إبداع
صالح سعيد بحرق
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 6 .. ص 112
رابط العدد 6 : اضغط هنا
أفقت على ضوضاء في الشارع أسفل مني .. كان النهار يتسلّل ببطء شحيح إلى غرفتي، يكتسح بقايا الليل، وينشر بهجته التي تصطدم بمخلفات تلك الليلة، ومازال هناك على مبعدة مني خيال ليلى، يفد مع تباشير الصبح، وتذكّرت على التوِّ كيفَ كانت تقف شاحبة تتعثر في طريقها كلما همت بالمشي ؟!.
إنَّ المرء دومًا ما يشرع في تتبع أشيائه الصغيرة، التي يكون بمعزل عنها لا لشيء وإنما لتكون حاضرة قريبة من متناوله، فمن دفء تذكارها تنهمر أمطار السعادة والجمال. وهنا دَنَوْتُ من حافة الحلم الجميل ذاك، وهبطت طرق عدّة موحشة بالذكرى، وجاءني من الخلف على نحوٍ مُوَازٍ صوتُ ليلى من الغربة :
وضحكت .. انتابني فرح عظيم .. أوشكت على السقوط أرضًا، وكان الصباح حالكًا في ذهني، تتمطى في أفيائه كائنات مرعبة تخيفني، فأزيح عن وجهي بقايا الليل لأقع في شراكها من جديد.
وتناوشتني عدة أسئلة صعبة : كيف عُدْتُ تلك الليلة الى ليلى؟! وكيف جلسْتُ على حافة سريرها مرعبًا يندى جبيني بالعرق؟! وكيف نهضَتْ وربتت على كتفي وانهالت عليّ بالقبل، كنْتُ صامتًا يفجعني البؤس، ويربكني الانتظار والوجل، ويعشّش في ذاكرتي الليل والخوف وانعدام الامل.
فتّشت في جيوبي عن علبة التبغ فلم أجدها، نظرت الى الصور المعلقة بغرفتها، نظرت إلى فساتينها وشعرت بقليل من الفرح، وتجلّت لي ليلى في الليل كقمر ناصع مريب.
بدأ جسمي يترهَّـلُ قليلًا، وبدأت الشيخوخة تزحَفُ الى شَعَرِ رأسي، وبدأ القلق يتعامد في أمكنة الروح، ويهفو بي الحنين فلا يَجِدُ له ذلك المتسع القديم فأجنح إلى مساقط الوهم والذكرى، فألاقي اليأس يعربد في أنحائها يظهر تارة ويغيب.
كان الصباح قد بدأ يفتح شهيتي للنزهة قليلًا، وكانت الشمس تعانق زُجَاجَ نافذتي المتسخ، فنزلت إلى أفياء قريبة من العمارة فبقيت في الأسفل. كان إيقاع الحياة بطيئًا في البدء، وكانت عتمة الليل لمَّا تزلْ في ذهني، وكانت تسمح بمرور عجلة الصباح إلى مخيّـلتي، فتصبح الأشياء داخلها داكنة، وكانت ثمة سحب في السماء تغادر مربَّعًا أزرق باهتًا لتتجمَّع بشكل داكن أيضًا، وكانت المَحَالُ قد تسلَّل إليها ضوءُ النهار فلامستْ أبوابَها وأرجاءَها، ورأيت كيف أن الناس كانوا يهرعون إلى أشيائهم وفكَّرْتُ هلْ من أُمنية لي؟ فأطلَّتْ في معاطف السؤال ليلى من جديد:
وأذكرُ أني ضمَمْتُ يدَها إلى يدي، فَرَاحَ لهيبُ الشوقِ يفترسُ رغبتي المكبوتة، ولمَّا أنْ رجعْنَا كان في عينيها بعضُ شوقٍ ورغبة ، لكنَّني كُنْتُ لا أنالُ شيئًا من هذا، فكُنْتُ كلَّما جنحْتُ إلى ملاطفتها يَغزُونِي ليلٌ عقيمٌ من الشجَنِ فأقعُ فريسةً له.
ويَنْهَمِرُ بي خوفٌ فأتحسَّسُ الأشياء من حولي بُغْيَةَ ألَّا أفقدها، كان الشارعُ قد اكتظَّ بالناس، وبدأت الشمسُ تَسْطَعُ بشكلٍ أقوى، واقتربْتُ من مصنع الخُبزِ، وسلَّمْتُ على العم محمود وأنا أتناولُ أرغفتي، وأنظرُ إلى قَـوَامِ امرأةٍ شابَّةٍ، وأطرُدُ خيال ليلى، وأرنو إلى الرصيف الداكن.
