مدارات
الشيخ/ أمين سعيد عوض باوزير
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 7 .. ص 72
رابط العدد 7 : اضغط هنا
كانت عدن كغيرها من الموانئ العالمية القديمة والوسيطة والحديثة ملتقى لتجار الشرق والغرب، وقد كانت وسيطًا تجاريًّا وثقافيًّا ممتازًا لموقعها الاستراتيجي العام، ولأنَّ التجارة من العوامل المهمة لنقل الثقافة وتبادل المعارف بين الشعوب، لذلك نرى أنه خلال فترة ازدهار عدن تجاريًّا كانت مزدهرة ثقافيًّا؛ حيث كانت المدينة تعجُّ بالعلماء ودور العلم, فالتجارة دائمًا وأبدًا تستمر بصحبة الثقافة، لذا رأينا التجَّار (الحضارم) يغرسون بذور الدين الإسلامي والثقافة الإسلامية في جنوب شرق آسيا كالهند وإندونيسيا وبورما وماليزيا والصين.
وهكذا كان أجدادنا الأوائل قد وفّـقهم الله عزوجل، فاسهموا في إرشاد غيرهم إلى دين الحق, وأوقفوا حياتهم على نشر دعوة الإسلام في جميع أصقاع الأرض، فظلّت عدن تنعم بنعمة الإيمان مهتدية بهدي ربها متبعة تعاليم دينها الإسلامي الحنيف.
وبما أن مدينة عدن هي ثغر اليمن الباسم والمدينة العامرة من آلاف السنين وسوق من أسواق اليمن السعيد بما تملك من بيئة جاذبة للعلم والعلماء والزوَّار والمهاجرين من المدن والقرى كافَّة؛ حيث يحبُّ الإنسان أن يقيم في مثل هذه البيئة التي تهيئ له سبل العيش والطمأنينة والأمن و الاستقرار، فقصد هذه البلاد من قصد، وتوطَّن بها للأبد, فأصبح جزءًا منها وأصبحتْ جزءًا منه.
وفيما يلي تراجم لبعض هؤلاء العلماء الأعلام ودعاة التنوير من غيل باوزير الذين رحلوا إلى مدينة عدن وهم:
محمد بن أحمد باحميش 798هـ ــ861هـ
ولد الإمام العلامة القاضي محمد بن أحمد بن عبد الله باحميش بغيل باوزير سنة 798هـ , كان أحد كبار العلماء والمشاهير الفقهاء من القرن التاسع الهجري، كما كان أحد أعلام الفتوى ورجال التربية والتعليم في عدن .
درس عليه وانتفع به خلق كثير من أجلِّهم الإمام محمد بن أحمد بافضل, والعلامة عبد الله بن أحمد بامخرمة، والأستاذ حمزة الناشري وغيرهم.
دخل عدن بعد أن اشتهر بالفقه سنة 816هـ، ونزل حافة ( البصَّال )، وأقام أولاً عند القاضي عمر بن محمد اليافعي، ثم استقل بداره.
من مشايخه في عدن الفقيه علي بن عمر بن عفيف الحضرمي، والقاضي عمر بن محمد اليافعي وغيرهما.
تولى القضاء في عدن والتدريس في مسجدنا المبارك ( مسجد البصال ) في أواخر دولة بني رسول , وفي أول عهد الدولة الطاهرية فصار قاضي القضاة في عدن.
وله عدة مؤلفات منها :
وكانت وفاته في شهر رمضان سنة 861هــ ، ودفن في المقبرة نفسها التي فيها جثمان الشيخ العلامة محمد أحمد الذهيبي المسمى بالبصَّال وكثير من العلماء، أمثال القاضي علي بن عمر بن عفيف الحضرمي، والقاضي تقي الدين عيسى بن محمد اليافعي، وأولاده عمر وعلي، وغيرهما من الأفاضل.
وقد وردت إشارة طيبة و رائعة ومباركة لمسجدنا (مسجد البصَّال ) بعدن سجّلها المؤرخ العلامة الشيخ الطيب بامخرمة في كتابه ( تاريخ ثغر عدن) في صفحته رقم 199 وهي كما يلي:
قال بعض الصالحين إذا زارهم قال: ( هذه التربة روضة من رياض الجنة ).
