تراث وآثار
د. حسين أبوبكر العيدروس
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 7 .. ص 30
رابط العدد 7 : اضغط هنا
(ملخص محاضرة ألقيت في مركز حضرموت للدراسات أثناء ندوة المعالم الحضارية لحضرموت القديمة حتى فجر الإسلام)
دكتور/ حسين أبوبكر العيدروس
مدخل:
لا شك أن الفنون تعتبر من أهم المصادر التاريخية، فهي المرآة العاكسة لمختلف جوانب الحياة على ممرِّ العصور، بل كانت أساس المصادر في دراسة عصور ما قبل التاريخ على وجه الخصوص. فقد أمدّتْنا بالكثير من المعلومات عن الحياة الدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فمن خلالها تعرّف الباحثون على بعض رسوم وتماثيل ما عُرِف بالآلهات والحكام والشخصيات المميزة في المجتمع، بالإضافة الى معرفة هيئات أجسامهم والوضعيّات المتكرِّرة، التي ربما تكون ذات صلة شبه مؤكّدة تتعلّق بـالشخصيات (المقدسة أو الرسمية) وما في حكمها، بالإضافة إلى أنّها أوضحتْ بعض المعلومات الأخرى مثل الملابس، الأدوات، الأسلحة، الرموز والشعارات، النباتات، والحيوانات، والطيور، التي يستخدمونها أو يتعاملون معها في حياتهم، وصولًا إلى الكثير من ملامح تفكيرهم وعقائدهم، وإلى غير ذلك من المعلومات المهمّة التي يمكن الوصول إليها.
وحسب عِلْمِنا فإنّ موضوع دراسة الفنون في حضرموت القديمة بشكل خاص لم يُدرَسْ دراسة منهجية في بوتقة متكاملة بعد، ورُبّما تمّت دراسة نماذج لبعض القطع الفنية – من فترات مختلفة – سواء تلك التي كانت تأتي عن طريق نبش المواقع الأثرية، أو عن طريق المسوحات والتنقيبات الأثرية المنظمة من قِبَل البعثات العلمية التي عَمِلت في حضرموت.
وحتى نستطيع أنْ نُـلِـمَّ بمختلف الفنون التشكيلية، علينا أنْ نحدِّدَها ضمن إطارات زمنية/ تقنية، ونضعَ لها هيكلاً تفصيلياً على النحو الآتي:
وتحت هذا الإطار الزمني تنضوي جميع الفنون التي أنْتِجَت في مرحلة ما قبل التاريخ، وأقدم ما لدينا يعود للعصر الحجري الحديث (حوالي 8000 سنة) مثل:
خلال عصر الكتابة ظهرت نماذج متعدِّدة للرسوم الصخرية متلازمة مع كتابات بخط المسند الجنوبي والخط الثمودي، يمثل تسجيل ذكريات متواضعة لأسماء أشخاص ربّما يتعلّق بالقوافل التجارية والأحداث الحربية وغيرها، ومن هذه النماذج ظهرت على أشكال مختلفة منها:
في أصل الفنون وبداياتها:
لو تطرّقنا لهذا الموضوع بإسهاب فإن الأمر يحتاج إلى كتب ذات أجزاء متعدِّدة، ولهذا فإننا سنقتصر على خطوط عريضة فقط، ومن أراد الاستزادة فالمراجع بهذا الخصوص كثيرة. فمن المعتقد أن نشأة الفنون أساساً قد ارتكزت على عاملين أساسَيْنِ، كان لهما الأثر الواضح على تشكُّل الفنون وتطوُّرها عبر التاريخ في مختلف مناطق العالم وهما:
أقسام الفنون وتصنيفاتها:
وبالنسبة للفنون في حضرموت القديمة يمكن تصنيفها إجمالًا إلى ثلاثة أقسام رئيسة، بناءً على طابعها وطرق صناعتها أو السمات الفنية لها، وهي:
وممّا يذكر أنّ أحد ملوك حضرموت قد استورد تماثيلَ برونزية من اليونان في حوالي القرن السادس ق. م (عقيل 2010: 37). ولذلك فقد انتقلت الكثير من أسماء المعبودات الأكثر شهرة في مناطق الشرق القديم إلى بلاد جنوب الجزيرة العربية (اليمن)، ومنها على سبيل المثال (سين، عثتر …..).
