إبداع
خالد لحمدي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 7 .. ص 110
رابط العدد 7 : اضغط هنا
لأول مرةٍ أرى البيتَ كئيباً ، وأحسستُ بالوحشة ، فأجهشتُ بالبكاء .
تنفتح في القلب نوافذُ الكون هامسة :
– أَوَ لازلتَ تعشقُ الصبرَ والانتظار ..؟
ارتجف جسدي هامساً :
– تعبتُ كثيييييرا .
ولازلتُ أُولدُ مع كلِّ بذرة غرستُها في الأرض ونبتت وأينعت .
مع كل سنبلة قمحٍ انحنت للأرض ، وحملت قمحاً كثيراً .
يجيئُني العمُّ خميس ، بوجهٍ مقطب .. قائلاً بمرارةٍ وقلق :
– لَم أرَ زمنا كهذا .
وأردف بامتعاضٍ وخوف :
– نركضُ خلفَ وَهمٍ وسراب ، تنعدم فيه الرؤية تماما .
البردُ قارسٌ ، والأرضُ لم تعد تفي بحوائجنا والتزاماتنا المتزايدة .
ثم أردفَ مؤكِّدًا ..
– هذهِ الأرضُ سيجوع أهلُها ..
حتى الكلاب صارت تتشاجر بعضُها مع بعض ، لاقتسامِ عظمةٍ ، أو جيفة لم يبقَ منها إلا عظام يابسة .
أسمعُ كلماته وكأنها طبلٌ يقرعُ في أذني ..
هو لم يبع شيئا منذ الصباح ، ولم يعد أحدٌ يشتري القصب والبرسيم كعهد سابق ..
ذهبَ الأمانُ ، وهربَ من يشتري منتوجَ الأرضِ من قمح وشعير وأعلاف ومحاصيل كثيرة .
كلَّ الدروبِ مغلقةٌ ، ولا تنفتَّحُ إلا للسُرّاقِ ، ورجالات الموت والقتلة .
ماعليش ياعمّ خميس ..
– الصبرُ طيب .
رد بوجه فاتر :
– ماتت أرواحُنا قبل أن تجفَّ وتموتَ أرضُنا .
قلت بذهول طافح :
هل يُعقل أن يكونَ هذا هو العمَّ خميس ، الذي كان لا يخفتُ صوتُه ، ولا تغادرُ الضحكةُ شفتيه ..
الأقوى جسماً ، والأذكى عقلًا ، والشهير بين مزارعي قريتنا .. انحنى ظهرهُ ، وخَفتَ صوتُهُ وأناشيده التي يغنّيها أثناءَ مواسمِ الحصاد ، بفرحٍ ونشوة ، تحت أشعة شمسٍ مضيئة ..
أكلَ الدهرُ عمرَهُ ، وأنهكَ العملُ جسدَهُ ، وظلَّ رجلا عالي الخلق ، سمح المعشر ، ومحبباً بين كل الناس .
يعارك الأرض وحيداً ، بعد أن أمسكَ ابنهُ سعيد بإمامة المسجد ، وحلقات الدرس التي يجمع فيها صغار القرية كل مساء ..
انشغل بالمسجد وشؤونه ..
يغادره بعد صلاة الفجر ، وقد ارتفعت الشمسُ في السماء .. يقضي حوائجَ بيتهم ، ثم يعودُ للمسجد قبلَ الظهر ، ولا يغادره إلا بعد أن يغلقَ الشبابيكَ والأبواب ، ويتأكد أنَّ حنفيات الماءِ أُغلِقت جيدا .
صرتُ ألتقيه في المسجد كل يوم .. وقد نقف أحيانا بعد الصلوات ، نحاكي بعضًا ، ونذهب بقلوب تنضحُ صدقًا ووفاء ..
وتمرُّ عقاربُ العمرِ بخفِّة وتسارع ، ولاشيء يؤخرها أو يعيدها إلى الوراء ..
وحده من يولجُ الليلَ في النهار ، ويولجُ النهارَ في الليل ، وهو عليم بذات الصدور ..
