شخصيات
عادل حاج باعكيم
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 7 .. ص 106
رابط العدد 7 : اضغط هنا
تُـعَـدُّ الكتابات الرصينة عن الحضارم في مهاجرهم المختلفة حول العالم قليلة جداً فيما سبق, غير أن الباحثين في الفترات الأخيرة توجَّهتْ أنظارهم – إلى حَدٍّ ما – صوب ذلك الشتات الحضرمي كما يحلو للبعض أنْ يُسَمِّيَه, والبعض الأخر من الباحثين يروْنَ في لفظة شتات، التي قُرِنَتْ منذ زمنٍ بالتشتُّتِ اليهودي لا تليق بالحضارم، الذين أثْرَوا الحياةَ في مهاجرهم بجميع جوانبها. وإنَّـنا عندما نناقش هذين الرأيَيْنِ عن تسمية حضارم المهجر بالشَّتَاتِ الحضرمي نرى أنَّ الحضارم – فعليًّا – هم في شتاتٍ حقيقيٍّ، لكن أسبابه ودوافعه ونتائجه وتأثيره وتأثراته تختلف كثيرًا عن جميع الشتاتات حول العالم, هذا الاختلاف والتميُّز دفع بعضَ الباحثين والمراكزَ العلميَّةَ حول العالم في الفترات القريبة يوجِّهون أنظارَهم نحوها كما أسلفنا.
لقد تحدَّث عن هذه المسألة المهمَّة – مسألة تسمية حضارم المهجر بالشتات – جماعةٌ ممَّن تخصَّصُوا في هجرة الحضارم ( حضارم المهجر )، أو اهتمُّوا بدراستها, من أجود ما قرأتُ في تبيينها ما كتبه الدكتور فريد العطاس في مقدمته على الكتاب الذي حرَّره مؤخَّرًا الموسوم بـ: “الحضارم في المحيط الهندي إسهامات في مجتمع واقتصاد جنوب شرق آسيا”, ترجمة الدكتور عبدالله عبدالرحمن الكاف .
الكتاب السابق الذكر – الحضارم في المحيط الهندي – الذي خصَّصْنا هذه العجالة النظرَ السريع في أحد فصوله وهو الفصل الموسوم بـ: “إمبراطورية في خدمة هياج إسلامي : مجذوب في مستعمرة سنقافورة”, للأستاذ تيرين سيفيا، طالب الدكتوراه في جامعة كاليفورنيا بـ”لوس أنجلوس”، الذي اهتمَّ في أغلب أبحاثه ومقالاته بالتصوف الإسلامي أو الحياة الروحية في الإسلام، فهو مشارك في تحرير كتاب الحركات الصوفية في الإسلام المعاصر, كما تُعَدُّ كتاباته من الكتابات التخصصية الرصينة في هذا الشأن .
أولًا وقبل الحديث عن بعض جزئيات هذا الفصل نفكِّك العنوان ونبيِّن المراد من بعض جزئياته وهو كالآتي :
والشخص المجذوب الذي يقصده الباحث هنا هو الحبيب الداعية الولي الشهير نوح بن محمد الحبشي العلويُّ الحضرميُّ السنقافوري .
