دراسات
د. محمد صالح بلعفير
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 8 .. ص 32
رابط العدد 8 : اضغط هنا
مقدمة:
حضرموت أرضًا بما فيها وما عليها لا تحتاج منا إلى ثناء أو تقريظ، فهي بمختصر القول أرض أنبياء، وقد خلد اسمها في الكتب السماوية مثل: (حزراميت) في التوراة، و(الأحقاف) في القرآن الكريم، وكانت بحق أرض دين قبل الإسلام وبعده. فقبل الإسلام انتشرت في أرجائها المعابد للإله الرئيس (سين)؛ ولأن الدين هو الأخلاق والمعاملة كان الحضارمة أهل دين وأمانة، أمانة تردد صداها في مرويات العرب ومصنفاتهم التاريخية، وفي الإسلام كانوا من القبائل والوفود السبّاقة إلى اعتناق الدين الجديد، وتميزوا بمشاركاتهم في الفتوحات الإسلامية، وتولي المناصب الرفيعة في الدولة الإسلامية، وحديثًا في نشر الإسلام في شرقي آسيا بالحكمة والموعظة الحسنة والأخلاق والقدوة.
وحضرموت قبل الإسلام عرفت حضارة كبيرة زاهرة ومزدهرة، ترددت أصداؤها في العالم القديم وبخاصة في الشرق الأدنى ومصر وعالم البحر الأبيض المتوسط (اليونان وروما)، ودوّنت أخبارها وانتعاش تجارتها وقوة اقتصادها المؤلفات الكلاسيكية ولا سيما عاصمتها شبوة وميناءها الرئيس قنا (بئر علي حاليًا)، آنذاك كانت حضرموت مملكة واسعة مترامية الأطراف، مساحتها أكبر بكثير من مساحتها في عصرنا، وتعاقب على حكمها ملوك عظماء، ودوَّنتْ إنجازاتها النقوش.
ومنذ القدم كانت حضرموت مثار حسد وطمع، حسد امتد إلى أيامنا؛ حيث أقدمت الإجراءات الثورية والتقسيمات الإدارية لحكومات ما بعد الاستقلال إلى اقتطاع أجزاء منها وضمها إلى محافظات أخرى، ولعل خير مثال على ذلك (مديرية عرمة)، التي ضُمَّتْ إلى المحافظة الرابعة وفقًا للقرار الجمهوري للمحافظات الرقمية، ثم تسميتها بمحافظة شبوة فيما بعد، وهي تسمية تحسب للقرار لا عليه.
تهدف هذه الدراسة إلى التعريف باكتشافات عصور ما قبل التاريخ في حضرموت (العصور الحجرية)، بالاستناد إلى مشاركتنا في أعمال المسح والاستكشاف والتنقيب لبعثة الآثار الفرنسية لموسمين في النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي (العشرين) في محيط مدينة شبوة عاصمة مملكة حضرموت وضواحيها، وكذلك مشاركتنا في الحفائر الآثارية للبعثة اليمنية السوفيتية العلمية المشتركة في القزة بمديرية دوعن لموسم واحد عام ١٩٨٤م، فضلًا عن المقالات العلمية التي قمنا بنشرها في عدد من الصحف والمجلات الوطنية في الفترة المذكورة، زيادة على التقارير الآثارية لتلك الاكتشافات والحفائر.
أول بعثة آثار في حضرموت:
في عام 1937م حطت بعثة الدكتورة جرترود كاتون ثومبسون الإنجليزية الرحال في أسفل وادي عمد أحد الروافد الأساسية لوادي حضرموت. وبالرغم من أن طبيعة عملها كانت تنحصر في الحفائر الآثارية ﻷحد مواقع ما قبل الإسلام الذي حدد تاريخه بالقرن الخامس قبل الميلاد، فإن فريق البعثة قد التقط عددًا من الأدوات الحجرية الصوانية من وادي عمد، وشبام، والمكلا، نشرتها ثومبسون في أربع مجموعات: ثلاث منها تعود إلى العصر الحجري القديم اﻷوسط (الباليوليت الوسيط)، فيما صنفت المجموعة الرابعة بالعصر الحجري الحديث (النيوليت).