وأرواحُنا تنامُ في سرر الأمل والحلم ، وقلوبنا تعانقُ الريحَ وأهداب الفضاء ..
أيُّها القلب أين أنت من كل هذا ..؟!
أَوَ لازلتَ متناغماً مع الماء وخرير السواقي ، ولا تزال الشمسُ تُقبّل وجهَك كل صباح ندي ..؟
كيف تحيا ..
أو لا تزال كما كنتَ ، روحاً محمولةً على جناح النور ، مرتحلًا بين الشوق وسُهدِه ، وبين مرارة الشغف والظمأ ..؟
كلّ الفضاءات ضيقة ، دون حضنٍ يتَّسع بك ولا يضيق .. وليست كُلُّ الرهانات خاسرة .. وبوسعك أن تدفعَ بالحب للأمام .. ويمكن لك أن تمسكَ به ، أو تدعه يهربُ بعيدا .
كل شيء بقدر .. وهذه أقدارنا .. لم نصنعها ولا نملك مردها أو تغييرها .. ولابد أن نعيش اللحظةَ كما جاءت ، ولا نعترض أو نمتعض .. ونسأل الحيَّ الذي لا يموت ، الأمانَ والعافيةَ .. وأعيننا مثقلة بالسهد ، وأرواحنا ترقب الخلاصَ ، وقد دنت في الأفق خيوط المغيب .
اليوم لا يشبهُ الأمس . ومن مات من الاستحالة أن يعودَ .. وبيت هنا يزغردُ ويفرح ، وآخر يبكي ويشتدُّ بكاءً .
يقف عمّي إبراهيم مُوشَّحاً بعباءةِ الصبح .. يدعو بصوت هادئ وعجيب :
– يهل الله .. يهل الدار ..
فزعتُ عند سماعي صوتَهُ المباغت .. فهبطتُ السلم ، ولم أدرِ كيف بلغت بي خطاي ، حتى وجدتُني أفتحُ له الباب .
وقف للتو وجهه بوجهي ..
رأيت في عينيه تعباً ، وساعات نوم لم تكتمل ..
بادرني بصوتٍ متسائل :
– أو لا يزال أبوك نائماً ..؟
أجبته بتوجّس :
– لا أظن ذلك ، فقد سمعتُ صوتَهُ قبل أن تجيء .
ولم أكد أكملُ كلماتي ، حتى سمعتُ أبي يدعو عمّي للدخول إليه ..
جلسا في ضيقة البيت متقابلين (1) .
شعرت وكأن عمّي إبراهيم سيقول شيئا ، ولا يرغب أن يسمعهما أحد .
صعدتُ إلى أعلى البيت ، واندسستُ في غرفتي ، ملتحفاً بغطاءٍ أكثر دفئا ونعومة ..
البرد ينخر مفاصلَ جسدي ، ورأسي يضجُّ بالتساؤلات القلقة .
أرسل نظراتي تجاه نافذتَي غرفتي ..
وقد بدأت تخترقهما خيوطُ ضوءٍ لا تزال باردة .
شتاء قارس ، وبرد جاف ، لم أشهد مثله .. تجمَّدت المياهُ في البيوت والسواقي .. واخشوشنت الأجسام والوجوه ، ولم تحتمل جلودُنا تكاثف البرد ، واكتنفَ حياتَنا المللُ والضجر ..
اجتمع الفقرُ والبؤس ، ونَقَر البيوت العوزُ ، ولم تكشف الناسُ بؤسَها وجوعَها وقليلٌ هي المنازلُ الميسورة حالُها ، وأغلب النجع يتساوون في الجوع ، ويطعمون بعضا وقت الاكتفاء .
رغم كل شيء ، لم يكنز بيت طعاماً .. دون أن يطعمَ البيوتَ المجاورة ..
في خضم تساؤلاتي وقلقي ، مما يحدث فينا وحولنا .
