز كأضاحي للآلهة الوثنية , وفي يوم النجير مع أحداث الرِّدَّة قام رجال كندة بجزِّ نواصيهم التي كانت رمزًا لتساوي الجميع، وتنادَوْا فيما بينهم البين لقتال المسلمين, وقاموا بتعليق نواصيهم بعد جزِّها على أسنّة الرماح، وأقسموا أن يموتوا بشرف وعزة حسب ما أورده فرانتسوزوف نقلًا عن ابن أعثم الكوفي [35] .

     أمّا فيما يتعلق بطقوس دفن الموتى في حضرموت قبل الإسلام فالمعروف عنها قليل جدًا، فلقد كان الميت يوارى الثرى، ويعتبر عدم دفنه إهانة  بالغة له [36]. وكان عرب الجنوب لم يبدوا عناية بإنشاء المقابر مثل عنايتهم بتشييد المعابد، وأثناء الحفريات الأثرية تم الكشف عن أنماط من طرق الدفن, وتُوجَد في عددٍ من القبور نصب على هيئة أعمدة ملساء، يكتب في الجهة الأمامية اسم المتوفَّى، وتحته يوجد مكان مربع قد ينتهي بجزء صغير لرسم المتوفى [37] .

3ـ الديانات التوحيدية  بحضرموت قبل الإسلام :

     تعود صلة حضرموت بالديانات التوحيدية إلى أزمان بعيدة؛ إذ أشار الكثير من الإخباريين العرب والمفسرين أن بلاد الأحقاف التي ذكرت في القرآن الكريم، وكانت محلّ بعثة النبي هود ـ عليه السلام ـ هي بلاد حضرموت , كذلك استقر بحضرموت نبي الله صالح وبها دفن, وتوجد قبور في مناطق مختلفة من حضرموت تنسب ألى أنبياء بعثهم الله و أدركتهم المنيّة بحضرموت , والأنبياء هم دعاة التوحيد و الإيمان بالله الواحد .

1/3 الديانة اليهودية :

     في عام 70 ميلادية وفد من فلسطين فرارًا من حكم الإمبراطور الروماني تيتوس (Titus)  كثيرٌ من اليهود إلى اليمن، ووجدوا بلدًا آمنًا يأوون إليه ، ومكانًا حصينًا يقيمون فيه ، وبعد مضيِّ فترة قصيرة من الزمن تمكّنوا من السيطرة على مرافق اليمن التجارية، وكان اليمنيون في شغل شاغل بأنفسهم وبحروبهم الداخلية وتدمير بعضهم بعضًا.

     وكان أول من اعتنق اليهودية من ملوك اليمن المتأخرين الملك أسعد الكامل، الذي حكم اليمن من عام 385 إلى 415 بعد الميلاد ، وتبعه جماعة من أصحابه في اعتناق اليهودية [38].

     وربما أتت تلك الهجرة إلى اليمن لوجود جماعات من القبائل اليمنية آمنتْ باليهودية من قبل, فليس من المعقول أن تأتي تلك الجماعة اليهودية من غير سابق تخطيط ولا تدبير إلى مكان مجهول بالنسبة إليها .

      وفي تلك الفترة بدأت تنتهي عبادة الآلهة الكوكبية، وظهرت مرحلة الديانة السماوية التي استمرت بين عامي (493م ـ 669م)، وبدأت النقوش الجنوبية تذكر أسماء الآلهة الرسمية، وأصبح الدعاء باسم (رب السماء) أو (إله السماء والأرض) أو (رحمنن) أي الرحمن. ومنذ منتصف القرن الرابع الميلادي كان قد تم بناء الكنائس في حضارة جنوب الجزيرة العربية؛ حيث اشتدّ الصراع وبدأ العنف الديني، خاصة ما حدث في عهد الملك (يوسف أسار) المعروف في المصادر العربية بذي نواس الذي اعتنق الديانة اليهودية [39].

