كتابات
د.عبدالقادر علي باعيسى
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 7 .. ص 80
رابط العدد 7 : اضغط هنا
موهبة الشاعر الفنان أبوبكر سالم بلفقيه تجاوزت قدرات الآخرين من الفنانين قوة وسيطرة لامتلاكها قدرة فذة على صنع صوته الخاص كلمات وغناء أهلته لأن يدخل في مضايق التراث الغنائي الحضرمي وخصوصياته التي تحتاج إلى صوت عظيم يجسده، فالتراث القوي بحاجة إلى موهبة قوية تماثله وتقترب منه قوة وتحديا وتطويرا (1) وقد أدرك أبوبكر ذلك، فكان أن اهتم بالتراث الغنائي الحضرمي الذي لا يستدعيه استدعاء تسجيليا ليتغنى به كما هو، بل يضيف إليه محاولا إدخال قيم فنية أخرى إليه منطلقا من شجاعته الفنية ومن ثقته بمقدراته، فينفذ ما يرغب ذوقيا وفنيا في تنفيذه، وإن لم يلق هذا النوع من التغيير شيئا من الدراسة الجادة تكشف ما أحدثه أبوبكر.
إن شخصية أبي بكر سالم بلفقيه الفنية كانت شخصية إيجابية أو مرتكزاً مهماً لتعزيز التراث الحضرمي ،وإن ترديده لألحان التراث يعني أنه لم يرحل وحده وإنما حمل وطنه معه(2) فإذا ضاق به مجال حياته في السفر لجأ إلى التراث, وهذه القصيدة (ليلة الحد) مليئة بلحظات الألم والحزن وبكثير من التأزم النفسي مما توحي به كلماتها بصورة غير مباشرة فللاغتراب أثره الإيجابي في أن يعود بلفقيه إلى مكانه القديم واجتماعيته القديمة عبر اللحن التراثي الطالع من أعماق حضرموت ، حتى لينبثق من بين ثنايا هذه القصيدة ( الأغنية ) صوت داخلي عميق وحزين لبلفقيه يشعر بشجاه كل من استمع إليه وهو يغني هذه الأغنية، وفي هذه المناجاة التي يبديها نحو أهله ومجتمعه وأرضه يوجد تماه شعوري وانفعالي مع كل البلد ( حضرموت ) ما دام يتخذ لحن تراثيا من ألحانها عبر من خلاله عن تجربة حنينه وشوقه الذي يعاني منه، وهو في هذه الحالة يبحث عن ذاته في الوقت الذي يبحث عن وطنه، أو يبحث عن ذاته من خلال وطنه الذي يراه في الكلمات- اللحن(3) إنه لا يستدعي البلد استدعاًء عابرا مفرغاً من الشعور، وإنما يعكس تجربته الأليمة في حلم العودة إلى الذات – الوطن من خلال هذه الأغنية التي جمعت بين كلمات بلفقيه ولحن من ألحان التراث الحضرمي الأصيل(4) وعليه فمما يبدو لي أن أبا بكر بلفقيه كان يستدعي اللحن التراثي المناسب لكلماته وفق سياق وجداني وشعوري يكتوي به، فيرى لحنا غنائيا من ألحان التراث أقدر على إعطاء الدلالات التي يحرص على البوح بها في حالة معينة لاسيما مما له علاقة بالحنين إلى الوطن والأهل(5).
وهكذا تبدو المعاناة والشوق نوعاً من الامتزاج الداخلي بينه وبين بلده ، فاستخدام هذا اللحن التراثي المتين الذي نظر إليه الفنان أبوبكر بلفقيه بحساسيته الخاصة يبدو كما لو أنه أكسب اللحن التراثي إيحاءات جديدة وظلالا جديدة تنبثق عن الحالة النفسية أو الضرورة الموضوعية التي يعاني منها(6) وبأسلوب جدلي لعل اللحن التراثي هو الذي ولد هذه المعاني التي انداحت في كلمات الأغنية بتلقائية شديدة، فأضاف أبوبكر بصوته بعدا جمالياً إلى هذا اللحن التراثي(7).
إن بلفقيه بماضيه الشعبي والمحلي في تريم وفي وادي حضرموت عموماً هي علاقة جذرية متينة تشكلت في ذاكرته الشعبية والروحية منذ طفولته فأراد من خلال لحن هذه القصيدة أن يتغنى بماضيه أو بحياته الاجتماعية الشعبية أيام شبابه بوصفها قيما روحية وثقافيه ووجدانية وحضارية ، وبلفقيه في هذا ليس بعيداً عن التراث الطيني الذي نما فيه بكل ما يحمله في جنباته من أغاني الزراعة والبناء وأغاني الأطفال والإحساس بدفء البيت ونكهته المأخوذة من طبيعة البيئة نفسها(8) .