أورد الباحث في مطلع فصله خبرًا أوردَتْهُ صحيفة سنقافورة الحُرَّة بتاريخ الثاني من أغسطس 1866م, هذا الخبر الذي ذكرت فيه الصحيفة نبأ وفاة الحبيب نوح، الذي وصفتْه بالملك الطاعن في السن، ووصفت الموكب الجنائزي بالمهيب والمراسيم بالكبيرة، وأشارتْ أيضًا إلى أنه يُعَدُّعند المسلمين – بتلك الأنحاء – في مقام النبيِّ نوح . أورد تيرين سيفيا هذا الخبر في طليعة فصله ليؤكِّد قطعًا على المكانة الاجتماعية والدينية التي وصل إليها الحبيب نوح ( الشخصية المدروسة )، وليؤكد أيضًا أنه وليٌّ، له كرامات مشهورةٌ في تلك الأقطار وذلك ليقوِّي ويعضُد الروايات الشفاهية، التي اعتبرها مصدرًا مهمًّا، اعتمد عليه في كتابته لهذا الفصل . قال الباحث : ” يحاول هذا الفصل أن يستكشف سجلات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين, إضافة إلى كمٍّ هائل من الروايات الشفوية عن الحبيب نوح، التي تحوي قصص الكرامات، مستخلصةً من سير الأولياء، التي تضمُّ رواياتٍ مصدرُها العديدُ من الباحثين, وتمَّ تناقلها عن طريق ما يعرف بالإجازات، التي تؤكِّد سلسلة من القصص المتناقلة، حتى تصل وتسند إلى ناقليها الأصليين (الرواة)، علاوةً على ذلك فإني أقدِّر ما يروى من أحلام ورؤى يقظة, وممَّا يتمُّ تداولُه من قصص تُعِيْنُ المريدين على مواكبة تقاليد الأولياء . تلك الأقاصيص والروايات لا غنى عنها فيما نحن بصدده “. كما صرَّح الباحث برأيه في جزئية أخرى من فصله فقال :” إنَّ المصادر الشفوية مثل كرامات ومعجزات الحبيب نوح ليست مجرَّدَ مخازن لمواد خاملة من الماضي كما نقل في كوبر، بل إنها تعكس خبرات وحكم محنكة .. إلخ”.
تحدَّثَ تيرين في فصله هذا “عن بعض الجوانب الأساسية في حياة ذلك الفقير المحبوب في سنقافورة أيَّامَ الاستعمار وما تلاه في عهد سنقافورة المستقلة”، هذه الشخصية التي نظر إليها الباحث عن كثبٍ تُعَدُّ من الشخصيات المضطربة في نظره ونظر الاستعمار, وتعدُّ الفترة المدروسة من الفترات المهمَّة جدًّا في تاريخ سنقافورة الحديث، التي لم يكتب عنها من هذه النظرة الروحيَّة، التي اتَّخذها سيرين منهجًا له في كتابته لهذا الفصل، والعنوان يؤكِّد ذلك، فقد جعل “في خدمة مجذوب” جزءًا منه ليدلِّـل على ضعف الإمبراطورية العظمى في حربها ضد الإسلام، فقد هزمها في سنقافورة فقير مجذوب .
هذا الفقير الذي أذعن له جميع الحكام البريطانيين لمستعمرة سنقافورة، الذين عاصرهم ستافور درافلس المتوفَّى عام 1826م، وجون كروفورد المتوفَّى عام 1898م وفاركوهار, الذي حاول بعضهم محاربته علنًا أمام الناس ممَّا كلَّفهم ذلك كثيرًا من هيبة بريطانيا في نفوس الناس في تلك المستعمرة. فقد هزم هذا المجذوب نوح جميع مَنْ حاربه من الحكَّام أمامَ النَّاسِ، وجميع ما ورد من قصصٍ وأحداثٍ تُفِيدُ بأنَّ الصِّراعَ لا ينتهي بينَ الحاكمِ والفقيرِ إلا بطلب العفو والمسامحة من الفقير, مما دفع المستعمر من اتخاذ قرار صعب يجرح الحكومة البريطانية بأكملها وهو أن لا يتعرَّض أحدٌ منهم للحبيب نوح . قال سيرين :” لم يكن النظام البريطاني، الذي كان يسيطر على سنقافورة من عهد السير ستافور درافلس في يومٍ من الأيام راضيًا عن ما يعمله الحبيب نوح . قام النظام بعدَّة محاولات لوضع الحبيب نوح تحت سيطرة الحكومة والإنصات لأوامرها . لكن تلك المحاولات باءت بالفشل واستمر الحبيب في سلوكه وظلَّ مشغولًا بمساعدة قطاعات الشعب، التي تعاني الفقر”. هذا السبب الذي جعل الحبيب نوحًا محبوبًا بين الناس “مساعدة قطاعات الشعب التي تعاني من الفقر”.
