حكايات
فائز محمد باعباد
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 7 .. ص 112
رابط العدد 7 : اضغط هنا
انتهت هذه الحكاية قبل أكثر من مائة سنة، جرت أحداثها ربما في بداية حكم القعيطي، أبطالها، الأول: هو الساري بن هدوف بن حمد الهزيلي (من بيت العور بيت العسل) سكن منطقة المحجر وأقام فيها منطقة نفوذ امتهن القتل والتقطع وطغى وتجبر فخافه الناس حتى قيل إنه كان يطلق حميره في مزارعهم فلا يجرؤون على الجهر بالشكوى ، ملك الساري فيما بعد أراضي زراعية منها بئر في المحجر كانت لآل النقيب اليافعيين أعطيت له مقابل مقامه في استرجاع حقوق لهم، فابتنى بجوار البئر حصنًا (جنوب غرب المحجر) ما زالت بقاياه ماثلة (ومازال البئر والحصن يسميان باسمه).
البطل الثاني: يدعى أحمد بن علي السناني البكري اليافعي قدم من يافع جنديًا لتثبيت الحكم القعيطي وترسيخ الأمن والسكينة في منطقة تغلي بالفتن والقلاقل، لكن السناني الشاب ترك مبكرًا الجندية خلف ظهره وتحول إلى حياة القتل والنهب والتقطع ، وسبب هذا التحول -كما يقال- زواجه في المحجر من بنت مشقاصية من أسرة ثعينية من بيت العربي -بكسر العين- وكان أصهاره يتقطعون وينهبون ككثير من أمثالهم في ذلك الزمان، فطلب الحاكم القعيطي في قصيعر من الجندي السناني إحضارهم للتفاهم والمصالحة ، فحضروا استرضاء لصهرهم، لكن الحاكم غدر بهم وأشهر جنوده السلاح عليهم وطلبوا منهم الاستسلام فلم يذعنوا وأشهروا بدورهم بنادقهم على الجنود ولم يبق إلا أن تنطلق أول رصاصة لتبدأ المعركة الرهيبة المكشوفة ، في هذا المشهد طلب آل العربي صهرهم السناني ولم يكن موجودًا، وقالوا نريد أن نفهم فقط أكان على علم بما خطط له الحاكم القعيطي أم لا ؟ ، فقدم السناني فلما رأى البنادق مشهرة انحاز لأصهاره ووجه بندقيته مثلهم نحو الجنود زملائه … ثم أخذوا يتراجعون رويدًا وبنادقهم مشهرة حتى ابتعدوا عن الجنود وعادوا إلى مواطنهم . انضم السناني إلى أصهاره في النهب والسلب والتقطع حتى وصل نشاطهم إلى الديس والحامي ، وكان السناني الأخطر والأسرع والأكثر بطشًا، واشتهر وأخاف الناس وأرهبهم فقد ذكروا أنه دخل الحامي لسرقة مستودع (حوش) فلما اقترب منه سمع أحدهم ينصح الحارس ويحذره من السناني فكأن الحارس استخف بالتحذير وتحدث بما لم يرق للسناني ، فكمن له ثم هاجمه وأخذ من المستودع ما أراد، ثم قطع أذني الحارس ووضع على مكان أذنيه المقطوعتين رمادًا وتركه يتلوى من الألم ، كان نشاط السناني أشد وجعًا؛ لأنه كان يعلم مواضع ضعف الدولة وقوتها لكونه كان جنديًا ، فأقلق الرجل السلطنة ووصل به الأمر لضرب الجنود ومهاجمتهم في حصونهم .
أمام كل هذا لم يجد الحكام القعيطيون حلًا للسناني إلا التفكير في اغتياله إذ كان القبض عليه حيًا أشبه بالمستحيل، بحثوا عن قاتل مأجور فلم يهتدوا إلا إلى الساري بن هدوف؛ إذ لا ندَّ ـ فيما يبدو ـ للسناني إلا الساري، الذي استدعي إلى الريدة لمقابلة الحاكم القعيطي هناك فذهب برفقة أخيه من الأم علي بن الحصين بن القرن العجيلي ، انتهت المقابلة وعلم الساري أن المطلوب قتل السناني مقابل ثلاثمائة قرش (وكان مبلغًا لا بأس به وقتها). كان الساري العجوز يعلم بقدرات السناني الشاب وبصعوبة المهمة لكنه وافق تحت ضغط النقود فيما يظهر ، انطلق الساري وشريكه ابن الحصين إلى المحجر على حمار لهما ووصلا لمنطقة تسمى (البحاري ـ بالتحديد بين بئر العسيلة والرباط ـ ) كان الوقت عصرًا قبيل غروب الشمس، السناني كان في خيمة له بالقرب من مزارعين يجمعون محصول (البطاطة) ، ويبدو أنه علم بخبر استهدافه والظن أنَّ مَنْ سرَّب له الخبر أحد الجنود الذين يعرفهم من داخل أروقة الحكم القعيطي، لكن غلبه الشك لعلاقة الاحترام التي كانت بينه وبين الساري فلم يصدق السناني أن الساري سيأتي ليقتله حتى ذكروا أنه قال: (ما الذي بيني وبين عمي الساري لكي يقتلني ؟) كان الاحترام والتقدير بين الرجلين الخطرين ظاهرًا لا يخفى، لكن الله العادل سبحانه أراد أن يضرب الظلم والتجبر بعضه ببعض ليعتبر المعتبرون.
