أضواء
منير بن سالم بازهير
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 8 .. ص 16
رابط العدد 8 : اضغط هنا
انتشرت في بلاد حضرموت في العصر الجاهلي، وكذلك الإسلامي أسواق كثيرة، اتجر بها الناس في مختلف أصناف التجارة، الرائجة في تلك العصور، وهي بحاجة لتسليط الأضواء البحثية، لتوفير مادة علمية حافلة؛ تغني الباحث الطموح ولو من بعض الوجوه، بمعلومات وافية حول تاريخ وطبيعة هذه الأسواق، وما مارسته من تأثير على الذات الحضرمية؛ ومن ثمَّ المجتمع الحضرمي في تلك الأحقاب التاريخية السحيقة.
وفي هذه السطور سأتكلم عن الأسواق الحضرمية.. وسأتعرض في مقالي هذا لتحديد أماكن هذه الأسواق، وأوقاتها، وما يباع فيها، ومن يتردد عليها من الناس، وأثرها على الاقتصاد والثقافة في المجتمع الحضرمي الجاهلي والإسلامي.
وهذا الموضوع في اعتقادي من الأهمية بمكان لعدة أسباب منها:
وسأسلك في كتابة بحثي هذا مسلك الوصف والتحليل والاستقراء؛ ما استطعت إلى ذلك سبيلًا، ولا أشك في أن الكتابة في موضوع كهذا؛ ستفتقر إلى مزيد من المتابعة والتعمق، والمسح الميداني، لجمع مادة أكثر دقة ورصانة، ولعلي بطرق هذا الموضوع أجد بين عالم الباحثين والمتخصصين، من يرشدني إلى ما يكمل ويتمم الفراغ في جوانب كثيرة أخرى تتصل بأسواق حضرموت في العصر الجاهلي أو الإسلامي. ولكن كما قيل: (ما لا يدرك جله لا يترك كله)، و(الميسور لا يسقط بالمعسور). ولهذا سأتحدث عن هذه الأسواق حسب ما تيسر لدي من معلومات أعدها أولية بالنسبة لي.. أثمرتها المطالعة الخاصة في كتب التاريخ ومصادره ومظانه.
وقبل الخوض في صلب الموضوع سأعرف بمعنى السوق عند علماء اللغة والاقتصاد.
معنى السوق لغويًا واقتصاديًا:
جاء في (المعجم الوسيط) أن (السُّوق): الموضع الذي يجلب إِلَيْهِ المَتَاع والسلع للبيع والابتياع؛ وسوق الْقِتَال أو العراك أو الحَرْب مَوضِع اشتباك المتحاربين، وجمع سوق أسواق.
والسوق المَالِيَّة: سوق استغلال الأمْوَال لأجل طَوِيل؛ والسوق الحرَّة: سوق يتعامل فيها في خارج البرصة أو الجمرك، والسوق السَّوْدَاء: سوق يتعامل فِيهَا خُفْيَة هربًا من التسعير الجبري.
أشهر أسواق حضرموت في العصر الجاهلي:
أولًا: سوق الرابية:
ويعد من أشهر الأسواق بحضرموت، ولم يكن يصل إليها أحد إلا بخفارة -أي حماية قبلية- لأنها لم تكن أرض مملكة، وكان من عز فيها بزّ صاحبه -أي من غلب تمكن من حماية غيره- فكانت قريش تتخفر فيها ببني آكل المرار من كندة، وسائر الناس يتخفرون بآل مسروق بن وائل من كندة، فكانت مكرمة لأهل البيتين، وفضل أحدهما على الآخر كفضل قريش على سائر الناس([1]).
فيستفيد هذان الحيان من الخفارة والدلالة معًا ربحًا ماديًا، إذ كان كسبهم من أولئك التجار الذين يمشون بين أيديهم بسلاحهم يحرسون بضائعهم، ويحمون حياتهم، من اللصوص والصعاليك وقطاع الطرق، ويدلونهم على الطريق الآمنة بحذق وحنكة.
وكان سوق الرابية خاص بحضرموت ومن حولها، ولكن كثيرًا ما يأتيها الناس من بعيد، ولقريش قوافل إلى هذه السوق ترسلها في تجاراتها، وكان وقت هذا السوق من منتصف ذي القعدة حتى آخره، وربما قامت هي وعكاظ في يوم واحد، فكان بعض الناس يأخذ في التوجه إلى عكاظ وبعضهم يتوجه إلى رابية حضرموت([2]).
وإنما جعل زمن سوق الرابية بشهر ذي القعدة؛ لأنه من الأشهر الحرم، بل هو من أشهر الحج، إذ إن الحج لم يترك في الجاهلية لكنه مشاب بعقائد الكفر والضلال، وكان العرف العربي العام يمنع القتال في الأشهر الحرم.