     وفي حضرموت انتشرت الديانة اليهودية، لكن لا توجد معلومات ذات شأن حول بداية تغلغلها في حضرموت لا في المصادر النقشية ولا في مدونات التاريخ ,  ويبدو أنها أتتْ مع قبيلة كندة التي سرتْ إليهم أيام اتصالهم بالتبابعة أو من مجاورة اليهود في يثرب عندما كانوا ملوكًا على قبائل معد [40] . ولم تنتشر الديانة اليهودية في حضرموت بفضل الدعاة اليهود من السكان المحليين فحسب بل وبواسطة البدو النازحين من وسط الجزيرة العربية أيضًا .

     وينقل الباحث الروسي فرانتسوزوف عبارة من مخطوطة تاريخية للسيد علي بن حسن العطاس يذكر فيها (أنه كانت قبل مبعث النبي ـ  صلى الله عليه وسلم ـ جالية يهودية بمدينة حريضة أزاحتها من المدينة قبائل السكون فيما بعد)، وعلى الأرجح فإن غالبية أعضاء هذه الجالية يعودون إلى السكان الأصليين [41] , و يذكر ابن عبيد اللاه السقاف نقلًا عن شخص لم يسمِّه، يقول إنّ حريضة مصحفة عن قريظة، ودلّل على ذلك بأنها كانتْ مسكن اليهود قبل البعثة بأربعمائة سنة, وفي نقله عن مذكرات أحمد بن حسن العطاس يذكر أنّ حريضة كانت لليهود قبل النبوة, فأسلموا بكتابه صلى الله عليه وسلم, ثم ارتدُّوا إلى اليهودية وبقوا عليها  إلى زمان المهاجر ثم أسلموا [42].

     روت المصادر العربية القديمة عددًا من الحوادث التي ترجح أن اليهودية كانتْ متفشية في حضرموت عشية ظهور الإسلام ولها مكانة بين السكان  منها :

     ـ ما ذكره ابن سعد وابن حجر عن حكاية المرأة الحضرمية من منطقة تنعة، الواقعة بالقرب من برهوت، والتي آمنت وخاطت للرسول صلى الله عليه وسلم كسوة حضرمية، بعثت بها مع ابنها كليب بن أسد بن كليب، الذي وفد على الرسول عليه الصلاة والسلام في المدينة المنورة وأعطاه هدية أمه وقال فيه شعرًا يمتدحه:

من وشز برهوت تهوي بي عذافره  إليك يا خير من يحفى وينتعل
تجوب صفصفاً غبراً مناهله تزداد عدوا إذا ما كلت الإبل
شهرين اعملها نصاً على وجل   أرجو بذاك ثواب الله يا رجل
أنت النبي الذي كنا نخبره    وبشرتنا بك التوراة والرسل [43]

تتشابه تلك الحكاية مع حكايات لوفود آخرين التقوا بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكن البيت الأخير من القصيدة يشير إلى أن مؤلفه يهودي، والأرجح أنه ينتمي إلى الحضارم الأصليين في المنطقة مثله مثل غيره من سكان تنعة , ويعلّل كليب دخوله في الإسلام بما ذُكر في التوراة عن قدوم الرسول محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويدلّ ذلك على تعمقه في استيعاب نصوص العهد القديم .

     ـ حكاية النزاع الذي حدث بين الملك الكندي الأشعث بن قيس وبين يهودي من حضرموت حول قطعة أرض صغيرة, وجرى التحاكم حولها لدى ـ الرسول صلى الله عليه وسلم ـ, وتدل تلك الحكاية على قدر التأثير الملحوظ للجالية اليهودية بحضرموت قبل الإسلام [44]، وعلى مدى التعايش بين أتباع الديانات من القبائل الحضرمية، فكان بإمكان الملك الأشعث انتزاع تلك الأرض من ذلك اليهودي بحكم قوته وسلطته على فرع كبير من كندة لكنه فضّل أخذها بالحوار .

