دراسات
عيضه حسن العامري
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 8 .. ص 38
رابط العدد 8 : اضغط هنا
مقدمة:
تتناول هذه الدراسة مفهوم حضرموت والحضارمة وهي ليست انكفاءً ضيقًا كما قد يتصوره البعض، بل إن للأمر ضرورة بحثية، فالقضية التي يعالجها هذا البحث هي من الأمور التي تشغل بال كثير من الناس في حضرموت، إذ كثيرًا ما نصادف من يسأل ما معنى حضرموت؟ ومن هو الحضرمي؟ وهي أسئلة مشروعة ويقصد الناس من ورائها الحصول على أجوبة لكي يعوا انتماءهم الجهوي بوصفهم مكونًا فرعيًا من مكونات المجتمع اليمني، مثلهم مثل غيرهم ممن يتمتعون بانتماءات جهوية في اليمن، وتبعًا لذلك فقد تناولنا الموضوع بوصفه موضوعًا أثنوغرافيًا يُعنى بالبحث عن حضرموت بوصفها اسمًا ورابطة إثنواجتماعية. وقد تتبعنا المفهومين في سياقهما التاريخي وبيان تطور دلالاتهما الاجتماعية والجغرافية.
وقد عرضنا المادة المدروسة بالوصف والتحليل مستندين إلى المصادر المكتوبة، وما خبرته من معلومات في موضوع البحث، وكذا على بعض الحوارات مع الأشخاص المذيلة أسماؤهم في قائمة المراجع. كما قمت بتجزئة عناصر الموضوع تمشيًا مع أغراض البحث. وفي الأخير آمل أن أكون قد وفقت في تناول الموضوع، وإن كان هناك توفيق فمن الله سبحانه وتعالى، وإن كان هناك من قصور فهو من عندي.
في ذكر اسم حضرموت:
حضرموت اسم موغل في القدم.. وقد جاء ذكرها في مختلف المصادر التاريخية سواء أكان قبل الإسلام أو بعده، حيث وردت لفظة حضرموت (حضرميت) في أسفار العهد القديم كأحد أبناء يقطان بن عابر بن شالح بن أرفكشاد(1). أما في النقوش اليمنية القديمة فإن أول ذكر لحضرموت جاء في (نقش النصر) للمكرب السبئي (كرب إل وتر)، والذي يعود تاريخه إلى القرن السابع ق. م (2/ ص91). ثم وردت اللفظة بعد ذلك في عدد من النقوش الحضرمية، والسبئية، والحميرية، واليزنية وغيرها. وقد جاءت اللفظة في النقوش بصيغة (ح ض ر م و ت) و(ح ض ر م ت) (2ص105). كما جاء ذكرها أيضًا عند عدد من الكتاب الكلاسيك من يونان ورومان الذين سموها كذلك بـ(أرض اللبان) نسبة إلى اللبان الذي كان ينتج من أراضيها (18/ ص407). وقد استمر ورود اسم حضرموت في مصادر التراث الإسلامي، ولكن بمعنى مغاير حيث لم تورد بصفتها أرضًا لشعب (قبيلة) كما هو الحال قبل الإسلام، بل ذكرت بصفتها الجغرافية والاجتماعية (3/ ص165- 172)، وكذا بوصفها اسمًا لمقاطعة إدارية (حضرموت ومخاليفها) في مقابل مقاطعتين أخريين هما (الجند ومخاليفها)، و(صنعاء ومخاليفها)، وكان يعين عليها مسؤولًا إداريًا يدعى (العامل) أو (الوالي)، (11/ ص20).