وذكر أهل التاريخ مكان موقع سوق الرابية، فقال المؤرخ علوي بن طاهر الحداد: »وسوقٌ بالرابية، بوادي العين«([3]).
وفصل المؤرخ ابن عبيداللاه السقاف في تحديد الموقع فقال: »وبين البويرقات وغورب، مكان لا جمعة فيه يقال له الرابية، كانت تقيم فيه العرب سوقًا«([4]).
ومن هذه النصوص التاريخية تستفاد فوائد عديدة، هذه الفوائد تتصل بتسليط الضوء على زوايا مهمة عن طبيعة سوق الرابية، نلخصها فيما يلي:
1ـ أن الغلبة والشوكة كانت لقبيلة كندة في تلك العصور، وأنه لم يكن هناك حكم سياسي موحد يمتاز بالقوة والحزم والضبط لشئون البلاد، وهذا ما أشارت إليه عبارة صاحب (المحبر) القائلة: »ولم يكن يصل إليها أحد إلا بخفارة.. إلخ« وقد تقدمت.
2ـ أن الأصل في سوق حضرموت أنه سوق يعقد لأهل حضرموت وما جاورها، يتزودون فيه بما يحتاجون من سلع مختلفة لحول كامل أو ما يقاربه، وتعرض فيه مختلف المعروضات المسهمة في توفير حاجات الناس المتنوعة، والموسعة لحركة المال والاقتصاد بأرض حضرموت.
3ـ كما أفادت النصوص السابقة، أن هناك قبائل وافدة تشارك في توفير بضائع هذا السوق الحضرمي كقريش، ولا يمنع أن يكون هناك غيرها، فإذا كانت قريش القصية تشارك بالتجارة في أرض حضرموت، فلا مانع أن يأتي تجار من صنعاء، وتجار من عُمان وهكذا، وكل هذه القبائل المتاجرة بسوق الرابية تدفع ضريبة حماية كما تقدم تسهم في توسيع دورة عجلة الاقتصاد عند القبائل الحاكمة.
4ـ كان وقت هذه السوق من منتصف ذي القعدة حتى آخره، وربما قامت هي وعكاظ في يوم واحد، فكان بعض الناس يأخذ في التوجه إلى عكاظ وبعضهم يتوجه إلى رابية حضرموت، واختير الشهر ذو القعدة لتكون التجارة والتاجر أكثر أمانًا من اللصوص والصعاليك.
5ـ لعل أبرز ما يباع في هذا السوق، الجلود، والمواشي من الإبل والبقر والغنم، والمراكيب من خيول وحمر وبغال، وبخور، وأطعمة وتوابل وعقاقير تليق بذاك الزمن، وثياب ونعال، وزينة النساء، من الحلي كالفضة والذهب، وأنواع من وسائل الزينة كالنعال، بالإضافة إلى الأدوات المنزلية المصنوعة من الفخار والحديد والنحاس.
6ـ ذهب بعض أهل التاريخ من الحضارمة وهو العلامة عبدالرحمن بن عبيداللاه السقاف -رحمه الله تعالى- إلى أن موقع سوق الرابية يقع بوادي العين بين بلدتي البويرقات وغورب، وهما من القرى المعرفة بوادي العين، ولعل هذا التحديد وصلهم عبر التناقل اللفظي عبر أجيال متعاقبة من التاريخ، وبالجملة فما قدمناه يعد معلومات أولية عن سوق الرابية تفتقر إلى خروج ميداني، وتنقيب آثاري متخصص وأمين، يتولى التنقيب في هذه القرى، ونحن بحاجة إلى استقصاء تاريخي أدق، يكشف لنا عن حقائق أكثر دقة وتمحيصًا.
ثانيًا: سوق الشحر:
ويعرفه أهل التاريخ بـ(شحر مهرة)، فتقوم السوق تحت ظل الجبل الذي عليه قبر هود، وهو مكان معروف بحضرموت، هكذا ذكره المؤرخ محمد بن حبيب البغدادي (ت 245هـ) في كتابه (المحبر)([5])، حيث قال: »ولم تكن بهذا السوق عشور -أي ضرائب-؛ لأنها ليست بأرض مملكة، وكانت التجار تتخفر فيها ببني محارب بن هرب من مهرة، وكان قيامها للنصف من شعبان، وكان بيعهم بها إلقاء الحجارة، وكان غالب ما يعرض فيها الأدم والبز وسائر المرافق، ويشترون بها الكندر([6])، والمرّ، والصبر، ويقصدها تجار من البر والبحر«، وقوله: »يقصدها تجار من البر والبحر«، يفيد كثرة من يفد إليها من التجار من البحر العربي، ومن خلف البحار كالهند والسند ونحوها، وهذا يفيد كثرة وتنوع البضائع الآتية إلى هذا السوق.
