إبداع
خالد لحمدي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 6 .. ص 110
رابط العدد 6 : اضغط هنا
تَساءَلَ النجعُ بفضولٍ وهبل ، كيفَ لأرضٍ صغيرةٍ أن تنتجَ كلَّ هذا القمحِ ، وأراضٍ تجاورها لم تنتج إلا قليلاً .
أستجيرُ بالسماء ، من شرِّ ما حسد ..
ربي ، إنَّني لا أنظرُ لما في يد غيري ، ولا أدعو أحدًا سواك .. أنتَ القادرُ والمعطي ، أنتَ الملاذُ والارتكان إليك .
كارثةٌ حينَ تنتحرُ القناعةُ ، ويموت الشكر والحمد ، تحتَ سماء تسامح وتَغفِرُ و لا تعرفُ الخداعَ .
للمرَّة الأولى شعرْتُ أنَّ ثَمَّةَ مَن يفرحُ بهزيمتي وكسري ..
أنا الذي نشأتُ على أرضٍ خشنةٍ وقاسية ، تربَّعـت على عـرش قلبي ، وألبستني النور والحداد ، وطوّقتني بقبور ، تتشهَّى خطواتي ، ولا تشبعُ أو تملّ .
لن أنفضَ من يدي غبارها ، ولن أغسلها إلا متى رغبت ذلك .
قلقي يتنامى ويكبرُ ، أورثني غربةً وذعراً ، وخديعةً تآلفت مع روحي ودواخلي .
آه .. ذهبَ العمرُ وانسرقت أرواحُنا ، وما أمسكنا بشيء حتى انفلتَ منّا ، ولم نحصد سوى الخيبات المتلاحقة .
عواصف مثقلة بالخوف ، تفتحُ الشبابيك وتلقي الذُّعْرَ في قلوب الخائفين .
أغمضُ عينيَّ ، وأخفضُ رأسي ، حتى يذهب الضباب .
أمشي دون توقّف ، ودونَ التفاتةٍ خلفي ، طالما ملكْتُ القدرةَ على التحمُّل ، ومواجهة المفاجآت والانزلاقات القاتلة .
رَحِمَ اللهُ جدّي .. كان لمَّاحاً وذكيًّا .. على الرغم من كبر سنه ، إلا أنّه يقرأُ بعقله كلَّ شيء .
كَمْ أحتاجُه كثيراً ، بعد أن تصوَّرتُ أشياء ، وظهرت عكس ما تصوَّرتُها وحلمتُ بها ، وفاجأتني الدنيا بأشياءَ لم أتوقَّعها ، ولم أنتظرها البتة .
مِنَ الاستحالةِ بناءُ الأرواح وكسبُ ودِّها ومودّتِها ، بالزيفِ والكذبِ ، ونهب عرقها بالادعاءات والإيهامات الكاذبة .
سينفضحُ الكذبُ ، وسيهربُ مطأطئاً ، ولن يتركَ خلفه شيئاً ، سوى حطب محترق ورماد .
أَوَ أكونُ مخطئاً في ما ذهبتُ إليه ..؟
كيفَ ذلك .. والمكرُ يسكبُ غيوثَ زيفِهِ ، والشرُ ينقرُ رؤوس البائسين .
نحن بشر نصيب ونخطئ .. والأجدرُ أَن يعتذرَ مَنْ أخطأوا ، أم لا زالوا يُصِرُّون بأنهم ليسو بمخطئين ..؟
كفى ما سُرِق منّا ، وهل نستطيعُ الحفاظ على ما بقي لدينا ، ومنع مصادرتِه ونهبهِ ، والذهاب به بعيدًا .
أَعلمُ أَنَّ أرضي جرحتني كثيراً ، وعشتُ على ثقة ويقين أنَّ الجراحات والآلام المتواترة لا تضاهي لحظةَ حبٍّ أّقفُ خلالها أمام وجه (العَنِين) الفاتن ، الذي لا يفترُ أو ينطفئ .
لذلك أقولُ بصوتٍ واثق :
– مَن قَتَل عاشقاً غُبناً وقهراً ، كأنما قتلَ العُشّاقَ جميعًا .. فمرارةُ الحُبِّ وقسوتُه ، حين تموتُ كمداً ، وأنت تقاتلُ لنصرتهِ ، وتأتيكَ بغتةً طعنةٌ بظهرك ، فتموتُ وحيدا ، دون أن يضمَّك حضنٌ ، أو يدٌ تمتد إليك .
أيها الحُبُّ ، كيف أطفئُ لهبي وأشعلك ..؟!
كيف أبرّرُ غيابي وانشغالي عنك ، وقد وُصِمْتَ بأبشع التهم التي لا تليقُ بك ..؟ وقد أضحتْ حياتي قرفاً لا تطاق .