دلالة اسم حضرموت:
لقد أفاضت المصادر العربية الإسلامية في ذكر دلالة تسمية حضرموت، ومما جاء عندهم في هذا الأمر عدد من الروايات، الأولى ترى أن عامر بن قحطان كان أول من نزل بالأحقاف، وكان إذا حضر حربًا أكثر من القتل فصار يقولون عند حضوره (حضر موت)، ثم صار ذلك عليه لقبًا وصاروا يقولون للأرض التي بها قبيلته (أرض حضرموت)، ثم أطلق على البلاد ذاتها (9/ ص30). أما الرواية الثانية فتقول إن النبي صالح عليه السلام لما هلك قومه سافر بمن معه من المؤمنين فلما انتهى إليها مات فقيل حضرموت (11/ ص21). والثالثة تقول إن يعرب بن قحطان، وكان ملكه باليمن، وقد تمكن من التغلب على بقايا عاد، ووزع إخوته في الأقطار وممن أقرهم أخاه حضرموت على الأرض التي عرفت باسمه فقيل لها حضرموت (20/ ص15). أما المؤرخ الهمداني فحضرموت عنده هي الجزء الأصغر من اليمن نسبت هذه البلدة إلى حضرموت بن حمير الأصغر فغلب عليها اسم سكانها (3/ ص165). ولكن هناك من النسابة من يختلفون مع الهمداني حول نسب حضرموت إذ يرجعون نسب حضرموت إلى قحطان بن هود مباشرة وهو رأي لعلماء صعدة وأصحاب السجل القديم أي أن حضرموت صنو لسبأ الأكبر، وبذلك تخرج تمامًا من نطاق حمير وربما عن سبأ الأصغر (17/ ص177).
إن تلك المروياتالمذكورة آنفًا عبارة عن روايات إخباريين، وتم تناقلها جيلًا بعد جيل ودونت على تلك الشاكلة، وهي إما تبحث عن شخص وتجعله جدًا لحضرموت، أو تحاول أن تجد رابطة بين الاسم مع قليل من التصحيف -حضور الموت- ثم ربط تلك التخريجة في سياق تاريخي، ثم إن بعضًا من هذه المرويات يبدو فيها التأثر الواضح بالنظرية التوراتية كالتي ترجع اسم حضرموت ابنًا لـ(يقظان) الذي حوله العرب إلى (قحطان)، (4/ ص130).
وهناك محاولة للمؤرخ علوي بن طاهر لفهم دلالة اسم حضرموت (10/ ص23)، وأخرى أوردها المؤرخ بامطرف وهي لا تختلف مع الأولى (20/ ص17)، وطور تلك المحاولة الدكتور عبدالعزيز جعفر بن عقيل حيث يرى أن حضرموت ربما هي كلمة مركبة من كلمتين، وهي (حضرم) و(وت)، وإذا اعتبرنا (الميم) في حضرم أداة تعريف كما هو حاصل في لغة النقوش فستكون لفظ الكلمة (الحضر)، أما الكلمة الثانية (وت) فهي من الكلمات التي تصادفنا كثيرًا في أسماء العديد من المناطق في حضرموت والمهرة وربما تكون بمعنى الأرض، مثل كلبوت، وخلفوت، وسيحوت وغيرها، وهي بمنزلة أباد عند الهنود مثل حيدر أباد، أحمد أباد، ومن ثمَّ يصبح معنى حضرموت هو أرض الحضر(24).
أما المؤرخ بافقيه فيرى أن اسم حضرموت قد جاء من اسم أحد القبائل التي طغى اسمها على المملكة منذ ما قبل الإسلام، ثم توسعت بمد سلطانها على ما حولها من القبائل، فعُرفت الأرض التي انتشر فيها سلطان تلك الدولة باسم (أرض حضرموت) أرض قبيلة حضرموت (18/ ص405). ولكن ينبغي التنبيه بأن مصطلح القبيلة لم يأتِ مقرونًا بحضرموت في النقوش اليمنية بل جاء بدلًا عنه مصطلح آخر هو (شعبن حضرمت) أي (شعب حضرموت)؛ ومصطلح الشعب هذا قد يأتي بمعنى قبيلة، أو سكان مدينة، أو فئة اجتماعية معينة تحترف مهنة محددة (19/ ص90)، وفي حالة حضرموت وردت على رأي المؤرخ بافقيه بمعنى قبيلة (17/ ص176)، ولكن هناك من المؤرخين من يرى أن مصطلح الشعب يُقصد به المشاعيات الإقليمية التي كان يتكون منها المجتمع في حضرموت، والتي عاد تصويبها المترجم بالجماعات الزراعية المتحدة في إطار مساحة محددة -أي الجماعات الحضرية المنعزلة نسبيًا- وعليه فالمقصود بحضرموت هي تلك الجماعات الحضرية المنعزلة، وإن تحول حضرموت إلى قبيلة جاء في فترة متأخرة بتأثير الثقافة البدوية القادمة من وسط الجزيرة (10/ ص52).