ثالثًا: سوق قعوضة:
قعوضة: هي بلدة عريقة في جنوب هينن في حضن جبل، وهي: »سوق عظيم تردها القوافل، من: صنعاء والجوف وبيحان ونصاب ونجران«، هكذا قال ابن عبيداللاه السقاف في (إدام القوت)([7]).
ويظهر من هذا النص، أنه كان يوجد ببلاد قعوضة سوق تجاري عظيم ، يتزود منه الناس بمختلف الحاجات.. وأن هذا السوق بقي يمارس دوره إلى وقت قريب، وأنه محل للبضائع الحضرمية، مع بضائع تأتي من صنعاء والجوف وبيحان ونجران. كما يستفاد من نص (إدام القوت)، إلا أن المصادر لم تفصح عن تاريخ انعقاده.
رابعًا: سوق هينن:
قال المؤرخ ابن الحائك (ت 334هـ) في كتابه (صفة جزيرة العرب): »ثم هينن وهي قرية كبيرة، في أسفلها سوق«([8]). وتأمل قوله: »قرية كبيرة«، لتعلم أنه كان بهذا البلد حضارة قائمة تقتضي حكومة قائمة، ومعطيات اقتصادية وحياتيه تليق بهذا الوصف الصادر من ابن الحائك، وهي التي اقتضت إقامة سوق كبير بها، حتى لكأن بلدة هينن آنذاك كانت عاصمة لعدد من القرى المجاورة.
وهينن من أقدم بلدان حضرموت، وهذا مما لا شك فيه تاريخيًا، قال المؤرخ السقاف في (إدام القوت): »ولا يزال بهينن كثير من الآثار والكتابة بالمسند على الأحجار، وفيها حصن كندة القديم، الذي كان يسكنه الأشعث بن قيس، وكان يخرج منه ألف وخمسمائة فارس بِشَكَّتِهم، ويطلق عليه اليوم حصن فرحة«([9]).
وقِدم هينن تؤكده النقوش التي يعود تاريخها إلى ما قبل الميلاد، كما ذكر بعض ذلك جواد علي في (المفصل)، وأشار إلى أنها تعود إليها الكتابات المعروفة بـ Jamme 649)).
ولأهمية بلاد هينن التجارية تحدث أهل التاريخ عن طرق التجارة إليها، وذكروا عدد من المراحل بينها وبين صنعاء، فقال السقاف في (الإدام): »أما الطريق من أثناء حضرموت إلى صنعاء، فسبع مراحل: الأولى: من هينن وعروض آل عامر إلى دهر، والثانية: من دهر إلى رملة شبوة، والثالثة: منه إلى صافر، وهو موضع الملح المشهور، الرابعة: إلى مأرب، الخامسة: إلى صرواح، السادسة: إلى الحمرة، والسابعة: إلى صنعاء.
وأهل زماننا ومن قبلهم بردح لا يستطيعون هذا السير؛ وإنما كان الأولون أهل نشاط وعزم، ولذا كثرت بينهم المواصلات؛ لأن الجزيرة قريبة من بعضها في أنظارهم«([10]).
خامسًا: سوق حجر:
ذكره ابن عبيداللاه السقاف في (الإدام)، وقال: »إنه يقع في السفيل من قرى وادي العين«([11]).
وحجر بلاد تقع على بعد خمسين كيلومترًا غرب المكلا، فلعل المراد بسوق حجر إتيان معروضات تجارية إلى هذا المكان من بلدة حجر، فسمي السوق بهذه التسمية، ولا مانع من وجود عروض تجارية أخرى، لكن الغالب للمنتوجات الحجرية هو من تمور ومنتجات خوصية ونحوها.
والمتبادر إلى الذهن من كلام ابن عبيداللاه السقاف أن سوق حجر المنعقد بسفيل وادي العين غير سوق الرابية المتقدم فليلاحظ!
ولذا فإن مما يشكل على الباحث فيما يتصل بسوق حجر، هل هو من الأسواق الجاهلية القديمة؟ أو أنه سوق قام على غرار ذكريات سوق الرابية الماضي؟ احتمالات! لأن ابن عبيداللاه السقاف لم يصرح بأنه سوق جاهلي قديم، ولذا يحتمل أن يكون حدث في عصور متأخرة، فالمسألة تفتقر إلى مزيد من التحرير والتدقيق والمتابعة، وإنما ذكرته هنا إتحافًا للباحث بمعلومة قد تنير له الدرب في يوم من الأيام، وحسبي أني رصدت سوقًا آخر من أسواق حضرموت؛ قد يقصده بالدراسة المستوعبة غيري في وقت قريب، أو بعيد.