تم عمل هذه الفنون سواء رسوم أو تماثيل في الأصل لِـتُـقَـدَّمَ كإهداءات نذرية، فكانت مُكرَّسةً لِمَا عُرِفَ بالآلهة كما تفيد بذلك النقوش المدوَّنة على بعضها، ووضع بعضها في المقابر مثل مقابر (غيل بن يُمين) و(الهضبة الجنوبية)، وأخرى وُجِدَتْ بين أنقاض مبانٍ قديمة من العصر البرونزي كما هو في موقع (راوك) والتي ربّما تتعلّق بما عُرِف بآلهات الخصب والمطر، و في الفترة التاريخية منها ما يتعلّق برسم أو نحت الكائنات الأسطورية، أو طقوس الصيد كما في نحت (حصن العر) ورسوم (البرقه) و(جوجة) وغيرها التي تمثِّل مهمّتها كما فسّرها بعض الباحثين وهي للحماية والحراسة، وأن أجنحتها القوية تتخطّى المسافات الطويلة، بالإضافة إلى رمزيتها كحَـدٍّ فاصل بين الحياة والموت (عقيل 2010: 162).
أقدم المواقع في حضرموت:
اكتُشِفَتْ بواسطة البعثة اليمنية السوفيتية المشتركة عددٌ من مواقع عصور ما قبل التاريخ في حضرموت، من بينها موقعان يحتويان على أدوات حجرية، يعود تاريخها إلى عصر أولدواي (Oldvai)، وهو أقدم مرحلة من مراحل العصر الحجري، إلى جانب الكشف عن أول آثار لكهوف من العصر الحجري القديم، يتم العثور عليها في الجزيرة العربية (غريازنيفسكي 1988: 223، 224). أبرزها “كهف القزه” و”كهف الأمير”، في وادي “دوعن” بغرب حضرموت.
يؤرّخ “كهف القزه”، بناءً على الأدوات الحجرية القديمة، الى البلايستوسين الأدنى والأوسط، أي منذ 700,000 سنة من الوقت الحاضر (Amirkhanove 1991: 343; 1994: 221,222 ؛ أمير خانوف 1984: 17، 18؛ 1985: 24، 25؛ 1986: 14). غير أنه لا وجود لأية رسوم على جدرانه. كما كشفت البعثة الفرنسية في الجول الشمالي (وادي وعشة) أقدم وأكبر ورش لتصنيع الأدوات الحجرية، تعود للعصر الحجري الحديث. ثم تأتي أقدم الرسوم الصخرية التي تمّ الكشف عنها في أعالي (وادي بن علي)، وتمّ تأرختها إلى العصر الحجري الحديث (8000 سنة)، وتمثل رسومًا ملوَّنة لطبعات الأيدي.
هناك فجوات كبيرة في تاريخ الفنون في حضرموت القديمة، لاسيّما في عصور ما قبل التاريخ، ومازالت غير واضحة تمامًا، وربّما يشير ذلك إلى وجود هجرات طويلة، والأمر مازال قيد البحث والدراسة. أمّا خلال العصر التاريخي فقد تنوّعت الفنون بشكل يمكن معه معرفة أصولها ومصادرها والتأثيرات التي ظهرت على بعضها، في حين تجسّدت الفنون ذات الطابع المحلي، وظهرت نماذج متعدِّدة منها، مثل الرسوم الصخرية (رسم، نقش، كتابة)، وفنون الرسم على الفخار وغيره، وفنون النحت على الحجر والرخام والخشب وزخارف تزيين العمارة، وفنون صب البرونز بأنواعها المختلفة.
فن الرسوم والنقوش الصخرية:
الرسوم والنقوش الصخرية: ينقسم هذا الفن الى مرحلتين :
رسوم صخرية بأساليب مختلفة: تنوّعتْ أساليب تنفيذ الرسوم والمواد التي يتم التنفيذ بها، ومن الأساليب:
الرسـم بالألوان على الفخــار: من النماذج الجميلة التي تدلّ على رقيّ الفن وتطوُّره في حضرموت القديمة، تلك الكسر الفخارية التي استُخْرِجَتْ من حفريّاتِ موقع (ريبون)، عليها رسوم وعول رُسِمَتْ باللون الأحمر.
النحت في حضرموت القديمة: عرف الحضارمة منذ عصور ما قبل التاريخ فنون النحت، بأنواع متباينة منها (النحت الكامل، النحت الجزئي)، وأبرز ما تركه لنا في النحت الكُلِّي تلك التماثيل الصغيرة التي تمثل أشكالًا آدمية من موقع (راوك)، تعود للعصر البرونزي، ومن نماذج النحت الجزئي تماثيل الشواهد القبورية من العصر الحجري النحاسي من مواقع مثل (مواقع غيل بن يُمين، موقع بايوت، موقع عَرَف، موقع سُونَة).