     ـ حكاية الناقة التي حاولت كندة استردادها من عامل أبي بكر الصديق رضي الله عنه بعد أن وَسَمَها بميسم الصدقة, وقد رفض زياد بن لبيد العامل الإسلامي ذلك وظنّ أنّه إنما فعل ذلك ليمتنع عن أداء الصدقة, ودار حول ذلك حوارٌ ثم تطوّر واتسع النطاق إلى مواجهة عسكرية [45], وأثناء الحوار بين عامل الخليفة والمتمرّدين ورفضه إعادة الناقة أجابه الزعيم الكندي أبو السميط حارثة بن سراقة بن معد يكرب (ذاك إذا كنت يهوديًّا), وانطلاقًا من الشريعة اليهودية فإن بإمكاننا القول إن أبا السميط كان يعني بعبارته (قانون العشر اليهودي)، الذي يحرّم استبدال البهيمة التي أعطيت كعشر باعتبارها قدسًا للربِّ (لا يفحص أجيد أم رديء, و لا يبدله, وإن أبدله يكون هو وبديله قدسًا لا يفك) الكتاب المقدس, اللاويين 27:32 ـ 33 [46].

     ومن ذلك يمكن القول بأن الحضارم لم يكونوا يدينون باليهودية بشكل سطحي، بل كانت لديهم معرفة بأحكام الشريعة اليهودية وتطبيقاتها , ومن خلال احتكاك أبي السميط الكندي بالجالية اليهودية من كندة جعلتْه يطّلع على تلك التشريعات، والتي يرجح أنها كانت تمارس بين يهود حضرموت .

     ومن أشهر اليهود الحضارم الذين وردَ ذكرُهم في المصادر التاريخية : قيس بن معد يكرب (والد الأشعث بن قيس)، وكذا كانت أخته التي ظلّت على يهوديتها حتى عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه,  وكذلك  اليهودية هر بنت يأمن وهي من اللاتي فرحْن بموت الرسول صلّى الله عليه وسلّم والتي عاقبها المسلمون بحزم وشدة على فعلتها تلك [47].

2/3 الديانة المسيحية :

     لا يعرف متى كانت النصرانية قد تفشّت بين بعض القبائل العربية حتى وصلت إلى نجران في اليمن، ولكن المعروف أنّ بعض أهالي اليمن اعتنقوا المسيحية عند احتلال الأحباش لليمن في المرة الأولى بين عام 340 و374 ميلادية [48].

     وفي حضرموت يبدو أن انهيار مملكتها قد ساعد بشكل واسع على إحداث تغيرات كبيرة في حضرموت سياسية ودينية , فقد نزحت إليها عدد من المجاميع القبلية من وسط الجزيرة العربية , ويشير المؤرخون إلى إن تلك المجاميع ساهمت في نشر الديانات التوحيدية الى حضرموت ومنها المسيحية ؛ حيث نجد طائفة من الكنديين تدين بالنصرانية خاصة بعد اتصالاتهم بالنصارى إمّا من خلال علاقتهم بالأحباش في اليمن، أو من خلال البيزنطيين في الشام، وربما تسرّبتْ إليهم من نجران معقل النصارى باليمن [49] .

     وقد وصلتْ إلى حضرموت حملة حميرية في عام 518 ميلادية، أي: قبل احتلال نجران المركز الرئيس للنصرانية في جنوب الجزيرة العربية, وكان الهدف الرئيس لهذه الحملة مدينة الهجرين الواقعة في وادي دوعن, وقد كانت على الأرجح مركزًا من مراكز الموحدين النصارى, وإلى تلك الفترة يعود الذكر الوحيد لنصارى حضرموت الموجود في (رسالة شمعون من بيت أرشم), وتوجد علاقات وثيقة بين مسيحيي حضرموت وسوريا في مطلع القرن السادس الميلادي، فقد كان اثنان من القساوسة الأربعة الذين قتلوا في أثناء حملة ذي نواس على حضرموت من قساوسة الأديرة السريانية, وهم مارإيليا و مارتونا . ويوجد من بين السكان المحليين قساوسة، وهذا ما يشير إليه أسماء هؤلاء القساوسة وهو: مار وائل [50]. ومن المحتمل أن وصول القساوسة من بلاد الشام إلى حضرموت قد جعل بعض النصارى الحضارم يتفرغ لتلقي تعاليم الشريعة المسيحية حتى أصبح قسّيسًا.