وفكّرْتُ إلى متى يسحقني هذا الليل الذي يخرجُ من بطون المأساة، ويتربّع عرشَ قناعاتي ولا يفيقُ إلّا على صحوي في ليالي التِيْهِ، أنا المسكونُ بالليل أينما يمَّمْتُ، المتَّـشِحُ بسواده، القابضُ على جمر اتِّـقادِهِ، كيفَ لي أنْ أتصالحَ معه أنْ أُحِبَّهُ؟ أنْ أدْخُـلَ بيوتَه الموبوءة بالحزن والمتسربلة بالظنون؟ وهلْ لِـكُـلٍّ مِنَّا نحنُ البشرُ ليلُه؟ لكُلٍّ مِنَّا تَرَقُّـبَاتُـهُ وحَـدَسُهُ بالليل؟؛ إذْ يَـفِـدُ الأملُ رُوَيْـدًا رُوَيْدًا من صحراء اليأس لِـيُعَانِـقَ بعضَ رُسُومِ فَـرَحٍ مُنْـدَثِـرَةٍ على أصقاعِ الروح.
أخذْتُ أرغفةَ الخُبزِ ومضَيْت، كُنْتُ وأنا أسِيرُ أتذكَّـرُ أغنيةً قديمةً بدويَّـةً، كانتْ تَـرُوقُ لِي كلماتُها، كُنْتُ أجِدُ نفسي مُندَفِعًا لترتيل كلماتها على إيقاعات هذا الصباح لأختبئ في ظلال داكنة هادئة.
كان الأفُـقُ هو الآخر داكنًا، يَـهَـبُـنِـي صراعًا متقطِّعًا مع الحُزْنِ، ويُخِيفُـنِي كُـلَّما يمَّمْتُ جهةً ما لأمشي كانَ يَسبِقُـنِي بالتساؤلات وبالفَـقْـدِ المُستَمِرِّ للفرح، فلا تُـنْـقِـذُنِـي إلّا ليلى؛ إذْ تُمْطِرُ عَليَّ بشارَتها وأنا أجتازُ دَرْبًا مُكْتَظًّا بالناس :
واقتربْتُ من الوصول إلى منزلي، وكنْتُ أتلكَّـأُ لأسَلِّمَ على جارتي، لكنّها كانتْ قد مَرَقَتْ مُسْرِعَـة من أمامي منْ غيرِ أن تلتَـفِـتَ إليّ، فحَزِنْتُ لأنّي لم أسمعْ صوتَها ولاسيَّما أنّها كانت لها نبرة خاصة في الصباح مَشُوبَةٌ بالحُزْن.
كان منزلي يتوسّطُ مجموعة من المنازل، وكانَ إيجارُه مرتفعًا، أدفَعُه كُـلَّ شهرٍ من شركة الاتصالات، التي كنْتُ أعمَلُ بها؛ إذْ كنْتُ عاملًا فنِّيـًّا في الخُطُوطِ، أعمَلُ برفقةِ موظفتَيْنِ من عدنَ جميلتين هدى وبركات، وكانت بركاتُ تميلُ إلى محادثتي لتتحصّلَ على بكْتِ التدخين، وأمّا هدى فكانت طِوَالَ الوقتِ صامتةً، كانتْ أكثرَ امتلاءً، وأكثرَ نظارةً، عيناها تُحَاكِيَانِ شطوطَ صيرة، وخَدَّاها يَمْنَحَانِي دِفْئًا لنْ أنساه .. بَيْدَ أنّها كانتْ تُخْفِي حُزْنًا وألَمًا، وتُعَايِشُ ليلًا مثلي لا ينتهي .