إذ صعقتُ عند سماعي صوت أمّي ، قائلةً بعمق وتأثر :
– كيف يرضى أَن يزوّجهَا من رجلٍ لا يعرفُ عنه أيَّ شيء ..؟
ضحكَ أبي وتنهَّدَ بارتياح ، وقال كمن هو غير مبال :
– هذا الأمرُ لا يعنيني شيئًا .
قالت أمي بخوفٍ دافق :
– الأجدر بك أَن تنصَحَهُ .
ردَّ بغضب وتساؤل :
– أنَصَحه ..!
ثمَّ صمت برهةً ، وحملق بقوة في وجه أمي ..
وقال بصوت غاضبٍ منذر :
– هذا شأنُه ..
وحذارِ أن تتفوهي بشيء كهذا ، أمام الآخرين .
قالت أمي بصوت منقبض :
– لا يصحُّ أمر كهذا ..
جزعت روحي واضطربت دواخلي ..
صحيحٌ أنَّني لَم أفهم ، ولم أتبيَّن ما سمعْتُ ..
فنفضتُ لحافي ، وغادرتُ سريري ، وقلتُ لأبي مستوضحا عن الخبر الذي وصلني بغتة ..
رد بصوت لا مبالٍ :
– تقدّمَ عريسٌ لهدى …
قاطعتهُ وخنقة تملؤني ..
– لا ..
رد أبي بتساؤلٍ ممض :
وماذا يعنيك أمرٌ كهذا ..؟
قلت بقلق وحنق :
– بل يعنيني كثيرا .
قال أبي ، كمن يستوضح شيئا :
– ماذا قلت ..؟
فقلت مؤكِّداً كلامي :
– بل يعنيني ..
– يعنيني كثيرًا ..
وقَفَ أبي ممتلئاً غضبا ثم قال :
– أَنتَ لسْتَ وليَّ أمرِها .
ثم صَفَقَ البابَ بعصبية وتركنا ، وغاب في صمته وعزلته ..
وروحي تموت كل يوم ، وتُقتل بأساليب وطرقٍ عدة .
السحر والجمال والفتاة الرائعة ..
تُسْلَبُ من بين يدَيّ ، وأنا أقفُ بخضوع وصمت .
كيف يحدثُ أمرٌ كهذا ..؟!
يجب أن أحزمَ وأتدبَّرَ أمري ..
فالوقتُ يزحفُ ، ويسرق روحي .. وقلبي يعيش موته والعذاب .
أَوْ هَلْ يخجلُ العشّاقُ من حُبّهم . وأرواحهم تتلظى على جمر التشهِّي .. وحرائق السهد والاشتياق ..؟
أريد أن أصرخَ بملءِ صوتي ، وأشقَّ جدران الصمت البائسة .. – كفى ..
تعبتُ ، ولا أرغب أن أموت وحيدًا .. وعيناي تتأمَّلان موتي ، ونهايتي التي أرادها لي أبي .. وحيد في غرفة باردة ، تملؤني توتراً وسأماً وتمنحني الصبر والتروِّي ، وتهيِّئُني للنوم برفقة فتاة ، لا تدرك ما يدور حولها ويعتمل .
مصيري معلقٌ بكلمة واحدة .. تضعُني على سكَّةِ الحياة ، أو ربما تقودني نحو الهلاك ، بمزاجٍ تعسٍ وكئيب .
كان المطرُ والثلجُ ، يضرب الأبوابَ والنوافذَ ، وعواصف تحمل صقيعا وبردا ، وفي الأفق غيومٌ تلوِّنُ وجهَ السماء ، وفي داخلي ينبضُ قلب ، يمتلئ وجعاً وألما ..
ليس سوى نفسٍ ، ونبضة قلب ، تباعد بيني وبيت عمّي إبراهيم ..
خطوة أوْ خطوتان وأحادث وأنظرُ وجهَ من أحبّ ..!
أو سأنتصر أم أغادر منهزماً ، أجرُّ الخيبةَ ، وجرح لا يبرأ أو ينطفئ ..