     وفي قصر الرناد بتريم أثناء إحدى عمليات الترميم له في القرن الماضي عُثر على قطعة رخامية بها صورة ملاك مجنّح, وهي الشاهد الأثري الوحيد لوجود الجالية المسيحية بحضرموت, لكن مع ذلك فإنّنا لا نملك دليلًا على أن تلك القطعة متصلة بمسيحيي حضرموت بالفعل، أو أنها قد أهديت لهم، أو تمّ جلبها إلى المنطقة كغنيمة حرب من منطقة أخرى. وتذكر بعض المراجع المحلية مثل (البرد النعيم) و(صلة الأهل) أنه في إحدى المرات التي تمت فيها عمليات حفر حول جامع تريم القريب من قصر الرناد  تم مشاهدة قبور موجهة إلى القبلة العيسوية, وبحكم قرب المنطقتين (الجامع والرناد)، وعند الجمع بين الإشارتين (التي تؤكد كل واحدة الأخرى) فإنه من المحتمل أن تكون بتلك المنطقة آثارٌ أخرى لمسيحيي حضرموت .  

     ومن أشهر النصارى الحضارم الذين ذكرتْهم المصادر التاريخية : العاقب عبدالمسيح وهو زعيم كندة بنجران, و أكيدر بن عبد الملك السكوني صاحب دومة الجندل, الذي صالحه الرسول على الجزية, وكان حرملة بن المنذر بن معد يكرب الكندي نصرانيًّا، وكذا كان حجية بن المضرب وبنوه [51].

3/3 شعائر وسلوكيات توحيدية :

     ظهرت بين الحضارم الكثير من الحدود والأخلاقيات الإسلامية المبكِّرة، تعود بجذورها إلى ما هو متعارف عليه من عادات وتقاليد في الجاهلية ومنها :

     أ ـ القسم بالله ودعاؤه عند المهمّات : فقد نقل باحنان عن أبي الفرج الأصفهاني حادثة اختطاف الملك السكوني قيسبة بن كلثوم عند خروجه إلى الحج من قبل بني عقيل؛ حيث مكث عندهم ثلاث سنين مقيّدًا في الحبس وأهل اليمن يظنّون أنّ الجن قد خطفته، فلمّا طال به المقام رفع طرفه إلى السماء وقال: اللهمَّ ساكن السماء فرّجْ ما بي وما أصبحت فيه, ففرّج الله عنه بعد ذلك، في قصة طويلة [52]. و كانت كندة تعرِفُ الأشْهُرَ الحُرُمَ تعظِّمها [53].

     ب ـ الامتناع عن الزنى والميسر وشرب الخمر : وقد ظهر من بين الحضارم من كانت تسمو أنفسهم عن كثير من تلك الآثام مثل عفيف بن معد يكرب الذي امتنع عن الخمر والميسر والزنى وكان يؤمن بالله [54] , وقد عبّر عفيف الكندي عن امتناعه عن الخمر بقوله :

وقالت لي هلمّ إلى التصابي فقلت عففت عما تعلمينا

وودعت القداح وقد أراني لها في الدهر مشغوفاً رهينا

وحرمت الخمور عليّ حتى أكون بعقر ملحودٍ دفينا

وقد علل امتناعه عن شرب الخمر وعمله ذلك بالآتي :

فلا والله لا ألفى ولا شربا أنازعهم شرابا ماحييت
أبى ذاك آباء كرام و أخوال بعزهم ربيت[55]

وكذلك كان قيسبة بن كلثوم السكوني الذي كان منذ نشأته يميل إلى التحنّث والعبادة [56] , وفي النهاية ظفر ذلك التيار بالدخول في الإسلام .

     ج ـ حج بيت الله الحرام : اعتادت القبائل العربية على الوفادة إلى مكة لحج بيت الله بطرق وأساليب وضعوها لأنفسهم , وكانت قبائل حضرموت تحجّ البيت , فكانت كندة تعظّم البيت، وقيل إنهم أفضل مَنْ يحجّ البيت من اليمن , وكانت تلبيتهم ( لبيك اللهم لبيك , لا شريك لك تملكه أو تهلكه , أنت حكيم فاتركه ) [57] , و كانت القبائل العربية في الجاهلية تقسّم إلى عدد من التجمعات الدينية القبلية التي تختلف طقوس حجها إلى مكة حسب ما ذكره الإخباريون الذين عاشوا مع بداية الإسلام ,  فهناك ثلاث مجموعات :

  • قبائل الحمس : وهم القبائل المتشدِّدة في طقوسها .
  • قبائل الحلة : وهم القبائل التي لا تراعي المحرمات كثيرًا .
  • قبائل الطلس : وتضم سكان اليمن وحضرموت وهم بين الحلة و الحمس ([58]).