وكانت التسمية تطلق أولًا على وادي حضرموت فقط بالرغم من التداخل السكاني فيما بين الساحل والداخل. ثم في زمن ما من التاريخ الوسيط امتد الاسم وأصبح يشمل حضرموت المعروفة حاليًا أي حضرموت الساحل وحضرموت الداخل. وتبعًا لذلك أصبح سكان حضرموت الأولون جميعًا قبائل حضرموت، والصدف، وكندة، وسيبان، وهمدان وغيرها، والقبائل الناقلة التي أتت في وقت لاحق يسمون بالحضارمة نسبة إلى الأرض. وتشكلت بين هذه المجموعات السكانية ثقافة متجانسة، الأمر الذي أفضى إلى ظهور حضرموت بصفتها منطقة تاريخية ثقافية.
وإذا ما نظرنا لمدلول كلمة حضرموت في وقتنا الحاضر فإن لها خمسة مدلولات هي:
أولًا: أن حضرموت اسم لقبيلة عرفت منذ ما قبل الإسلام، ويتفرعون حسب قول المؤرخ الهمداني إلى فرعين الأشباء وبني الحارث (10/ ص152)، وما زالت كثير من قبائل حضرموت الحالية ترجع نسبها إلى حضرموت القبيلة تلك.
ثانيًا: أن حضرموت اسم لمملكة قديمة لا يعرف بالتحديد بداية تأسيسها، ولكن الثابت أنها كانت موجودة منذ قرون قبل ميلاد المسيح عليه السلام، وكانت عاصمتها شبوة، وقد استمرت حتى أوائل القرن الرابع الميلادي حين استولى عليها الحميريون (2/ ص105، 111).
ثالثًا: أن حضرموت هي تسمية لمنطقة تاريخية ثقافية تشمل علاوة على محافظة حضرموت الحالية بعض المناطق التي تعد في عداد محافظة شبوة على سبيل المثال لا الحصر وادي دهر.
رابعًا: أن حضرموت هي تسمية لجزء من وادي حضرموت يمتد من العقاد حتى قبر النبي هود عليه السلام، وهي تسمية معروفة عند سكان الوديان الفرعية وهذا الجزء من الوادي يطلق عليه اسم (السرير) أو (السليل)(23)، وهو القسم من الوادي الذي كانت تسكن فيه قبيلة حضرموت في الماضي (18/ ص406).
خامسًا: أن حضرموت هو اسم لمحافظة يمنية واسعة المساحة، وقد سميت بذلك الاسم منذ العام 1980م بدلًا عن الاسم السابق لها وهو المحافظة الخامسة، وكان ذلك الإجراء بمثابة إعادة الاعتبار لاسم حضرموت.
من هو الحضرمي؟
يتكرر طرح هذا السؤال من قبل كثير من المهتمين بحضرموت، وإذا ما عدنا إلى النقوش سنجد أن كلمات مثل الحضرمي، أو الحضارم بصيغة الجمع، قد وردت في النقوش، الأولى جاءت بلفظة (حضرمين)، أما الثانية فجاءت بلفظة (احضرن) و(احضر) (17/ ص176). ولكنها لم تأتِ لفظة جامعة لسكان مملكة حضرموت، بل كانت تعني الجماعات المنتمية إلى قبيلة حضرموت، ومن ثمَّ فهي تسمية أثنوقبلية، وهو مصطلح متسق مع تطور المجتمع وقتئذٍ. ولكن إذا ما أخذنا الموضوع من الوجهة العلمية اليوم فالحضرمي هو: كل شخص تشرب ثقافة* وقيم المجتمع الحضرمي، وتشكل لديه شعور بأنه ينتمي إلى هذه الجماعة، وهو شعور يتشكل عفويًا في سياق التربية والاحتكاك بالوسط الاجتماعي، بشرط تقبل المجتمع له وتقبله هو للمجتمع.