لم يكن الحبيب نوح الفقير الوحيد في سنقافورة، لكنه كان الأشهر بين جميع الفقراء المجذوبين هناك. يُعَدُّ الحصولُ على المعلومات الدقيقة صعبًا في مثل حالة الحبيب نوح، ممَّا جعل الباحث سيرين يعتمدُ على الروايات الشفوية مصدرًا مُهِمًّا في دارسة حياته، غيرَ أنَّ هناك مَنْ جَمَعَ بعضَ كراماتِ الحبيب نوح وطرَّزَها ببعض المعلومات الخفيفة وغير الموثوقة عن حياته, هذه المجاميع هي : “لامبانقتيروخير ” جمع غاوزي خان سوراتي، أحد شيوخ الطريقة القادرية النقشبندية في سنقافورة, و”السيرة المصغرة” جمعها عبدالغني سعيد، أحد شيوخ دار الأرقم من مجموعة صوفية ماليزية, والثالثة سيرة لم تطبع بعد جمعها أحد أسباط أبناء أخ الحبيب نوح وهو السيد عبدالله بن أحمد العطاس .
هذه المصادر التي مع وجودها تصبح الكتابة الدقيقة عن شخصية الحبيب نوح بجوانبها المختلفة من محاربة الاستعمار ومساعدة الفقراء ونشر التعاليم الإسلامية غير ممكنة – إلى حدٍّ ما – غيرَ أنَّ طريقة الباحث في استقراء تلك الأقاصيص، واستخراج تلك الأحداث من بواطنها يُعَدُّ منهجًا جيِّدًا في دراسة مثل هذه الشخصيات، التي لم يكتبْ عنها البريطانيُّون بغرض جعل الناس يتناسونها بمرور الزمن – كما نظنُّ – لتمسح مع ذلك النسيان تلك الكرامة المهدورة على يدِ تلك الشخصيات التي من أشهرها الحبيب نوح, لكنَّ محبَّةَ غالبيَّة الناس جعل هذا المكرَ الاستعماريَّ مستحيلًا؛ لأنَّ أمثال الحبيب نوح قد رسخوا في الذاكرة الوجدانية لجميع طبقات الشعب السنقافوري .
اتخذ الحكام البريطانيون من مستعمرة سنقافورة ألوانًا من الحيل والمكر والخديعة في حربها الفاشلة ضد الحبيب نوح، فتارة يتَّهمونه بالجنون وأخرى بالسرقة مما يجعلهم يزجُّون به في السجن, ” كان في كل مرَّة قادرًا على مغادرة السجن وكأن شيئًا لم يحدث”, قال سيرين سيفيا: ” لكننا نلاحظ أن سجنه أدَّى إلى عدة نتائج: أولًا: إن المجذوب نظر إليه صانع معجزات وكرامات في سنقافورة. ثانيًا: تاريخ ديني منشأُه الثبات والخلود في قصص حياة الحبيب نوح من ناحية وفشل السلطة الاستعمارية في احتواء جذبه” .
ثبت في شهادة مُرِيدِيه، وفي التقارير الصحفية عن تشييع جنازة الحبيب نوح أنَّه تفوق على الممثِّـلين المستعمرين، حتى عند وفاته فقد انتظر جثمانُه في محله حتى وصل أربعة من البريطانيين المحترمين، الذين اعتنقوا الإسلام على يده مما جعل هذا الحادثة آخر حوادث الصراع بينه وبين الاستعمار البريطاني .