الخاتمة :

     في القرن الرابع الميلادي حدثت العديد من المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية في حضرموت , ففي تلك الفترة انهار الكيان السياسي لمملكة حضرموت إثر نزاع طويل مع جاراتها ممالك جنوب الجزيرة العربية بالإضافة  إلى كساد تجارة البخور واللبان أهم موارد حضرموت الاقتصادية بعد انتشار الديانات التوحيدية في البلدان المستوردة له , وقد سمح التفكّك السياسي بدخول مجاميع من القبائل البدوية التي كانت تجوب وسط الجزيرة العربية واستقرت بحضرموت محدثة تغيرات في التركيب الاثني والديني للمنطقة  .

     كان لسقوط مملكة حضرموت دور في تلاشي ديانتها الوثنية القديمة المرتبطة بعبادة الإله (سين), وسمح ذلك بتنوع المعتقدات الدينية بحضرموت في القرنين الخامس والسادس الميلاديين بين معتقدات وثنية وتوحيدية , لكن ما يميّزها أنها تعايشتْ جميعًا ومع بقايا الوثنية القديمة,رغم حالة الاضطراب السياسي بحضرموت خلال تلك الفترة والاقتتال شبه المستمر بين القبائل غير أنه لم تسجل حالة صدام مسلح بين الطوائف الدينية، وبقيت في حالة من التعايش الديني حتى ظهر الإسلام وظفر الحضارم بالدخول فيه .

     كان لصلات الحضارم التجارية بممالك ودول العالم القديم دور في التعرف على الديانتين اليهودية و المسيحية , واشتهر العديد من الحضارم الذين دانوا بتلك الديانات .

     مارس سكان حضرموت في تلك الأزمان العديد من الطقوس الوثنية والتوحيدية كدلالة على تعمقهم الديني , وتدل كثرة المعابد المنتشرة في طول حضرموت، والتي كشفت عنها التنقيبات الأثرية على تدين الحضارم منذ تلك العصور, وقد اشتهرت شبوة عاصمة حضرموت الثانية عند الرحالة الغربيين بمدينة المعابد. وكذلك الأشعار التي تنسب إلى مرحلة ما قبل الإسلام بحضرموت تبيِّن مدى معرفة الحضارم  بالطقوس الدينية المختلفة .

     إنّ حالة عدم الوحدة والتفكك الديني الذي عاشه الحضارم في القرنين الخامس والسادس الميلاديين قد ساعد بشكل كبير على تقبّل الحضارم للإسلام وتعاليمه والمشاركة في بناء حضارته في فترات لاحقة . 

     لا تزال الدراسات العلمية في هذا الجانب شحيحة , وهذه الورقة جهد متواضع قام به الباحث للمشاركة في سدِّ الفجوة العلمية عن تلك الحقبة من تاريخ حضرموت, و إنّني أبوحُ بالشكر والتقدير والعرفان لكلِّ من قام بالتوجيه والإرشاد لي عند إعداد أو قراءة هذه الورقة , فهذا عمل بشري ويعتريه النقص والخطأ , ويستسمحني عذرًا كلُّ مَنْ وجد تقصيرًا وكان يطمح لأفضل من هذا، و أسال الله العلي القدير أن يوفق الجميع لكل خير .

قائمة المصادر والمراجع :

أولا :  المصادر العربية :

ـ ابن حجر : العسقلاني , الإصابة في تمييز الصحابة , دار الكتاب العربي , بيروت , د. ت .

ـ ابن خلدون : عبد الرحمن , العبر وديوان المبتدأ والخبر , دار إحياء التراث العربي , بيروت , ط4 , د . ت .