إذن نخلص مما مرّ إلى أنَّ الانتماء الأثنوثقافي هو الأساس في تحديد حضرمية الشخص من عدمه، وليس الانتماء إلى أصل النسب. إن موضوع من هو الحضرمي يدخل في سياق أسئلة الهوية. والهوية ليست ذات مستوى واحد فقط، بل هي مستويات متدرجة؛ فهناك الانتماء القبلي، والجهوي، والقطري، والقومي، والديني. والانتماء الذي نعنيه هنا هو الانتماء الإثني* وليس الانتماء الإداري أو السياسي. ومن ثمَّ فأنا حضرمي، ثم يمني، ثم عربي، وكذلك الحال عند اليافعي والمهري وغيره من الكيانات في اليمن التي لديها انتماءات جهوية.
ويتم اكتساب مكونات الثقافة وعناصر القيم الأخرى من خلال التربية والاتصال بالوسط الاجتماعي فعندما يكون الشخص والداه حضرميين، يتحقق تمثل الهوية عن طريق التنشئة الاجتماعية في المنزل، والمدرسة، والشارع. أما المقيمون في بلدان خارج حضرموت فدور الأسرة، والتواصل بين العائلات الحضرمية يمثل الدور المحوري وبالذات في حالة غياب وجود أي هيئات أهلية حضرمية في بلد المهجر. وبالمقابل قد يصبح فرد ما حضرميًا من دون أن يكون من أب حضرمي، ويحدث مثل ذلك لأولئك الذين ولدوا وشبوا وعاشوا في حضرموت واندمجوا في نسيج المجتمع، وتولد لديهم وعي بأنهم حضارم نتيجة تأثرهم بالوسط الاجتماعي، وإن بقوا محتفظين بأصولهم الأولى. ويترسخ الانتماء أكثر مع أبنائهم وأحفادهم حيث تتسع دائرة الارتباط والتداخل مع المجتمع المحلي، حتى تصبح حضرموت بالنسبة لهم هي الأهل، والدار، والأصحاب، والوطن. ولدينا نماذج كثيرة مثل هذا النوع تتحقق في حضرموت.
الحضارم والانتماء إلى مجموعات إثنية أخرى:
لقد أفضت التجربة التاريخية عند الحضارمة إلى بروز ثلاثة أنواع من الانتماء.
الأول: الانتماء الداخلي: أي اندماج أو انصهار أفراد من غير حضرموت في النسيج الاجتماعي الحضرمي بعد تحضرمهم إثنيًا. مع احتفاظ البعض منهم بانتمائه الأول، كأن يكون فرد ما حضرميًا وهو من أصول مهرية. أو حضرميًا من أصول يافعية وإلى غير ذلك. وهذا النمط من الانتقال كان معروفًا حتى في النظام القبلي، حيث قد تنسلخ فخيذة، أو مجموعة من فخيذة وتلتحق بقبيلة أخرى بعد أن تعقد حلفًا معها، وتكون بعدئذٍ جزءًا من القبيلة التي انضموا إليها وبذلك يغير المنتقلون من هويتهم الإثنوقبلية.
الثاني: الانتماء الخارجي القطري: وهذا يحدث عندما تندمج جماعة في نسيج دائرة انتماء قطري آخر، على شاكلة اندماج الحضارم في نسيج المجتمعات العربية التي هاجروا إليها مثل دول الجزيرة العربية.
الثالث: الانتماء الخارجي: وقد حدث مثل ذلك في مهاجر الحضارم الأفريقية والآسيوية غير العربية، أي الانتماء إلى أقوام من إثنيات غريبة عنهم.