كانَ العملُ يجري بوتيرةٍ سريعةٍ كلَّ يومٍ، ولا تنقطِعُ الطلبات، وكانتْ بركاتُ على الآلة الكاتبة مُغْـرَمَةً بِشُربِ الشاي، تظهرُ عجيزتُها من الكرسيِّ الخشبيِّ المتهالِكِ، الذي كنْتُ أتوقّعُ أنْ يهوي بها يومًا، وبالفعل سقطتْ ذات يوم على الأرض، كنْتُ خارجَ الشركةِ في مُهِمَّةٍ عندَما وصلني الخبر، جرَيْتُ بِكُلِّ قُـوَّتي، ولكنِّي كنْتُ قدْ وجدْتُهَا قدْ غادَرَتْ ولم تبق إلَّا حقيبتُها، التي بداخلها عِطرُها المميَّزُ، وقالتْ لي هدى لمّا لاحظتْ اهتمامي :
ثم انخرطتْ في بكاءٍ هستيريٍّ عميق …
وفي الليلِ كُنْتُ أعُودُ وحيدًا إلى منزلي، لا تستهويني إلّا لحظاتٌ منصرمةٌ من العمر، ولا تَجُولُ في سَمَائِي غيرُ سُحُبِ الرَّجَاءِ والانتظار، وكانَتِ الطُّرُقَاتُ شِبْهَ خاليةٍ، وكانتِ الأصواتُ من جهةٍ بعيدةٍ تُسْمَعُ ولا أرى أحدًا يَمْرُقُ الشارعَ إلّا كِلَابُ الليلِ، وقدْ تعلّقَ بي أمَلٌ حِينَ وَصَلْتُ قُـرْبَ المنزلِ، ورَاحَتْ أصداءُ الماضي تَنْهَمِرُ بِيُسْرٍ حِينَ شقَقْتُ الظلامَ، وأدَرْتُ المفتاحَ، ودخلْتُ طرَفَ الشُّـقَّـةِ، يَا لَـلْهَوْلِ! كانَتْ صورةُ ليلى ماثلةً أمامي لا تَزُولُ، تَصْعَدُ الدَّرَجَ الحَجْرِيَّ معي، وتُـوْمِئُ بِرَأسِهَا معي، وتُنْشِدُ الشِّعْرَ إذا أنشدته معي، وتَهْمِسُ معي للخوفِ لليلِ للجمالِ داخلي، تُضِيْءُ رغْمَ العتمةِ، تُشْرِقُ رغْمَ الكآبةِ تَرْكُضُ رغْمَ مَسَافَـةِ العذاب.. وتُخَاطِبُنِي كُلّما ولجتْ سماءَ الحُبِّ، وكُلّما ظللْتُ أنتظِرُ أنْ تُفِيْضَ عليَّ بِحُبِّهَا قالتْ لِيْ مِنْ لَـدُنْ جِـدَارِ الصَّمْت:
وتَـلاشَى صوتُ ليلى عبرَ جدارِ الصمتِ، وولجْتُ المنزلَ وحيدًا، وقد اضطربَتْ قِـوَاي ، فارْتَمَيْتُ على السرير بقسوة، ورُحْتُ أعُـدُّ عِيْدَانَ السَّقْفِ كعادتي قبلَ أنْ أنام …
وفي الصباح كانتْ هدى تستقبلني بابتسامة، وترى شُحُوبَ وجهي، وتناولني كوبَ الشاي، وتجلسُ على طرفِ المِنْضَدَة، وقد انسدلَتْ خَصَلاتُ شَعْرِهَا، وضجَّ جسدُها بالأنوثة والجمال، وتحرَّكَ في داخلي ظمأُ الحنينِ، واستفاقتْ مروجُ الشَّوقِ والحُبِّ، وتصادمتْ رغباتُ الليلِ والصباح فاقتربْتُ منها، وشمَمْتُ عِطْرَهَا، نظرْتُ إلى الخَلْفِ وإلى الأمامِ فوجدْتُ نفسي أمامَ فتاةٍ مشتعلةٍ بالحُبِّ والرغبةِ، وكانتْ على الجِدَارِ ثمَّةَ لوحةٌ للطبيعة وأنا أقترب من هدى، كانت الأغصانُ تقترِبُ من بعضِها، والرِّيحُ تَـعْـبَـثُ بها، وكانتْ هُنَاكَ على الأطرافِ أزهارٌ تتفتَّحُ، ونهرٌ يجري بقوة، وشلّالٌ أبيضُ من الماء يتقافَـزُ على التِـلالِ الظامئة، وهدى قد استحالتْ إلى رقة من شجرةٍ عُـرَاها الخريف .. وتتبدّلُ في ذهني الفصولُ، ويقترِبُ العُمْرُ منْ لحظاتٍ حاسمةٍ، لكنّ الليلَ المُـوَارِبَ لِي يَفْجَعُنِي، يمتَصُّ كُـلَّ هذه الآمالِ، ويُبْقِينِي في شَرَكِ النَّجْوَى والانتظار، فأهْـفُـو إلى ميلاد قصيدةٍ من شتاءِ العُمْرِ والنسيان، وأوَدِّعُ هدى على الباب وهي ما تزالُ تُطَارِدُ ذلك الخُمُولَ الذي اكتسَحَ جَسَدَهَا حينِ قَـبَّـلْـتُـهَا، ثمَّ نهضَتْ إلى مكتبِهَا، وخرجْتُ في إثرِهَا إلى الشارع .. كانتِ السَّمَاءُ التي تُظِلُّنِي داكنةً، وكنْتُ أحَارِبُ بقايا الليلِ والخوفِ فلا أستطيعُ إلّا أنْ أكونَ وحيدًا مع هواجسَ مستَمِرَّةٍ، لكنَّنِي لمّا الْـتَـفَـتُّ إلى الوَرَاءِ رأيْـتُ الشَّمْسَ تُـرْسِلُ أشعَّـتَـهَـا بقُـوَّةٍ على الوُجُود.