صلات حضارية وأسئلة معلقة:
وفي مطلع الخمسينيات وقع اختيار بعثة المؤسسة الأمريكية لدراسة الإنسان التي قادها وندل فيليبس على وادي بيحان، وفيه اختيرت ثلاثة مواقع من فترة ما قبل الإسلام، هي هجر كحلان (تمنع) عاصمة مملكة قتبان، وهجر بن حميد، وحيد بن عقيل (مقبرة تمنع). وقد تمكنت البعثة من الحصول على نتائج قيمة فيما يخص «شبكات وتقنية الري والموجات المتعاقبة للتأثيرات الحضارية من أجزاء أخرى من العالم القديم» أرخت بالقرن العاشر قبل الميلاد (الألف الأولى ق. م).
لم تنقطع البعثات العلمية بعد هذا التاريخ، فقد وصل عالم الآثار الإنجليزي ج. لانكسترهاردنج في نهاية عام 1959م، للقيام بمسوحات آثارية فيما كانت تعرف بمحميات عدن، وقد خرج من مسوحاته بنتائج، كان من ضمنها جمع عدد من الأدوات الحجرية من موقع مكينون بوادي حضرموت، وحبروت بالمهرة، كما تمكن من مشاهدة عدد آخر منها في الطريق من هينن إلى ثمود.
بعثة أمريكية في حضرموت:
وفي عام 61/ ١٩٦٢م جاءت إلى وادي حضرموت بعثة معهد سميثسونيان الأمريكية التي قادها الدكتور ڤان بيك، ويمكن القول إنها البعثة الوحيدة إلى ذلك الوقت المتخصصة في عصور ما قبل التاريخ. وكانت تسيطر على تفكير علمائها مجموعة من الأسئلة، فعلى الرغم من النتائج العلمية لبعثتي ثومبسون ووندل فيليبس فإن «ثمة ثغرات كان لا بد من معرفتها وهي تتعلق بتكنيك الصناعة التي نفذت في عصور ما قبل التاريخ ما بين العصر الحجري القديم الأوسط، الذي التقط بعض أدواته فريق كاتون ثومبسون، ونتائج الصلات الحضارية، التي حدد تأريخها بالقرن العاشر ق. م في وادي بيحان، والقرن الخامس ق. م في حريضة، وزيادة على ذلك كانت هناك جملة من الأسئلة التي لم تلق بعد جوابًا لها، وهي تتعلق بدور بلاد العرب الجنوبية فيما إذا كانت قد لعبت دورًا بالفعل في انتشار السمات الحضارية، وهجرة الإنسان، وتطور التجارة، وتبادل النباتات والحيوانات بين آسيا وأفريقيا».
وبعد انقضاء ثلاثة أشهر ونصف من العمل الميداني أنجز خلاله مسح المنطقة الواقعة فيما وراء تريم وحتى القطن، توصلت البعثة إلى مجموعة من النتائج والاستنتاجات حول الصناعات المبكرة من الأدوات الحجرية، التي حدد تاريخ أقدمها بالمرحلة اللڤالوازية الموستيرية، وهي من مراحل العصر الحجري القديم الأوسط (الباليوليت الوسيط).
الفرنسيون في الميدان:
وبعد عقدين من الزمن التحقت سنة 1983م بـ(بعثة الآثار الفرنسية) التي أجرت حفائرها في موقع مدينة شبوة العاصمة التاريخية لمملكة حضرموت بمحافظة شبوة حاليًا، وهو من مواقع ما قبل الإسلام، الدكتورة ماري لويز اينيزان، بعد أن اكتشفت البعثة في أثناء مسوحاتها الميدانية عددًا من الأدوات الحجرية، وقد قامت بمسح استطلاعي غطَّى مناطق متفرقة من مديرية عرمة، شملت المنطقة المحيطة بمدينة شبوة، ووادي العطف، ووادي مقاه، وخشم رميد، وخشم طهيفات، والعقيبات، وغرانوق، وجبل النسر الشرقي، بما فيها الملاجئ الصخرية (الكهوف)؛ وذلك لمعرفة فيما إذا كان الإنسان البدائي قد استغلها كمساكن جاهزة أم لا؟ وهل هناك دلائل تشير إلى ذلك الاستيطان؟ وقد أمكن خلال المسح جمع أدوات حجرية كثيرة من الصوان.