ولكن نتائج الانتماءات المذكورة تكون مختلفة بالطبع، فقد يتم الانتماء إلى جماعة أخرى مع الاحتفاظ بالهوية السابقة ومن ثمَّ يكون الشخص مزدوج الانتماء؛ فقد يكون الشخص حضرميًا ويافعيًا، أو حضرميًا وسعوديًا، أو إندونيسيًا وحضرميًا في الوقت نفسه، وقد يؤدي الاندماج إلى زوال الانتماء الأول (الانصهار)، فقد يكون شخصًا ما حضرميًا وإندونيسيًا ثم يأتي أبناؤه أو أحفاده ويصيرون إندونيسيين خُلصًا. كما إن الاندماج في نسيج كل تلك المجتمعات ليس بدرجات متساوية، فالانتماء الداخلي عادة ما يحصل بيسر نظرًا لكون الجماعات فيه يرتبطون بروابط اقتصادية واجتماعية وسياسية، وتجمعهم وحدة الوطن. وكذلك الحال بالنسبة للانتماءات القطرية إذ يتم الاندماج بدون عناء شرط تقبل أولئك المهاجرين في نسيج تلك المجتمعات من خلال الاعتراف بهم بوصفهم مواطنين عبر منحهم جنسية البلد المقيمين فيه، ويعود ذلك إلى وحدة الانتماء الإثني الأوسع (عرب) الذي يجمعهم أصلًا، هذا إضافة إلى تقارب العادات والتقاليد بين حضرموت والمجتمعات العربية تلك حيث يتحقق الاندماج الكامل لأولئك المهاجرين أحيانًا في الجيل الأول من الأبناء بل ويحدث أحيانًا ذوبان للانتماء الأول وبالذات من قبل الأجيال المتقدمة ممن انقطعت صلاتهم بحضرموت، ولكن هناك فئة أخرى تتجاهل انتماءها الأول عن عمد ويعبرون عنه ببعض المظاهر السلوكية حتى حين يأتون لزيارة حضرموت. وهو مظهر من مظاهر التشوه الثقافي إذ يتصورن أن انتماءهم الإثنوثقافي الأول أقل شأنًا من انتمائهم الجديد نظرًا لتفاوت مستوى الحياة المادية، أما الانتماء الإثني الخارجي فالاندماج فيه ليس بالأمر الهين وذلك يعود إلى التباين في القومية، وأحيانًا في الدين، والتباين الثقافي في مجالات عدة كاللغة والعادات والتقاليد، ولذلك فالمهاجرون الجدد من حضرموت لم يستطيعوا الاندماج في تلك المجتمعات الآسيوية والأفريقية، بل تمكنوا من التكيف الناجح معها حيث بقوا متشبثين بتقاليدهم الحضرمية، ويفضلون السكن في أحياء خاصة بهم (7/ ص38، 15/ ص162)، ولكن تحقق الاندماج مع الأبناء المولدين بحيث أصبحوا بعدئذٍ إندونيسيين أو سواحليين أو هنودًا مع تمسكهم بأصولهم الحضرمية من خلال الحرص على تعلم اللغة العربية عند بعضهم، والتغني بالأغاني الحضرمية أو إدخال الألحان الحضرمية في كلمات غير عربية كالسواحيلية مثلًا في حفلات الزواج، والحفاظ على بعض المظاهر الثقافية المادية مثل مصافحة الوالدين كل صباح، وإعداد بعض المأكولات الحضرمية، ولبس الملبس الحضرمي التقليدي كالفوطة في بعض المناسبات، والاحتفاظ بمسميات قبائلهم، وتزويج أولادهم من فتيات من أصول عربية، وتحفظهم في تزويج بناتهم من غير العرب، وقيامهم بتسمية أحد الأبناء باسم الأب وغالبًا ما يكون الابن الأول، وتذكر أسماء مناطقهم، والاعتزاز بأصولهم الحضرمية اليمنية (13/ ص149 و24 و25) وكذا نقل بعض التقاليد التي كانت سارية في حضرموت إلى بلد المهجر مثل حفظ معدات الزواج عند رئيس الحي مثل قدور الطبخ والمواقد وغيرها مما تتطلبه وليمة الزواج، وكذا الآلات المرافقة لرقصات العدة والشبواني مثل الهاجر والمراويس والطاسة (12/ ص68) وما زالت هذه العادة سارية حتى وقتنا الحاضر في بعض مهاجرهم. كما اهتموا كذلك ببناء المساجد، وفتح الكتاتيب التي كانت بعضها ملحقة بالمساجد لتعليم الأطفال قراءة القرآن، وتدريسهم أولويات العلوم الشرعية، وكانوا يُحضِرون أحيانًا من يقوم بتلك المهمة أشخاصًا مختصين من حضرموت لكي يقوموا بإمامة المسجد وتعليم الأطفال (12/ ص66).