وخلال العصر التاريخي لا شك أنَّه قد تطوَّر فنُّ النحت من حيث ازدياد المواد، ومن حيث التقنية، ومن حيث رمزية المنحوتات، فظهرتْ منحوتاتٌ رخامية وحجرية وتماثيل فخارية وأخرى معدنية، بالإضافة إلى كثرة استخدام النحت للزينة المعمارية ولأدوات مختلفة الاستخدام، مثل: الموائد والمطاحن والمساحق وغيرها. وعُرِف النحت الجزئي مثل (نحت شواهد القبور، نحت اللوحات الجدارية)، بالإضافة إلى المساند المكتوبة بخط المسند، الذي اتّخذ أشكالًا مختلفة، تطوّرَ خلالها رسم الحروف تطوُّرًا منضبطًا بحيث استدل الباحثون على تطوُّرِه في تأرخة المواقع والأسماء والأحداث، وتمّ تشكيل وصب البرونز لعمل الأواني المنزلية والمعدات والتماثيل المتنوعة (الأدمية والحيوانية) مختلفة الأحجام (الصغيرة والكبيرة) بأشكال وأساليب فنية متنوعة.
الخـاتمــــة:
تُـعَـدُّ الفنون من أهم مصادر كتابة التاريخ، وما زلْنا نطمح إلى المزيد من البحث الدقيق والمتخصص في مجال الفنون بشكل عام، ففيها تكمن الكثير من المعلومات المهمّة التي يسعى الباحثون للحصول عليها.
وما استعرضناه هنا ليس إلّا النَّزْرَ اليسيرَ ممّا يمكن أن يحدِّدَ لنا الخطوط العريضة لأهمية الفنون في قراءة التاريخ، فهي المعطيات التي تربطنا بالمعتقدات القديمة والأساطير التي كان لها الأثر البالغ في حياة الشعوب القديمة. ففي حضرموت القديمة وغيرها من المناطق الأخرى شهدتْ تطوُّرًا ملموسًا في شتّى مجالات الحياة، ومنها الفنون التشكيلية بمختلف فروعها وتقسيماتها، ومن الواضح أنّها كانت تمتلك صلات بمناطق أخرى أبعد مثل بلاد الرافدين ومصر وبلاد الشام وبلاد الأغريق والساسان، فضلًا عن اتصالها بالمناطق القريبة من محيطها الجغرافي في شبه الجزيرة العربية، التي تشترك معها في كثير من السمات مع وجود سمات خاصة بها.
خلال هذا العرض تمّ التطرُّق لنماذج مختارة ومتنوّعة وبارزة، ولم تستعرض كلَّ التصنيفات، أو الموجودات والمعثورات في حضرموت القديمة بحكم اتساع الرقعة الجغرافية والفترة الزمنية، واقتصرنا على منطقة جغرافية محدَّدة وهي (وادي حضرموت والهضبة)، بينما استبعدْنا من هذا العرض والإطار الجغرافي المعروف لحضرموت القديمة، الذي يضمُّ المناطق الساحلية ومناطق شبوة غربًا، ووصولًا إلى ظفار شرقاً، وكذلك جزيرة سقطرى، وكل تلك المناطق تزخر بالكثير من الفنون المتنوعة، مما سيجعل المادة واسعة لا تتسع لها صفحات المجلات المحدودة.
نأمل من الباحثين في هذا المجال التركيز على دراستها دراسة مفصلة وربطها بالمواقع الأثرية، فمشكلة دراسة الفنون في اليمن القديم تكمُن في أنّ معظم القطع الفنية قد جاءت بطرق غير شرعية، أو بطريقة غير علمية، فأكثرُها جاء عبر نَـبْـشِ المواقع، الأمرُ الذي أفقدَها أهميّتها العلمية، وربّما أدّى إلى التشكيك في مصداقية انتمائها الثقافي.
وأخيرًا وليس آخرًا، نتمنّى أن يقدِّم عرضُنا هذا فكرةً ولو يسيرةً عن تصنيف الفنون في حضرموت القديمة، التي تعطي فكرة عن تطوُّرِها منذ عصور ما قبل التاريخ حتى ما قبل الإسلام. كما أنّنا لم نتوسّعْ في مسألة التأرخة أو مناقشة الأساليب الخاصة بالصناعة، فهذا الموضوع يحتاج إلى كثير من الوقت والمساحة لمقارنة الأدلّة وبرهنتها؛ لأن المؤثرات في فنون حضرموت متعدِّدة، ومنها على سبيل المثال ما هو من بلاد الرافدين، ومصر، واليونان، وفارس، وغيرها. ونأمل أن نكون قد قدّمْنا عرضًا يُلقِي بعضَ الضوءِ على ملامح هذه الفنون، يهدف الى إنعامِ النظر وتسليطِ الضوءِ حولَها من جديد، فهي بحاجةٍ إلى إعادةِ قراءةٍ مرَّةً أخرى.