إن الأدوات الحجرية التي اكتشفت في خشم طهيفات، وهي عبارة عن مطارق وفؤوس يدوية، وظف فيها أبسط أنواع التكنيك، تنتمي إلى العصر الحجري القديم الأسفل. ولكن هذا التكنيك لم يقف عند تلك الحدود، فلقد وجد التطور اللاحق للعمل في تكنيك أدوات الإنتاج في وادي مقاه، فمن أسلوب الطرق على الأطراف والكحت من الجانبين، انتقل التكنيك إلى تشذيب الحافات القاطعة تشذيبًا دقيقًا، ومن الحجم الكبير للأداة الحجرية، أصبحت هذه الأدوات تتميز بصغر حجمها ودقة صنعها، بل إن أشكال الأدوات أصبحت أكثر تمايزًا. لقد مثل انتشار الأدوات الأكثر إتقانًا في وادي مقاه مرحلة لاحقة للتطور، تنتمي إلى المرحلة الموستيرية (نسبة إلى كهف موستيه بفرنسا).
وتتنوع أشكال الأدوات التي وجدت في وادي مقاه بين المطارق الحجرية والفؤوس اليدوية والشفرات ذات المقابض وأمواس الصوان المسقولة من الجانبين والمدببة الطرف وذات الشكل الأسطواني وهي أداة عالمية الاستعمال. وتتعدد استعمالاتها في إنجاز الكثير من العمليات الإنتاجية كالقطع، والاحتطاب، والتقشير، وسلخ جلود الحيوانات عن لحمها، وتنظيف الجلود من الشعر، وحفر الأرض، واقتلاع الجذور، وأيضًا استخدامها كسلاح حاد ضد هجوم الحيوانات المفترسة.
وتنحصر النتائج والاستنتاجات الأولية لهذا المسح في النقاط الآتية:
1- يمكن القول إن الحجارة التي طالها عمل الإنسان -وهي من الصوان الخام الموجود في الأحجار الكلسية العائدة إلى العصر الأيوسيني- توجد بغزارة سواء في سطوح الجبال أو على المنحدرات أو بالقرب من مجاري الأودية، ومن أربعة عشر موقعًا تمت معاينتها جمعت نماذج كثيرة من الأدوات الحجرية.
2- تشير الدلائل السطحية إلى أن المنطقة التي خضعت للبحث؛ قد مرت بالعصر الحجري القديم الأسفل، وتقدر فترتها الزمنية بمائة ألف عام، ولعل خير مثال على ذلك الفؤوس الحجرية المشغولة من طراز الأشولي.
3- تلت تلك المرحلة من (الباليوليت القديم)، المرحلة الوسيطة (الموستيرية)، وبخاصة المطارق الحجرية من المرحلة (اللڤالوازية)، التي تشير مظاهر الصناعة فيها إلى أن عمر الأدوات الصوانية يقدر بحوالي أربعين أو خمسين ألف سنة.
4- لقد مرت هذه المنطقة بالعصر الحجري الحديث (النيوليت)، وهو آخر العصور الحجرية؛ إذ تم اكتشاف عدد من الأدوات وبخاصة المثاقب والمقاشط.
5- إن العثور على أدوات تنتمي إلى كل من العصرين الحجريين القديم والحديث؛ يعني وجود ثغرة تمتد بينهما، إذ لم تكتشف أية دلائل تشير إلى أن هذه المنطقة قد مرت بالعصر الحجري الوسيط (الميزوليت).