وهذا من فضل ربنا وتوفيقه أن جعل لمسجدنا ( البصال ) ميزة خاصة وعظيمة دون سائر مساجد عدن لله الحمد و الشكر .
محمد بن أحمد بافضل
840هـ ــ903هـ
ولد العلامة محمد بن أحمد بن محمد بافضل بتريم، ونشأ بغيل باوزير؛ حيث قرأ القرآن الكريم, ولزم الفقيه محمد بن علي باعديلة، و أخذ عنه الفقه وفي غيل باوزير أيضا قرأ ( الإحياء) للإمام الغزالي، ثم ارتحل إلى عدن، ودرس الفقه على يد الإمام محمد بن أحمد باحميش، و الحديث و التفسير على يد القاضي محمد بن مسعود باشكيل.
تولَّى القضاء والتدريس بعد وفاة أستاذه باحميش , وقصده الطلبة من جميع أنحاء اليمن.
له مؤلفات كثيرة منها:
وقد توفي رحمه الله في عدن سنة903هـ.
عبد الله محمد باوزير
1299هـ ــ1354هـ
ولد العلامة الشيخ/عبدالله محمد عبد الله بن عوض بن عمر بن طاهر باوزير بمدينة المكلا سنة 1299هـ 1881م، ونشأ بها تحت رعاية والده.
فقيه, داعية, خطيب, صوفي.
تعلم القراءة والكتابة، ثم قرأ على والده الشيخ محمد وعلى بعض شيوخ العلم بالمكلا المقررات الدينية.
بعد عودة الشيخ/محمد عمر بن سلم من مصر إلى الشحر سنة1311هـــ1839م وتخرُّجه على كبار مشايخ الأزهر الشريف، وتصدِّيه للوعظ والإرشاد بمساجد الشحر، وجلوسه للتدريس بمسجدي عيديد وابن عمران، قصده الشيخ عبد الله في أول زيارة له إلى خارج المكلا، وبدأ دراسته عليه وظل ملازمًا له.
وأقام الشيخ بإحدى غرف الرباط والمعهد بغيل باوزير المخصصة لإيواء الطلاب الغرباء ليكون قريبًا من شيخه, وبقي في الغرفة حتى وفاة شيخه الذي كان قد ابتنى له منزلًا خاصًّا مستقلًّا عن المعهد.
مارس مع ذلك الوعظ والإرشاد وإلقاء الدروس في مساجد المدن والقرى القريبة، وكان ذا قدرة عجيبة على الوعظ والإرشاد والتأثير بالناس, فأحبّه الناس وتزاحموا على دروسه ومواعظه.
وكان حسن الصوت يجيد ترتيل القرآن الكريم، وكثير الخشوع عند قراءة القرآن، وربما قرأ في الصلاة بعض السور الطويلة وودَّ المصلون لو أنَّه يطيل ويطيل .
كان سريع البديهة، قوي الحجة خصوصًا لدى دخوله في بعض الخلافات والمناكفات، وكان يصدع بكلمة الحق، ولا يخاف في الله لومة لائم.
رفض ولاية القضاء الشرعي في المكلا التي كلفه بها السلطان عمر بن عوض القعيطي في عهد الوزير حسين بن حامد المحضار، وغادر المكلا إلى صور بعمان وبعد شهر توجَّه إلى مدينة عدن .
وفي قلب مدينة عدن يقع مسجد (بانصير)، وهو مسجد صغير متواضع قام ببنائه في مطلع القرن الرابع عشر الهجري الفاضل/عوض بكران بانصير، من أهالي الشحر وعلى نفقته الخاصة، وفيما بعد سُمِّي المسجد باسمه.
وقد اكتسب هذا المسجد مكانة كبيرة وشهرة عظيمة وسمعة طيبة بسبب تردُّد بعض العلماء عليه , والتدريس فيه وهم من ذوي التقوى والصلاح والعلم، من أمثال الشيخ /سالم بن محمد بن سعيد باوزير – مولى النقعة – ، وهي من ضواحي غيل باوزير، وكان قد مكث بالمدينة المنورة (35) سنة، وانتفع به كثير من الناس، منهم تلميذه الشيخ/عبد الله بن طاهر باوزير، الذي كان يلازمه مثل ظله ليلًا ونهارًا.
