مركز حضرموت للدراسات التاريخية والتراث والنشر

الاسم

كتابات

د. سعيد الجريري


المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 7 .. ص 82

رابط العدد 7 : اضغط هنا


تأتي إلى هذا العالم غيرَ مختار، ثم تُغادره، عادةً، غيرَ مختار أيضًا. ومما لا اختيار لك فيه اسمُك الذي إمّا أن يَسِمَكَ أو يَصِمَكَ، واسم أبيك وأمك وعائلتك. ومنذ أن يُخطّ اسمك في شهادة الميلاد، تغدو فلانًا الذي سيماؤه في وجهه.

    تلك لحظة استلاب جميلة، يبتهج بها الأبوان والأهلون، ويتفقون جرّاها، ويختصمون، ربّما، إن لم يوافق الاسم رغبة هذا أو ذاك، كأنّ المُسمَّى منتَجٌ يُراد ترويجه كعلامة تجارية ذات بعد تاريخي أو اجتماعي أو نفسي أو ذاتي. وعلى أيّ حال فـ(أنتَ وحظّك)، فقد يكون الاسم جميلًا تفيض عليك جمالياته، أو غير جميل، فيُطفئ في داخلك قناديل وشموعًا ملوّنة.

    منذ أن علّمَ الله آدم الأسماءَ كلها، والسيمياء مفعّلة في كل اتجاه ولحظة، فالاسم حامل، لا بل مثقل بحمولاته الثقافية والتاريخية وغيرها، يعبر العصور شبيهًا بالأشعة السينية، ومن حيث لا يدري المرء أو المرأة، قد يقف الاسم حائلًا دون حق، وقد يستمنح غير المستحق. وفي هجرة الاسم عبر الاتجاهات واللحظات تتجلى صورٌ ثقافية وتاريخية، فثمة أسماء ترُوج في نواحٍ، وتقل أو تندر حتى لتكاد تختفي في نواحٍ أخرى، بل إن في ذلك الرواج وتلك القلة أو الندرة، مداخل إلى قراءات اجتماعية ذات أبعاد سياسية ربما أو ثقافية، أو ديموغرافية، أو غير ذلك.

   سأدَعُ ما هو عام، ههُنا، إلى ما هو خاص، فقد استوقفتي لحظةٌ انسللتُ (ولا أقول انسلختُ) فيها من اسم «لقب العائلة» دون اختيار أيضًا. لكن قبل أن استجلي تلك اللحظة، لعلّي أسترجع أشياء مما فاض به، اسمي «سعيد»، علَيّ من استبطانٍ للسعادة وإغواءٍ لها أيضًا، في كل شيء حولي حتى في أقسى اللحظات وأتعسها، يُعزّز ذلك الشعورَ بالسعادة، حتى المُرجأة أو المُأمّلة، أو التي تأتي ولا تأتي -بتعبير البياتي- أنَّ اسمي، مردوفًا باسم أبي «سالم»، بما فيه من حوافّ دلالية أثيرة، مما فاض عليَّ سلامًا داخليًا يفيض عليَّ، هو الآخر، سكينةً وتوازنًا نفسيًا. فماذا أريد وقد جمع اسمان لصيقان دالان عليَّ شيئين محلومٍ بهما: السعادة والسلامة. وذانِكَ هما المرتجيان، فالعرب تسمّي عادةً على سبيل التفاؤل والرجاء، ولذلك وصفوا الأعمى بالبصير، واللديغ بالسليم وهكذا. لكني إذ أفيق من فيض السعد والسلام أجد جدّي «سعيد» يفيض سعادة إضافية، حتى ليبدو أبي -رحمه الله- سالمًا بين سعيدَين هما جدي -رحمه الله- وأنا. بل إن سلامَ أبي معزّز بفيض أمّي سلامة، فأنا ابن سالم وسلامة.