وسعيًا نحو توسيع دائرة المسح والحصول على المزيد من النتائج عن استيطان إنسان العصر الحجري في المنطقة المحيطة بشبوة، واصلت الدكتورة اينيزان في نوفمبر من العام ١٩٨٤م مسحها الميداني، يشاركها في ذلك اوتلب لويس ألبرت المتخصص في الجيولوجيا. وقد شمل المسح الأخير مواقع جديدة هي: قرن مدر، والقويد، وأودية عين وخروة وثيب والجخير وهو من الروافد التي تصب في وادي جردان، وريدة ملجي، جمعت فيه أدوات كثيرة وظفها الإنسان القديم في العمليات الإنتاجية المختلفة، وتعود هذه المواقع خاصة في وادي الثيب والحرش إلى العصر الحجري الحديث؛ ففي موقع الحرش وجدت ورشة كبيرة لإعداد الأدوات الحجرية النيوليتية وصناعتها، وما يلفت النظر فيها أن الأدوات التي تتميز بصغر حجمها ودقة صنعها وتكنيكها الذي وصل إلى درجة عالية من الصقل والإتقان كالمثاقب وأمواس الصوان ورؤوس السهام التي لم يكتمل تجهيزها بعد، قد عثر عليها بأعداد كبيرة.
ومن الاكتشافات الجديدة الأخيرة يظل اكتشاف عدد من رؤوس السهام في موقع خشم رميد أكثرها إثارة. ويستدل من الشواهد السطحية أن هذا الموقع الذي يعود إلى العصر الحجري الحديث ربما يكون قد شهد استيطانًا بشريًا، نظرًا لوجود طبقة من الحريق فيه.
إن وجود ذلك العدد من رؤوس السهام في خشم رميد إضافة إلى رأس كبير لسهم آخر عثر عليه في قرن مدر، يشير إلى أن منطقة الموقعين التي زحفت عليها الرمال -إلا بعض البقع التي تنمو فيها الأعشاب التي تساعد على الرعي في الوقت الحاضر- كانت في الماضي منطقة الصيد خصبة، وأن الصيادين قد مارسوا مهنتهم لاصطياد الحيوانات، التي كانت ترتاد هذه المنطقة وتمرح فيها.
اكتشافات للبعثة المشتركة:
ومن بين مجمل الاكتشافات الجديدة تظل اكتشافات البعثة اليمنية السوفيتية العلمية المشتركة التي قامت بتنفيذ دراساتها وأبحاثها الآثارية والتاريخية والإثنوغرافية في كل من محافظة حضرموت وجزيرة سقطرى متفردة بنتائجها العلمية النادرة، فلقد أغنت نتائج البعثة لأعوام ٨٣/ ٨٤/ ١٩٨٥م في وادي دوعن بمحافظة حضرموت النتائج السابقة؛ إذ تمكنت من العثور على أدوات حجرية مبكرة جدًا، وجدت في خمسين موقعًا، في وادي الغبر وخاصة في شعب (وادي) القزة والهجرين وضواحي المشهد وخريخر وفي جول عروم وجول الركبة. وتعود أقدم الأدوات في مراحلها الزمنية إلى المرحلة المبكرة من العصر الحجري القديم المعروفة بالأشيلية (نسبة إلى موقع سان أشيول بفرنسا الذي وجدت فيه هذه الأدوات لأول مرة). وزيادة على ذلك فإن نتائج البعثة لم تقف عند حدود اكتشاف مواقع أدوات الإنسان القديم بل ووصلت إلى اكتشاف أحد أهم وأكبر مستوطناته في شعب القزة في عام ١٩٨٤م ومستوطنتين أُخْرَيَيْنِ في عام ١٩٨٥م هما (مغارة سقيفة العميرة) و(مغارة شرحبيل). لقد كشفت أعمال الحفر والتنقيب في مغارة القزة عن أدوات الإنسان القديم كما تركها في الطبقات الحضارية، كما وجدت بقايا عظمية ونباتية متكلسة ومترسبة على ضفة مجرى الوادي المحاذية للمغارة (الكهف).
ويعد اكتشاف الكهف آنذاك الأول من نوعه ليس في حضرموت بل وفي عموم شبه الجزيرة العربية استنادًا إلى معطيات أبحاث علماء الآثار وبعثات الآثار الأجنبية ونتائج الدراسات الميدانية لعلماء جيولوجيين، التي لم تشر إلى أية دلائل توحي بوجود مستوطنات إنسان العصور الحجرية. لقد جاء هذا الاكتشاف الباهر كتتويج للزيارات الميدانية، والمسوحات الاستطلاعية، التي قام بها العلماء والبعثات الأجنبية منذ العقد الرابع من القرن الماضي.