ـ ابن الكلبي, هشام  , كتاب الأصنام , تحقيق أحمد زكي باشا , نسخة الكترونية , د ت .

ـ االهمداني : الحسن بن احمد , صفة جزيرة العرب , تحقيق محمد بن علي الاكوع , صنعاء , مكتبة الإرشاد  , 1990م.

ثانيا : المراجع والدراسات الحديثة :

ـ باحنان : , محمد بن علي ,  جواهر من تاريخ الاحقاف , , دار المنهاج , جدة ,ط1 ,2008م.  

بافقية : محمد عبدالقادر, تاريخ اليمن القديم , المؤسسة العربية للدراسات , بيروت , ط1 , 1985م

ـ بامطرف : محمد عبدالقادر , المختصر في تاريخ حضرموت العام , دار حضرموت , ط2 , 2008 .

ـ الحامد : صالح بن علي , تاريخ حضرموت , مكتبة الإرشاد , صنعا , ط2, 2003م  .

ـ الحسني , جمال محمد , الإله سين في ديانة حضرموت القديمة , دار جامعة عدن , ط 1 , 2014م .

ـ السقاف : عبدالرحمن بن عبيداللاه , ادام القوت , تحقيق محمد باذيب , دار المنهاج , ط1, 2005م  .

ـ السقاف عبدالله محمد , تاريخ الشعراء الحضرميين ,  مكتبة المعارف , السعودية ,ط3 , 1418هـ .

ـ الشاطري : محمد احمد , ادوار التاريخ الحضرمي , دار المهاجر , المدينة المنورة , ط3, 1994م

ـ الشاطري : محمد بن  احمد , ادوار التاريخ الحضرمي , عالم المعرفة , مدينة جدة , ط 2, 1983م .

ـ الشجاع،اليمن في صدر الإسلام , دار الفكر , دمشق , ط1 , 1987 .

ـ طعيمان , علي مبارك , صيد الوعول نشاط مقدس في ديانة جنوب الجزيرة العربية (قديما) , مستند pdf , د ت .

ـ العبدولي : بناجي , قبيلة كندة في صدر الإسلام والدولة الأموية , دار حضرموت , المكلا , ط1, 2010م

ـ علي : جواد , المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام , بيروت , دار العلم للملايين , ط2, 1977 .

ـ فرانتسوزوف سرجيس , تاريخ حضرموت السياسي والاجتماعي قبيل الإسلام وبعده , ترجمة  د عبدالعزيز جعفر بن عقيل , ط1, 2004م .


([1])علي : جواد , المفصل , مرجع سابق , ج2, ص130.

([2])بافقية : محمد عبد القادر, تاريخ اليمن القديم , المؤسسة العربية للدراسات , بيروت , ط1 , 1985م , ص146.

([3])الحامد : صالح بن علي , تاريخ حضرموت , مكتبة الإرشاد , صنعا , ط2, 2003م, ج1, ص14.

([4])الشاطري : محمد احمد , ادوار التاريخ الحضرمي , دار المهاجر , المدينة المنورة , ط3, 1994م, ص60.

([5])االهمداني : الحسن بن احمد , صفة جزيرة العرب , تحقيق محمد بن علي الاكوع , صنعاء , مكتبة الإرشاد, 1990, , ص168.

([6])العبدولي : بناجي , قبيلة كندة في صدر الإسلام والدولة الأموية , دار حضرموت , المكلا ,ط1, 2010م , ص46.

[7]الشاطري ،مرجع سابق ،ص61.

[8]الشجاع ،تاريخ اليمن في الإسلام ،ص36.

[9]الشجاع ،مرجع سابق ,  ،ص45.

[10] بافقية ، مصدر سابق ، ص 202 .

[11] فرانتسوزوف  : سرجيس , تاريخ حضرموت السياسي والاجتماعي قبيل الإسلام وبعده , ترجمة الدكتور عبدالعزيز جعفر بن عقيل , ط1, 2004م , المعهد الفرنسي للآثار  , ص 82.

(([12] العبدولي : بناجي , قبيلة كندة في صدر الإسلام والدولة الأموية , دار حضرموت , المكلا ,ط1, 2010م , ص 48 .