وهذه الخصال من المظاهر الثقافية ليست بالضرورة أن تجدها كلها مجتمعة عند أجيال المولدين، إلا أن هناك ثلاث خصال تجدها مشتركة فيما بينهم وهي: تذكر أصوله الحضرمية والاعتزاز بها، والتحفظ في مسألة تزويج أولادهم وفتياتهم، والاحتفاظ بأسماء قبائلهم. وقد عزز من ذلك ميل بعض الحضارمة للسكن مع بعض في مناطق بعينها ففي زنجبار مثلًا كان سكن الحضارم في ماليندى وفي حيين أخريين (6/ ص173)، في مدينة ممباسا في قُراي ومجانقو، وفي العاصمة الصومالية مقديشو في حي العرب بجوار المحفل الإسلامي (14/ ص204)، وفي حيدرأباد بالهند في منطقة بركاس (13/ ص151)، وكذلك الحال في إندونيسيا (25) وسنغافورا، حتى في مصر حيث كانت توجد جالية صغيرة كان سكن الحضارمة يتركز بجوار مسجد السيد الحسين في القاهرة (6/ ص181). ولكن بدأت هذه الظاهرة في التراجع في الوقت الحاضر بعد زيادة اندماجهم في تلك المجتمعات.
ولذلك فالحضارمة الذين اندمجوا في تلك المجتمعات احتفظوا ببعض خصائصهم الإثنية بحيث ظهروا بوصفهم مجموعة من العرب مندمجين في نسيج ذلك المجتمع وقد نتج ذلك الاندماج نتيجة تقبلهم للمجتمع وتقبل المجتمع لهم وتمثلهم لثقافته، وما شجع على بقاء هذا الأمر تقبل تلك المجتمعات لسلوكهم ذلك، إذ لم يروا في تميزهم الثقافي ذلك خدشًا للوحدة الوطنية. بل كانت تلك المجتمعات تنظر إليهم بصفتهم مواطنين متساوين معهم في الحقوق والواجبات، بل هناك من تبوأ منهم مناصب مدنية وعسكرية رفيعة. ولكن ارتباطهم بحضرموت لم يعد كارتباط آبائهم، فليس لديهم اهتمام بقضايا ومشاكل حضرموت، فلم يعد الوطن الأول في نظرهم غير تلك الأوطان التي خلقوا وعاشوا فيها، ففي إندونيسيا مثلًا أعلن (اتحاد عرب إندونيسيا) في العام 1923م، بأن وطنهم الأول هو إندونيسيا وليس حضرموت، وتبعًا لذلك ركزوا في برنامجهم السياسي على قضايا وهموم إندونيسيا فقط (13/ ص123)، وعليه أصبح لمثل أولئك انتماءان: الأول للبلد الأصلي التي قدم منها آباؤهم أو أجدادهم وهو رابطة الانتماء للأصل، والثاني وهو الأهم الانتماء للبلد الذي ولدوا وعاشوا فيه وهو رابطة الانتماء للوطن. ولكن هناك فريق آخر وأن كانوا قلة من المولدين الحضارم، وبالأخص من الأجيال المتقدمة تجدهم قد انصهروا تمامًا في نسيج تلك المجتمعات ولم تعد حضرموت تشكل بالنسبة لهم سوى شيء من الماضي.
الحضارمة اسم ورابطة اجتماعية:
إن التسمية التي ترضاها لنفسها أي مجموعة أثنواجتماعية، لم تعد بعد أن تترسخ مجرد كلمة عادية، بل تتحول إلى رمز بما في ذلك لماضيها التاريخي كله. ولذلك لم يرضَ الحضارمة ساحلًا وداخلًا بإبعاد تسمية حضرموت من مشروع تقسيم إداري كانت تزمع الحكومة وقتئذٍ على تنفيذه، وعبروا عن ذلك الرفض علنًا حتى تم التراجع عن الفكرة.