صِرْتُ أمْقُتُ مواسمَ البهجةِ ، التي تجرّ الوجع والخيبة ، وتاريخ مثقل بالأكاذيب الماحقة .
خُنِقت القناديلُ وانطفأَ ضَوْءُها ، وطغى الرصاص والموتُ ، بنهمٍ وشراهةٍ فادحة .
تغيبُ وُجُوْهٌ وتَجِيءُ أخرى ، وقلوبنا تَغُوصُ في التذمُّرِ ، وتمتلئُ بالتأسّفِ .. ترتفع الأصوات عالياً ، فتُخنَقُ في مهدها ، ويبقى صداها يحوم ويغرق في التيهِ ، ودروب الضياع .
مضى الزمن ، والمكان سيمضي .. وخوفي ألَّا نجدُ وقتاً لنبكي على أطلالنا ، وقد يفقد الوادي منابعَ مائِهِ ، وتُردَمُ الترع والسواقي ، ولا يقف مستنكر وينادي :
– كيف حدث ما حدث ..؟
وهذا أضعفُ الإيمانِ والتبصُّر ، وبعضٌ مما ينبغي أَن يقال .
زادت الهُوَّةُ ولم يعد لدى أحد القدرة على ردمها ، تباعدت الأرواح ، والكل أصبحَ منشغلاً بنفسه ، ولم تعد عائداتُ الأرضِ تُشبِعُ خُواءَ الأنفس الجائعة .. زادَ سعرُ الديزل ، وصار يصعبُ إيجادُه إلا نادرًا ، والأرضُ عطشى ، وما بقي من النخيل أوشكَ يلفظُ أنفاسَه الأخيرةَ ، وبكى الوردُ حين أحسَّ بدنُوِّ الرحيلِ والسفر .
أحزنني كثيراً خبرُ زواج أحمد ابن عمّي إبراهيم من أختي تهاني .
نَعَم ، هي الآن في سن الزواج ، وطلبَ الكثيرون يدُها ، وهي ترفضُ وأحيانا ترفض أمي وأبي معاً .. كثيرون منهم لا يتعيَّبون ، في طيبتهم وأخلاقهم . منهم مَن هو بدون عمل ، ومنهم من يعملُ ، ومنهم المسافر ، ومنهم من لازال طالباً ، ويتلقَّى مصروفَه اليومي من أبيه ..
مراراً سمعتُ أمي تقول لأبي ، بعد أَن يتقدّمَ أحدٌ لخطبةِ أختي تهاني ويتم رفضُهُ ..
– نريدُ من هو أفضلُ منه .
وكل عريس أفضل من الآخر ، وأمي حريصةٌ على أن يكونَ عريس ابنتها أفضلَ شباب القريةِ. وأولُ شروطها أن يكون يصوم ويُصلّي ، وعلى خلق حسن ، ولا تنظرُ لما يملك من مال ، بل لا تسألُ حتى عن عمله .. وأبي يرغبُ في عريسٍ ميسورة أحوالُه المادية ، وألا يكونَ من خارج عائلتنا الكريمة .
أعلمُ أنَّ عمّي إبراهيم يحبُّ الخير كثيرًا ، وأحمد ابنه ، وتهاني بنت أخيه ، وهي مثل ابنته .. لكني أعرف أن أحمد لا يشبهُ عمّي أبدًا .. ولا أدري كيف وافقَ أبي وأمي وكيف اقتنعت تهاني بأن يكون أحمد عريسها ، وهي التي رفضت شباباً كثراً ، أروع وأجمل خلقاً وديناً ، من أحمد ابن عمّي إبراهيم .
قلت لأبي بتوسل ورجاء :
– كيف قبلتَ بأحمد زوجاً لتهاني ..؟
ردَّ علي بحدّة :
– إنَّه رجلٌ .
قلت بعتب أعلم أَنه رجلٌ .. ولكنَّ الرجال لا يَسْتَوُوْن .
قال وقد عَلَتْ وجهُهُ حمرةً داكنة :
– هو ابن عمّها ، وأولى بها من الغريب .. واللي تعرفه أحسن من الذي لا تعرفه .
قلتُ بخوفٍ وضجر :
– جميع من تقدموا للزواج من تهاني رجالٌ .
ردَّ بصوت غاضب :
– لم يبقَ إلا أَن تعلّمَني الخطأَ والصواب .
قلت له بصوتٍ هامس ، وعبرة تكاد تخنقني :
– أعتذرُ يا أبي .
وأردفتُ بوجع وألم :
– لكَ ما تشاء .
لاحَتْ من عينيه نظرةٌ تجاهي ، شعرت فيها بامتعاضِهِ مما قلت ..
تَمتَمتُ في داخلي :
– اللهُ وحدَهُ علاَّمُ الغيوب .
تركني وحيدا ، وغادرني صوبَ غرفته التي تجاور غرفة أمي ، كمن يقول :
– لن تُقدّمَ أو تؤخرّ كلماتك شيئاً أمره معقودٌ .