ولعلنا ما زلنا نشم نكهة الطين وتأثيراتها فينا إلى اليوم وبشكل كبير، مما لا نجده في مباني الاسمنت التي بدأت تغزو الوادي، حيث بدأ يتدخل مزاج مختلف ونفسية مختلفة(9) وهذه القصيدة ( ليلة الحد ) تثير فينا مكامن البيت والحارة والأزقة القديمة، أي أنها تثير فينا ترابطا جماليا جماعيا (10) ولذا فأبوبكر من خلال هذه الأغنية يلتقي بالوطن حتى لئن لم يسافر إليه، ويلتقي بالحبيبة حتى إن لم يسافر إليها ، فالمكان موجود في ( سيئون ) و ( وسط سيئون ) و (الغناء) و( شعب عيديد ) و ( ذيك المناظر ) والزمان موجود في ( ليلة الحد ) و ( ليالي الأنس ) و (ليالي الصبا)، وأبوبكر يكتب هذه القصيدة وهو يعيش في بيوت من الاسمنت لا تولد فيه الحنين والأشياء الأولى والذكريات فيزداد إلى بيته الأول حنينا، ولم يعد أمامنا إلا أن نرى بلفقيه يبكي من شدة الوجد وهو يتذكر من خلال هذه القصيدة الأماكن القديمة ، والوجوه القديمة ، والجلسات الفنية القديمة، وروائح العطر والبخور، والطرق الترابية، وروائح الأزقة(11).
وربما كان هذا اللحن التراثي الذي اتخذه أبوبكر لقصيدته ( ليلة الحد) لا يلتفت إلى جماله اللحني أحد في حضرموت، فأعطاه بلفقيه وهجاً جديداً وأعاد له طاقته التأثيرية والانفعالية في نفوس الناس ، فهو يدل على الماضي كما يدل على الحاضر أيضاً ، وهو فيما يبدو يحقق لأبي بكر أقصى درجات الإحساس بوجوده الحضرمي إن جاز التعبير(12) .
وأخيرا فإن القصيدة عند أبي بكر سالم بلفقيه جزء من الأغنية وليس الأغنية جزءاً من القصيدة ، إذ يبني القصيدة على نظام الغناء واللحن، فأنت أمام الأغنية من أول كلمة في القصيدة حيث لا يهتم بالخيال والصورة بقدر ما يهتم بالتوقيع وجمال الألفاظ وسلاستها ، فرؤيا أبي بكر للحياة والحب رؤيا موسيقية أو رؤية طربية والعلاقة لديه بين الحب والموسيقى علاقة أساسية لا يحيد عنها.
قصيدة (ليلة الحد)
ليلة الأحد لي مرت بصفو الخـــواطـــر
ذكرتنـا بشيء ما كان عا البال خاطـر
ذكـــرتـــنــا بــــلادي ذكــرتـنـا بسـيـئون
عوّد الله لـيالي الأنـس في وسط سيئون
يا مخبر من الغناء كفى لا تخابر
لا تزيد الوجع شفنا من الجرح خاير
لا تحاول تعيد السر لي صار مدفون
يارعى الله ليالي الأنس في وسط سيئون
شعب عيديد لي ذكره على القلب داير
به فؤادي وضع عربون من كنت صاغر
فيه دار الهوى ما بين ليلى ومجنون
يارعى الله ليالي الانس في وسط سيئون
ذكر (ليلى) يذكرنا ليالي المسامر
في ليالي الصباء في وسط ذيك المناظر
في فرح في مرح بالبسط والحب مقرون
يارعى الله ليالي الأنس في وسط سيئون
مات مسكين بس ما مات موت المقابر
راح ضحية كلب ملعون كافر
ذا أنا صرت من ظلمه وراء الظهر مطعون
يارعى الله ليالي الانس في وسط سيئون
مانويت السفر لكن ذا أمر قادر
وان نويت السفر بامره وعن طيب خاطر
وايش ينفع نروز البُر لا قده مطحون
يارعى الله ليالي الأنس في وسط سيئون(13)
الهوامش:
2 ينظر نفسه ، ص 32.