إن تسمية الحضرمي، والجمع حضارم هي التسمية التي يحب أهل حضرموت أن يسموا بها وهي تسمية قديمة سموا بها نسبة إلى الأرض، إلا أنهم لم يسموا حضارم في مهاجرهم غير العربية إلا في نطاق ضيق جدًا إذ كانوا يسمون بانتمائهم الأوسع عرب، (معرابو) بالسواحلية، و(عرب) بالصومالية، و(توان عرب) بالإندونيسية، و(عرب صاحب) بالهندية. حتى إن بعض الجمعيات الأهلية والمدارس التي كانوا يؤسسونها كانت تحمل اسم عربي. وعلاوة على تسمية (عرب) تلك فقد سموا في بعض مناطق شرق أفريقيا مثل (زنجبار، وتنجانيقا، وكينيا، وأوغندا) باسم آخر هو (مشهيري) أي (الشحري) نسبة إلى مدينة الشحر التي كانوا يسافرون منها. أما تسمية الحضرمي فكانت مسمى فرعيًا تعني فردًا من الوادي (7/ ص34) بل حتى المهاجرون إلى مستعمرة عدن وقتئذٍ، والذين كان أغلبهم من منطقة دوعن كانوا يسمون بـ(الشحاري)، وأظن أن هذا الاسم ما زال يُطلق على الحضارم من أصحاب دكاكين بيع المواد الغذائية حتى الآن. أما تسميتهم بالحضارم فكان شائعًا في مهاجرهم العربية مثل الحجاز، ومناطق الجزيرة العربية الأخرى. وكذا السودان ومصر حيث كان بهما جالية صغيرة من المهاجرين.
وقد عززت الهجرة وبالذات إلى المهاجر غير العربية الرابطة الأثنواجتماعية عند الحضارم، إذ أحسوا عندما حطوا الرحال فيها سواءً أكان في شرق أفريقيا أو جنوب آسيا أو جنوب شرق آسيا بأنهم أصبحوا في وسط اجتماعي إثني غريب، وينظر الآخرون إليهم كذلك بالطبع، ومن ثمَّ ولد لديهم إحساسًا بتميزهم الديني والثقافي، أي نحن قوم وهم قوم آخرون، وتبعًا لذلك تعزز لديهم الشعور بالوحدة التي تجمعهم، وقد ساعد على ذلك أن هؤلاء القوم لم يكونوا يعيشون في حضرموت جزرًا متناثرة بل كانت توجد فيما بينهم روابط اقتصادية واجتماعية وثقافية، كل هذا قوّى من ترسخ الوعي بذاتهم بصفتهم جماعة أثنواجتماعية (حضارم).
طباعهم كما رآها فيهم الآخرون:
لقد تميز الحضارمة عمومًا سواءً من يوجد بحضرموت أو الذين هاجروا؛ بعدد من الخصائص في طباعهم مثلهم مثل أي قوم آخرين. ولكن ينبغي أن نعرف أن هذا الطبع ليس خاصية عرقية كما قد يتصور البعض، بل هو ظاهرة اجتماعية تاريخية مثلها مثل أي ظاهرة محكومة بالواقع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. ثم إننا عندما نقول بالطبع لا نقصد تعميم ذلك الطبع على كل الحضارم، بل نقصد إنه السمة الغالبة عليهم، وإلا ففيهم المرابون، والمجرمون، وغير المتدينين، مثلهم مثل أي قوم آخرين. بل حتى طباع الحضارمة اليوم غير طباعهم بالأمس وإن بقت بعضًا من خصائص طباعهم القديمة التي تميزت بالآتي:
أولًا: التدين والاستقامة: لقد شكلت التربية الدينية قولًا وفعلًا أساس تربية النشئ في حضرموت، فكانت هناك علاقة حقيقية بين التدين والالتزام الأخلاقي، فحتى وقت قريب كان المبدأ الأساسي في حضرموت عند تزكية استقامة أي شخص موقفه من أداء الصلوات إذ كان مثل ذلك كافيًا لترجيح استقامة الشخص. لذلك مثلت قضايا مثل المواظبة على الصلاة، والأمانة، واحترام الوالدين وكبار السن، والسلوك الحسن، مظاهر بارزة في حياتهم العامة. ومن هنا كانت الأمانة والاستقامة الخُلقية أهم خاصيتين ميزتا الحضارم في المهاجر (21/ ص120)، وهذه الظاهرة -على ما يبدو- لها جذورها في التاريخ الحضرمي إذ يذكر البعض أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد وصفهم بالأمانة وأوصى بالاستعانة بهم (22/ ص86). وجاء في بعض