لم ينجح أحمد في العلم ، وفَلَح في طولة اللسان ، وإيهام الجميع ، بأدبِهِ وطيبِ خُلُقه.
أنا من أعرفُه ، وأفهمُ سلوكَه جيدا .. وربما يكون قد تقدَّمَ لأُسَرٍ كثيرة ، طلباً في تزويجه بأحد بناتهم ، ومن المؤكد أنهم رفضوه .. لكن لن يسمع منّي أبي كلاماً كهذا .. وما أذهلني وصدمني كثيرا .. أنَّ أمي صار رأيُها موافقاً لرأي أبي ..
أمي التي أضحت لا تطيق عِيشة أبي ، وتمتعضُ كثيرا من كلماته ، ولا تطيقُ له كلمة واحدة .. بعد أن اعتزل الناس ، وخلد في البيت منذّ وقتٍ ليس ببعيد .. حتى المسجد الذي يبعدُ بضع خطوات عن بيتنا صار لا يذهبُ إليه .
سمعتُهُ مرة وهو يحادثُ أحداً عبر هاتفِ البيت ، ويقول بصوت قلق :
– ليسَ عندي شيءٌ لا أحَد .
ثم خفض صوته حين شعر بمروري بجواره ..
وقال بهمس :
– لن أبرحَ بيتي ..
ثم صمتَ دقائق ، كمن هو يصغي لصوتِ مُحدِّثِه .
بعد ذلك ردَّ بغضب :
– هذا ليس وقته الآن ..
ثم أغلق سمَّاعةَ الهاتف ، وأطلَّ برأسه من شبَّاك الغرفةِ ، ثم عاد بنظراته ، وهو في صمتٍ سحيق .
كانت حينها يدُ الإفكِ ، تقتل مناضلي القريةِ وعظماءَها ، وتدَعُهم في الشوارعِ والأزقَّة مضرَّجين بدمائهم .. والأمرُّ من ذلك عدم وصول العدالة إليهم ..
وظل الموتُ يظفرُ كل يوم بضحيَّة ، ويلوذُ هاربا ، دون أَن يلاحقه أحد .
واقع مخيف ، لا أملكُ خلاله سلاحاً ، سوى الاعتناءِ بالزرعِ والحصاد ، وقلباً يقرع كالطبل بين ضلوعي ودواخلي .
أبي لديه سلاحُهُ الآلي ، وجدّي ترك بندقية قديمة ، أجيدُ استخدامَها ، ولم أفكر في حملها يومًا.
لن أخطوَ في مضايق العنفِ والدروب الخاطئة ..
ستقفُ خطاي في منتصف الطريق .. لن أتقدّمَ ، ولن أستطيع العودةَ ..
يباغتني الموتُ ، والانفجارات الشديدة ، بين وقتٍ وآخر .
يهدأ الرصاصُ هنا ، ويلعلعُ في مكانٍ آخر ..
ومع سقوط كُلِّ ضحيةٍ ، تسقطُ دمعةٌ ، وحلمٌ بداخلي يموتُ ويحتضر .
لم يلقِ عمّـي إبراهيم بالاً بما يحدثُ ، وظلَّ مهتماً بالمسجد وما يحتاجُهُ ..
وظلَّ سعيد إماماً وخطيباً للمسجد ، وهدأت أصواتُ الممانعة ، ورضخت للأمرِ الواقع .
ما فاجأني وشَلَّ تفكيري .. هو أن جاء عمّي إبراهيم إلى بيتنا ، وجلس مع أبي وحددا موعد الزواج .
وبدأت أمي وجدّتي ، وبعضُ النساءِ من جيراننا ، في تهيئة البيتِ للفرح ..
وفي الجهةِ الأخرى ، لحظتُ عُمّالاً يدهنون بعضَ غرف بيت عمي إبراهيم بالطلاء .. ولمحتُ البابَ الرئيسي للبيت ، وقد دُهِنَ بلون بُنّي فاتح .. ومُهِّدت الأرضُ التي تَقعُ تحت البيت ، وتَمَّ رشُّها بالماءِ ، وبدا البيتُ يشعُّ بالنور والألوان الزاهية .
زُفّتْ تهاني لأحمد ، بأناشيد البهجة وزغاريد الفرح ، ورصاص يشقّ سكونَ الليل وهدوءه ، ويوقظُ النائمين .
وفي عينَي أمي دمعٌ ودعاء ، ووجهُ أبي يشعُّ زهواً وانبهاراً .
أُغلق بابُهما ، ولستُ أدري كيف ستخوض المعركةَ المستحبّة .
هو لم يلتقِها أو يحادثها ذاتَ يوم .. وهي لا تغادرُ حياءها ، وتعيش في بيت يتسّعُ ويضيق .
ترى كيف هو قلبها الآن ..؟