المشهد الأخير:
فيما وقف السناني يراقب تقدم الرجلين منه وعينه على بندقيته ، كانت خطة الساري وأخيه استخدام الخنجر (الجنبية) غيلة فلم يشهروا بنادقهم كي يطمئن الرجل، لكنهم لاحظوا تنبه الرجل وحذره فبقي الساري على هدوئه في حين ارتبك الأخ العجيلي وأراد أن ينهي المهمة مع تجنب الاحتكاك المباشر بالسناني فأشهر بندقيته وأطلق عليه رصاصة لم تصبه وقيل أصابت أصبعه ، فاستل السناني جنبيته وقفز نحوهما قفزتين بالعدد -كما يذكر- فطعنهما في بطنيهما في ضربتين سريعتين ثم استوى قائمًا يرقص بخنجره محتفلًا فرحًا بانتصاره ، وفي غمرة الرقص سقطت عمامته فتعثر فيها وسقط بجوار الساري المضرج في دمائه فأراد السناني احترازًا أن يثني الطعنة لكن الساري بما بقي لديه من قوة أمسك بيده ثم أغمد خنجره من أيسر صدره لنصفه حتى أتى على بعض أضلاعه، قيل إن السناني قال مستغيثًا بقاتله: (ما هو بها يا عم الساري )، فرد عليه الساري (اليوم مسراحنا واحد )، أي: اليوم سنرحل عن الدنيا سواء ، انتهت المواجهة . فأما العجيلي فمات من فوره، وأما السناني فأخذه أصحابه إلى خيمته بعد أن وضعوا رباطًا حول صدره، وأما الساري فحمل إلى حصنه ووضع رباط على بطنه ، ولم تكن الخيمة والحصن بعيدين عن بعضهما البعض.
بقي الساري في حصنه يغلي منشغلًا بالسؤال مرددًا: هل مات السناني ؟ هل مات السناني ؟ هل مات السناني ؟ … حتى أشفقوا عليه لكن لم يجرؤ أحد على الذهاب لخيمة السناني للتأكد ، انتصف ليل ذلك اليوم وما زال الساري يسأل، وبعد منتصف الليل امتلكت بنت للساري الشجاعة لتخرج من الحصن في الظلام تريد أن تطفئ لهب السؤال المعلق في حنجرة أبيها تلصصت – قيل برفقة ابن عم لها – حتى وصلت لخيمة السناني ، فالعجب أنها لم تجد أحدًا حول الخيمة، دلفت للداخل فإذا بالسناني وحده ممددًا مستلقيًا على ظهره وفي يده خنجره مرفوعًا فوق رأسه، فخافت في البدء لكنها تقدمت بشجاعة نادرة حتى اقتربت منه فأمسكت بيده التي تحمل الخنجر -حذرًا- لكنها وجدت يدًا وأصابع متصلبة ورجلًا قد فارق الحياة منذ فترة، ذهبت لأبيها تزف له البشرى، ولما علم الساري بأن مهمته الأخيرة التي دفع من أجلها حياته قد أنجزت طلب فك الرباط من على بطنه ، فقال له أهله: سنعالجك، فرد عليهم قائلًا: (ما بعد طعنة السناني عافية) .
في اليوم التالي خرجت ثلاث جنائز دفنت في ثلاثة قبور متوازية في مقبرة (كنيبة) بالمحجر، قيل حسب وصية الساري الذي أوصى أيضًا بأن تكون كل تكاليف الجنائز من ماله ، طوى هذا المشهد صفحة سوداء لكن لحقت المشهد الأخير مشاهد أخرى خارج زمن الساري ، إذ قتل اثنان من أبنائه بعد مقتله في قضايا طلب ثأر، في حين هرب الثالث لسواحل أفريقيا هربًا بحياته، هذه أهم تركة يمكن أن يخلفها رجل كالساري لورثته دائمًا بلا نهاية .