وكما أسهمت الأسواق الحضرمية في الرخاء الاقتصادي بحضرموت آنذاك، أسهمت في تحقيق مكاسب معنوية ومادية أخرى، كالترابط القبلي، وتبادل المعرفة والتجربة والحكمة اللائقة بتلك الحقب، والتلاقح الفكري والحضاري والثقافي، ولا نشك في أنها أسهمت في تقوية الصناعة اللغوية والأدبية والشعرية عند الحضارمة؛ لأنه كان من السائد المتعارف عليه عند العرب أن يصاحب الأسواق التباري في قول الشعر كسوق عكاظ تمامًا.
أما قضية التزاوج بين القبائل الحضرمية والقبائل الشريفة المتاجرة فقد أشار إليه الدكتور يوسف خليف، حينما تكلم عن نظام الخفارة والجوار الذي تتولاه القبائل الحضرمية حماية للقبائل المتاجرة فقال: »وكان هذا الجوار عملًا مربحًا يسعى وراءه سادة الصحراء سعيًا شديدًا، فقد كان أصحاب القوافل يشركونهم في عملياتهم التجارية، أو يقاسمونهم الأرباح، أو يفتحون لهم حسابات جارية في نوافذ مصارفهم، على حد تعبير (لامانس). ولم يكن يعدل سعي هؤلاء السادة وراء هذا الجوار إلا حرص أصحاب القوافل عليه، حتى لقد كانوا يستميلونهم أحيانًا بالمصاهرة«([12]).
وينبغي أن نفهم أن أرباب التجارات الوافدة إلى حضرموت إذا أتموا بيع تجاراتهم تزودوا بالبضائع الحضرمية التي لا توجد ببلدانهم وساروا بها إليها، وهذا كلام منطقي لا مناص عنه، وممن أكده من دارسي التاريخ الدكتور يوسف خليف في كتابه: (الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي) حيث قال: »ومن الطبيعي أن تقوم على طول هذه الطرق التجارية، حيث يوجد الماء مجموعة من الأسواق تنزل فيها القوافل التجارية، ويقبل إليها سكان هذه المناطق والمناطق التي تجاورها بسلعهم، ويقوم بين الفريقين تبادل تجاري، ترحل بعده القوافل ببعض ما تنتجه هذه المناطق، ويعود سكان هذه المناطق ببعض ما كانت تحمله هذه القوافل مما يحتاجون إليه ولا تنتجه بلادهم«([13]).
وبعد كل ما ذكرته أقول: إن قلمي يرغب في تسطير الكثير من المعلومات، عن طبيعة تاريخ الأسواق الحضرمية، وإن في الذاكرة لوفرة من المعلومات حول السوق الحضرمية، ولكن رومًا للاختصار وخوفًا من الملالة، سأقف هنا، على أن أكتب في مقال قادم عن البضائع المباعة في أسواق حضرموت في تلك الأحقاب القديمة، لنتعرف على الكثير من المصنوعات والمنتوجات الحضرمية.
وختامًا أقول ما قاله المؤرخ الشاطري رحمه الله تعالى: »فحضرموت لا تزال بكرًا ولم يعلن عن اكتشاف شيء مما يظن وجوده فيها. وربما يكشف لنا المستقبل بواسطة تقدم علم الحفريات أو محققي المؤرخين الاختصاصيين عن معلومات واسعة يعتمد عليها«([14]). فمتى يا ترى يكشف لنا التاريخ عن مُحجبات آثار وأخبار حضرموت الكثيرة البلدان، الواسعة الأودية، المتصلة بحضارات متنوعة وموغلة في القدم؟ هذا وبالله التوفيق.
([1]) الأفغاني، أسواق العرب في الجاهلية والإسلام، ص276.
([2]) محمد بن حبيب، المحبر، ص267، وأسواق العرب في الجاهلية والإسلام، ص225.
([3]) الحداد علوي بن طاهر، الشامل في تاريخ حضرموت، ص، الطبعة القديمة.
([4]) إدام القوت، ص430، طباعة دار المنهاج.
([6]) الكُنْدُر هو: اللُّبَان. انظر: المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، ص2، ص548.
([11]) إدام القوت، ص92، طباعة دار المنهاج.
([12]) يوسف خليف، الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي، ص142، الناشر: دار المعارف، الطبعة الرابعة.