  هل أنسلخُ من اسمي كما فعل أدونيس، علي أحمد سعيد؟ لكن عليًّا لم ينسلخ مختارًا، بل كان استبداله اسمه لغاية أدبية في نفسه، منها أن جريدةً سوريةً في اللاذقية أرسل إليها نصوصًا من بواكيره، فلم تحفل بها لأنها موقعه باسمه الحقيقي، فلما عنّت له فكرة الاستعارة، واختار (أدونيس) اسمًا بدلالته الأسطورية، نشرت الجريدة نَصه، ثم أرسل نصًا ثانيًا فنشرته على الصفحة الأولى، أرفقها المحرر بإشارة تقول: «المرجو من أدونيس، أن يحضر إلى مكتب الجريدة لأمر يهمّه»!

  لم يعنّ لي أن استبدل اسمي فهو حبيبٌ إليَّ، لكني لم استطب فكرة تدوير الأسماء، ليدور أبنائي دورة السعادة والسلامة الجميلة التي تشبّعت بها، فغادرتُها إلى كسر النمط والرتابة، ففي اللغة والحياة متسع للاختيار، إلا لقب العائلة الذي يظل عمودًا رئيسًا ليس بالإمكان استبداله، فهو أعمق وأعصى على أي محاولة، لكنني كنت منسجمًا مع لقب عائلتي (الجريري) خاليًا من شوائب القبَلية، على الأقل في وعيي الشخصي، وإن تكن له ظِلالُه التي لا يمكن تجاهلها، فهو مثقل ببعده التراتبي شئت أم أبيت. واتساقًا مع ذلك قد يفيض عليه الآخرون ما لا أشعر به أو استشعره، فهو في الأول والآخِر اسم دال على جماعة كغيرها من الجماعات في السياق الاجتماعي العام، لها ما لها وعليها ما عليها.

  في أثناء الخدمة العسكرية الإلزامية التي أديتها، في مطلع الثمانينيات، في قاعدة القوى البحرية في عدن -ولها ذكريات جميلة- لم يكن لي من اسمي سوى «سعيد سالم سعيد» أو كما أعلق ساخرًا مع أصدقائي «ريّان – عدن – ريّان»، وكنت أحب هذا الاسم الثلاثي بحروفيته وإيقاعيته ودلالته اللغوية والنفسية، ثم أنني، في نظر السلك العسكري، لست أكثر من مُجنّد يحمل رقمًا مُشفّرًا برقم محافظته ودفعته ثم تسلسله الشخصي (5/ 11/ 0000)، وفي حالات نادرة كان يتم تعريفي بنَسْبي إلى المحافظة، إنْ صدفَ وجودُ سعيدٍ آخر، فيقال «سعيد الحضرمي». وتستمر لعبة التسمية من دون أن تسبب لي أذى نفسيًا، كما قد تُسببه لآخرين، ممن وضعتهم الاختيارات القسرية -إن جاز الوصف- في مواقف مؤذية حينًا، محرجةً حينًا آخر.

  حتى لقبي الخاص -وكان التلقيب شائعًا في شبيبتنا، وقلما أو ندر ما نجا أحد من لقب رضيَ به أو (تكعّفه) صاغرًا- فقد انتقت لي جدتي -رحمها الله- (الحلو) لقبًا، فإن مللتُ من سعادة الاسم وسلامه، فثمة حلاوة أكاد أذوق طعمها في لساني وتتلمظها شفتاي، ونفسي الغَضّة حينئذ، ولعل من المصادفات الجميلة أن اسم جدتي (يسيرة). فأي عالم من الأسماء هذا الذي يغمرك بالإيحاءات الإيجابية يا فتى!

  لكنّ ما حدث معي في هولندا مختلف، فما لم يستطعه العربُ والحضارمة، فعله الهولنديون، من دون قصد ولا رصد، فلغتهم تخلو من حرف (الجيم)، وأيّ جيمٍ في لغات العالم منطوق بلسانهم (خاءً)، فوجدتني فجأة بلا مقدمات، انتقل بلسانهم من (الجَريري) إلى (الخَريري)، لكن حتى في هذه، كانت الانتقالة منسجمة من تراث السعادة الأول، فإذا أنا منسوب إلى الـ(خَرير) الذي من معانيه صوت حفيف جناح الطائر، أو صوت الماء المنساب على منحدر، في مدينة تحيط بك قنواتها المائية من كل جانب، كأنها (مطاريق) بلداتنا الجميلة التي لا يضاهي جمالَها أيُّ جمال في مشارق الأرض أو مغاربها.