ويتميز وادي القزة أو ما يعرف بـ(شعب شرحبيل)، وهو أحد فروع وادي الغبر بمديرية دوعن بكثرة الكهوف التي استغلها الإنسان القديم كمساكن جاهزة، وبالينابيع التي ما زالت تتدفق إلى الوقت الحاضر، وبكثافة الأشجار والنباتات في الماضي، والتي لم يعد لها أي وجود، وأمكن معرفة أشكالها من صورها المطبوعة على الصخور. كذلك فإن وجود عظام طعام الإنسان البدائي وهي متحجرة ومترسبة على ضفة مجرى الوادي، والعثور على بقايا عظام لحيوانات ضخمة، تؤكد بما لا يدع مجالًا للشك بأن الظروف الطبيعية كانت مهيأة لاستيطان الوادي في تلك الحقب المبكرة من الحياة البشرية، وهذا ما تأكد من اكتشاف مجموعة من الطبقات الحضارية، التي تدل على أن الإنسان البدائي قد سكن هذا الكهف لمراحل زمنية متتالية من العصر الحجري القديم (الباليوليت)، استمرت مئات الآلاف من السنين.
لقد ساعد سقوط الكهف في بقاء وحفظ الأدوات الحجرية كما تركها سكانه، ذلك أنه لو قدر للكهف أن يبقى على حالته فإنه لن يسلم من وصول الناس والرعاة إليه لتحويله إلى سكن أو الاستظلال فيه، ومن ثمَّ ضياع قيمته العلمية، وهو ما شاهدناه في كهوف بعض أودية مديرية عرمة في محافظة شبوة في عامي ٨٣/ 1984م؛ إذ على الرغم من ارتفاعها عن مجاري الأودية، فإن حرمتها قد انتهكت وحولت إلى ملاجئ للماشية، وأصبحت أرضياتها مفروشة بأبسطة سميكة من فضلاتها.
تتنوع الأدوات التي وجدت في الطبقات الحضارية بين الكم الهائل من الأدوات القاطعة من المطارق الحجرية والفؤوس اليدوية، وبين العدد المحدود من الشفرات، التي كانت تستخدم لسلخ الجلد عن اللحم، وتنظيف الجلود من الشعر. ومن بين هذه الأدوات المصنوعة من الحجر الجيري، والتي يتدرج فيها مستوى التكنيك من البسيط إلى الأكثر إتقانًا، تبرز تلك الأداة – الفأس التي تأخذ شكل الكُمَّثْرَى وهي أداة عالمية الاستعمال.
ولم تكن هذه الأدوات هي الوحيدة التي احتفظت بها الطبقات الحضارية، فلقد وجدت بقايا موقد نار، ووجود ذلك الموقد قريبًا من مدخل الكهف يجعلنا نفترض بأن ناره كانت تشعل ليس لشي اللحم فقط بل ولتكون مصدر خوف للحيوانات المفترسة لتعيقها وتمنعها من الاقتراب من الكهف؛ إذ دخولها يهدِّد حياة سكانه بالموت.
وفي دليل المعرض الذي أقامته البعثة في متحف سيئون بعد انتهاء أعمالها في عام ١٩٨٥م ورد فيه بأن المواقع الحجرية المكتشفة ويبلغ عددها خمسين موقعًا، تنقسم إلى مجموعتين حسب طبيعة المميزات الخاصة بها:
1- المواقع ذات الطبقات الحضارية المهدمة، ووجود الملتقطات الأثرية على السطح.
2- المواقع التي على شكل مغارات سكنية للإنسان الأول، المحتوية على طبقات حضارية محتفظة بنفسها وهي مهدمة.
ومع طبيعة الأماكن الواقعة فيها تلك المواقع الأثرية المذكورة فإنها تنقسم إلى:
1- المواقع المتواجدة على سفوح الجيلان.