فلمَّا عاد الشيخ سالم إلى بلده (النقعة) ، وتوفي بها سنة 1318هـ ، وقد أعقبه في التدريس بعد ذلك في مسجد (بانصير ) الشيخ/ عبد الله بن طاهر ؛ حيث أخذ يفقه الناس في أمور دينهم ودنياهم، ذكر ذلك الأستاذ و الصحافي والمحامي محمد علي لقمان في صحيفة (فتاة الجزيرة )؛ حيث كان يحضر دروسه العامة مع كثير من الشباب .
وقد أعاد نشر ذكريات الصحافي المحامي محمد علي لقمان كاملة الأستاذ /عبد الرحمن خبارة في كتاب بعنوان : (نشوء وتطور الصحافة في عدن 1937م – 1967م) في صفحة 120.
وهذه بعض من ذكريات الأستاذ/ محمد لقمان اللطيفة والطريفة أيام دراسته الأولى في حلقاته بمساجد عدن باختصار وتصرف , قائلًا :
(( ما إن بلغت الثامنة من عمري حتى التحقت بحلقة السيد/ عبد الله بن حامد الصافي، وكان رحمه الله من علماء الحديث في مسجد ( الشيخ عبد الله الخطيب العمودي)، الذي اشتهر بمُنْطِقِ البَقَرَة ، وقرأت عليه المنطق والبيان والبديع .
وكان أبي رحمه الله يدرس الفرائض للبقري على يد الشيخ/ عبد الله بن طاهر باوزير الحضرمي في مسجد بانصير، كما حفظت على يد هذا الشيخ كتاب الزبد وأبي شجاع وأبي فضل، وكان الفقه والنحو والأدب أهمَّ ما يهتمُّ به الناس في عدن .
وفي تلك السنوات الخوالي تعرفت بالسيد / عبد الرحمن بن عبد الله مفتي حضرموت، وبالسيد/أبي بكر بن شهاب الشاعر والأديب صاحب الأرتقيات، وكان السيد بن عبد الله ينتقد قراءتي لكتاب النصوص لابن عربي، ويقول: إن تلك الفلسفة ستفسد عقيدتي وأنا في الطفولة، ولكني احتفظت بعقيدتي رغم مطالعتي لمؤلفات ابن عربي وابن رشد والإمام الغزالي، وكنت أذهب إلى مسجد العيدروس مع صديقي المرحوم السيد/ زين بن حسين العيدروس , وقد كان والده يقرِّبني، وكان السيد/ عبد الله عمه يدعو لي كلَّما يراني أذهب إلى صلاة الجمعة وأنا ألبس الجبة الخضراء الحرير والعمامة وأجادل الفقهاء والعلماء). انتهى
وكانت عودة الشيخ عبد الله بن طاهر باوزير إلى المكلا إثرَ خلاف نشب بينه وبين رجال كنيسة البادري بعدن , بسبب التحذير من مدارس النصارى والتشبه بهم, ولا تزال عدن حتى اليوم تلهج بذكر بعض أيامه التي قضاها بها، وتحفظ له مواقفه الحميدة والشريفة وجهاده للذبِّ عن الإسلام، ومن تلاميذه محمد علي لقمان المحامي والصحافي ووالده , والشيخ سعيد مدّي مدير مدرسة (بازرعة الخيرية) سابقًا، والتاجر المعروف السيِّد عبدالله صالح المحضار.
وافته المنية يوم الأربعاء 21 جمادى الأولى 1354هـ – 1935م، وكان يوم تشييعه مشهودًا، شارك فيه آلاف من عارفي فضله، ودفن بجوار شيخه العلامة/ محمد بن سلم في قبّته الواقعة في جهة الغرب من الغيل.
و الحمد لله أولاً و آخرا …
أمين سعيد عوض باوزير
أهـم مصـادر البـحـث