[13])) فرانتسوزوف , تاريخ حضرموت , مرجع سابق ,  ص82.

[14])) العبدولي , مرجع سابق , ص 48.

([15]) فرانتسوزوف , مرجع سابق  , ص 84

[16]))حصن النجير  اختف المؤرخون في موقعه ورجح الكثير انه يقع شرقي تريم .

([17]) ابن الكلبي, هشام  , كتاب الأصنام , تحقيق أحمد زكي باشا ,   ص  108.

[18] فرانتسوزوف , مرجع سابق  , ص 84

[19] العبدولي , مرجع سابق , ص 48

[20] ابن الكلبي, هشام  , كتاب الأصنام , تحقيق أحمد زكي باشا ,   ص  34 . 35 .

[21] العبدولي , مرجع سابق ,  ص 48 .

[22] ابن الكلبي : , كتاب مصدر سابق  ,   ص 18 .

[23] فرانتسوزوف , مرجع سابق  , ص 83

[24] الشاطري , ادوار التاريخ الحضرمي , عالم المعارف , ص 107

[25] بافقية ، مصدر سابق ، ص 204

[26]  ابن خلدون : عبد الرحمن , العبر وديوان المبتدأ والخبر ,دار إحياء التراث العربي , بيروت , ط4 , د . ت , ج2 , ص 276    . فرانتسوزوف , مرجع سابق  , ص 86

[27] بافقية ، مصدر سابق ، ص 204

[28] فرانتسوزوف , مرجع سابق  , ص 86

[29] بافقية ، مصدر سابق ، ص 207

[30])). العبدولي , مرجع سابق , ص 50

[31] طعيمان , علي مبارك , صيد الوعول نشاط مقدس في ديانة جنوب الجزيرة العربية (قديما) , ص 144.

[32] الحسني , جمال محمد , الإله سين في ديانة حضرموت القديمة , دار جامعة عدن , ط 1 , 2014م . ص 150

[33] بافقية ، مصدر سابق ، ص 206

[34]  الشاطري , الأدوار ,  ص 108 . فرانتسوزوف , مرجع سابق  , ص 86

[35] فرانتسوزوف , مرجع سابق  , ص 87

[36], المرجع نفسه , ص87

[37] بافقيه ، مصدر سابق ، ص 206 .

[38] بامطرف ، المختصر في تاريخ حضرموت العام ، ص

[39] طعيمان , علي مبارك , صيد الوعول نشاط مقدس , مرجع سابق , ص 135 .

[40] العبدولي , مرجع سابق , ص 48 .

[41] فرانتسوزوف , تاريخ حضرموت , مرجع سابق ,  ص 89.

[42] السقاف , إدام القوت , ص 284 .

[43] ابن حجر , الإصابة  في معرفة الصحابة, ج3, ص 289 . السقاف , تاريخ الشعراء الحضرميين , ص 48

[44] فرانتسوزوف , , مرجع سابق ,  ص 90 .

[45] العبدولي , قبيلة كندة ,  مرجع سابق , ص82 .

[46] فرانتسوزوف , مرجع سابق ,  ص 91

[47] العبدولي , مرجع سابق , ص49 . فرانتسوزوف , تاريخ حضرموت , مرجع سابق ,  ص82

[48]  بامطرف , المختصر في تاريخ حضرموت العام , ص 16 .

[49] العبدولي , مرجع سابق , ص 49

[50] فرانتسوزوف , مرجع سابق , ص 93 .

[51] باحنان , جواهر تاريخ الاحقاف , ج 1 , ص 125 . العبدولي , مرجع سابق , ص 49 .

[52] باحنان , الجواهر ، ص73 .  الشاطري , الأدوار , عالم المعارف , ص 111 .

[53]  الشجاع , اليمن في صدر الإسلام  , ص 62 .

[54] العبدولي , مرجع سابق , ص 50 .

[55] فرانتسوزوف , مرجع سابق ,  ص89 .

[56]  الشاطري , الأدوار , عالم المعارف , ص 110 .

[57] العبدولي , مرجع سابق , ص 50 .

([58])فرانتسوزوف , المرجع نفسه  ,  ص88. . العبدولي , مرجع سابق , ص 50