تحدَّث الباحث في فصله أيضًا عن جوانب أخرى، منها بعض مظاهر ولاية الحبيب نوح، ومتى تظهر كرامات الأولياء، وعلاقته بمريديه، وهداياهم له، وبعض كلامه. قال الحبيب نوح متحدِّثًا مع أحد مريديه التجَّار، الذين يتعهَّدون تجارة القماش بين الهند وسنقافورة: “كنت منتظرًا وصولك من الهند وهديتك لي أيضًا. لقد وعدْتَ سرًّا أن تهديني عدة باردات من القماش الأصفر عندما تسافر سالمًا وتعود سالمًا إلى سنقافورة. أودُّ أن أذكِّرَك لكي تفي بوعدك؛ لأنِّي أريدُ أن أهدي القماش الأصفر إلى المحتاجين”. نقرأ في هذا النص – الصغير من حيث عدد كلماته، الواسع في معناه – بعض جوانب شخصية الحبيب نوح – رحمه الله -, يظهر من خلال هذه الكلمات القليلة أن هذا الرجل المتحدث أحد أولياء الله الصالحين، الذين وصل إلى مرتبة يطلق عليها المتصوِّفة “المكاشفة”؛ حيث علم بما أسرَّ به مريده قبل سفره, وكان بإخباره له بما وعد يحقِّـق أمورًا، منها أنه يدفع المريد لتنفيذ وعوده ويقوِّي العلاقة بينهما، بحيث تمسك المريد بالحبيب عند علمه وتيقنه بولايته، وأيضًا رغبة الحبيب نوح في مساعدة المحتاجين؛ حيث نوى مسبقًا – كما صرَّح – أن يهدي ذلك القماش الأصفر إلى بعض المحتاجين .
ختامًا سنتحدث بما أتيح لنا من معلومات عن بعض جزئيات سيرة الشخصية المدروسة في هذا الفصل بشكل مركَّز . الحبيب نوح بن محمد الحبشي ينتسب إلى صاحب الشِّعب من بني علوي, ولد في حضرموت في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي, تلقَّى بعض العلوم عند علماء حضرموت كعادة الحضارم وخاصة العلويِّين منهم في ذلك الوقت, ثم في عام 1819م سافر الحبيب نوح إلى سنقافورة وبها عمل كاتبًا في الخدمة المدنية التابعة للمستعمر البريطاني، غير أنه سرعان ما استقال منها بعد مضيِّ فترةٍ قصيرة, بدأت حينها تغلبُ عليه حالة الجذب، التي اشْتُهِرَ بها إلى أن توفَّاه الله, عرف الحبيب نوح بالصلاح وحب مساعدة المحتاجين حتى أصبح بطلهم، الذي ينظرون إليه بكلِّ حُبٍّ وتقدير, له بعض الإخوة أصغرهم حبيب عارفين, كما أنه تزوَّج وأنجب بعض الأبناء، أكبرهم الشريفة رقية المتوفَّاة عام 1890م. توفِّي الحبيب نوح بعدَ أنْ طالَ به العمرُ كما أشارتْ صحيفة سنقافورةالحُرَّة في خبر نعيِه، الذي نشر في الثاني من أغسطس 1866م، ويرى بعض الباحثين أن وفاته كانت حوالي عام 1880م، وهو بعيد عن الحقيقة, والأسباب التي جعلت ذلك الباحث يستنتج هذا التاريخ عديدة – في نظرنا – منها :
تُخْتَتَمُ لامبانقتيروخير بتأمل واستغراق, وبحروف بارزة, وهو أمر يمكن من خلاله مقارنة التمثال الميت لرافلس في سنقافورة بالحضور الحقيقي والحيّ للحبيب نوح، ويظهر جليًّا من خلال هذه المقارنة أيضًا الفرق بين من يخدم من أجل سنقافورة ومن يخدِّم سنقافورة بأكملها من أجله, ” خلَّف رافلس تمثالًا لا يزار, لكنه ( أي الحبيب نوح ) لم يمتْ, مازال حيًّا ويجذب الكثير من الزوَّار”.