2- المواقع على سفوح الوديان والشعاب.
وأغلب هذه المواقع تكاد تكون أماكن استقرار للإنسان البدائي، كما أن هناك بعض الأماكن التي وجدت فيها بقايا تصنيع الإنسان للأدوات الحجرية (ورشة)، وأيضًا وجدت بقايا الإنسان في مكوثه المؤقت في أثناء قيامه بعملية الصيد الجماعية بحثًا عن الطرائد.
إن اكتشاف البعثة المشتركة خلال ثلاثة مواسم لمواقع كثيرة لأدوات العصور الحجرية باستثناء العصر الوسيط (الميزوليت)، إضافة إلى اكتشافات الكهوف السكنية وأساسًا كهف القزة، التي يرقى تاريخها إلى المرحلة الأشيلية، أو قبلها تقدم لنا معطيات عديدة وأدلة كثيرة على أن الإنسان قد عاش في أرض حضرموت بشكل متواصل ومستمر، وزيادة على ذلك فإن هذه الاكتشافات وبمساعدة علوم أخرى، سوف تمكن العلماء من معرفة الظروف المناخية الطبيعية والجيولوجية والجغرافية، ووضع تصور عن البيئة الطبيعية والعالم الحيواني في الماضي السحيق، والإجابة عن مجموعة الأسئلة، التي طرحت على بساط البحث منذ قرون عديدة، كما أنها ستقدم المفتاح العلمي، وفهم التطورات اللاحقة في منطقة شبه الجزيرة العربية بصفة عامة، وفي حضرموت بصفة خاصة.
الخلاصة:
إن العرض السابق لاكتشافات العصور الحجرية، يرينا أن إنسان العصر الحجري قد عاش في طول حضرموت وعرضها، وأن بقايا أدواته التي تركها في (ورش الصناعة) فوق أسطح الجبال (الجيلان)، وعلى المنحدرات، وفي قيعان الأودية، وفي محطاته السكنية، هي خير شاهد على ذلك، والأهم من ذلك أنها تثبت بالدليل العلمي القاطع والدامغ أن حضرموت كانت أحد الأقاليم، التي أسهمت بهذا القدر أو ذاك في نشوء المجتمع والحضارة البشريين.
المراجع:
1- بلعفير، محمد صالح، إنسان العصر الحجري في محافظة شبوة، صحيفة (١٤ أكتوبر)، ٣٠/ ٩/ ١٩٨٣م؛ التوصل إلى اكتشافات مبهرة حول إنسان العصر الحجري في بلادنا ١١/ ٦/ ١٩٨٤م؛ أهمية اكتشاف كهف إنسان العصر الحجري بالقزة ١٩/ ٧ / ١٩٨٤م؛ انتشار واسع لإنسان العصر الحجري في شبوة 3/ ٣/ ١٩٨٥م؛ اكتشافات عصور ما قبل التاريخ في بلادنا: من الفرضيات إلى الأدلة الدامغة ٣٠/ ٨/ ١٩85م.
2- نتائج أعمال البعثة اليمنية السوفيتية العلمية المشتركة للأعوام ٨٣/ ٨٤/ ١٩٨٥م (دليل المعرض)، المركز اليمني للأبحاث الثقافية والآثار والمتاحف، سيئون.
3- BEEK, G.W van, COLE, G.H. and JAMME, A. An Archaeological Reconnaissance in Hadramaut, South Arabia, a preliminary Rport, smithsonian Institution Report. 1963, Washington,1964, pp.521-545,pl.1-8.
4- Caton-Thompson, G. The Tombs and Moon Temple of Hureidha (Hadhramaut), Reports of the Research Committee of the Society of Antiquities of London XIII, Oxford, 1944.
5- Harding,G. Lankester. Archaeology in the Aden Protecto-rates, London,1964.
6- INIZAN, Marie-Louise: PREMIERS ELEMENTS DE PREHISTOIRE DANS LA REGION DE SHABWA (République Démocratique Populaire du YEMEN), Raydān,Vol.5 1988, pp.71-79,pl.1-5.
7- PHILLIPS,W. Qataban and Sheba,London, 1955.