المأثورات العربية أن معاوية الأول -رضي الله عنه- كان قد أوصى مسلمة بن مخلد واليه على مصر قائلًا: لا تول عملك إلا أزديًا أو حضرميًا فإنهم أهل الأمانة (10/ ص141). ولأمانتهم فقد أوكلت حكومة زنجبار إلى عدد منهم الإشراف على أمور المالية والقضاء (6/ ص172). وحدث الشيء نفسه عندما أوكل الأشراف في الحجاز إلى عدد من الحضارم تبوء منصب وزير المالية (21/ ص41). ويقول عنهم إنجرامز حين كان مقيمًا سياسيًا في شرق أفريقيا: بالرغم من حدة طباع الحضارم إلا إنهم منضبطون ومطيعون للقانون ويندر أن ترى أحدًا منهم يمثل أمام القضاء (6/ ص175). والشهادة نفسها أدلى بها فان دن بيرخ عن الحضارم في جنوب شرق آسيا حيث يقول: إنك لا تجد حضرميًا يتناول المشروبات الكحولية أو الأفيون، حتى بين المولدين منهم إلا نادرًا، ويستعرض شهادة أحد القضاة الهولنديين الذي عمل اثنتي عشرة سنة بأنه خلال سنوات عمله تلك لم يمثل أمامه إلا عربي واحد فقط (15/ ص86، 89). وشاعت أمانة الحضارم بعدئذٍ في مهاجرهم المتأخرة في الجزيرة العربية إذ كانوا محل ثقة الناس في تلك المهاجر بما تميزوا من حرص في إدارة الأموال التي كانوا يؤتمنون عليها، وكذا تعاملهم الصادق والأمين مع زبائنهم.
ثانيًا: الاعتدال في العيش: لقد مال الحضارم إلى الاعتدال في المأكل، والمشرب، والمسكن، وهو واقع حالهم في حضرموت، ولكن برز ذلك بشكل جلي في مهاجرهم؛ لذلك وصفهم البعض بأنهم قوم مقتصدون (7/ ص38)، ووصفهم آخرون بالاعتدال (15/ ص86)، ورأى ثالث في سلوكهم صورة للبخل والشح (16/ ص365). كما كان كثير من الحضارم كذلك غير ميالين إلى ثقافة المظاهر، ففي جنوب شرق آسيا مثلًا كان لا يمكن مشاهدة التمايز الاجتماعي بين بعض الميسورين منهم والبسطاء في المظاهر الخارجية كالملبس، أو أثاث المنزل، أو السيارة (15/ ص90)، وهذه البساطة في مظاهر الحياة كانت حتى وقت قريب يمكن مشاهدتها عند التجار الحضارم في الداخل. إن الاعتدال في العيش عند الحضارمة أملته ظروف خاصة بهم؛ الأول: إن البساطة في العيش هو ما اعتادوا عليه في حياتهم اليومية في حضرموت، ومن ثمَّ كان جزءًا من نمط سلوكهم، ثانيًا: إن المهاجرين الحضارم كان الغالبية العظمى منهم عمالة غير ماهرة ويمتهنون أعمالًا بسيطة ويكسبون عوائد محدودة، وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن الحضرمي حين يسافر كان عليه التزامات في بلده منها أن يقوم بالصرف على أسرته، والسعي لأجل تزويج نفسه إن كان عازبًا، وأن يجتهد لكي يبني له منزلًا، ويحلم بعدئذٍ أن تكون له مزرعة في حضرموت. ثم إن دورات المجاعة، ومعاناة الفقر الشديد التي كان يكابدها معظم الحضارمة (21/ ص109)، بالإضافة إلى القصص التي كانوا يسمعونها من آبائهم حول معاناتهم في ما مرّ من الزمن، كل ذلك كان كافيًا ليولد فيهم قلقًا من الغد، ومن ثمَّ ادخار المال لذلك اليوم كان جزءًا من حسابات الحضارم، على قاعدة (خل من شبيعاتك لجويعاتك).
ثالثًا: التعاون والتضامن فيما بينهم: شكل موضوع التعاون والتضامن عند الحضارمة -سواءً فيما بينهم في الداخل، أو فيما بين المهاجرين، أو بينهم وبني قومهم في حضرموت- أحد المظاهر البارزة عندهم. وقد عبروا عن هذا التضامن من خلال تأسيس أماكن الإيواء من قِبل الأثرياء منهم لاستقبال القادمين الجدد إلى تلك المهاجر وتوفير السكن والغذاء المجاني لهم حتى يحصل على عمل أو يأتي أحد من أقربائه ويأخذه. كما كانت هناك جمعيات لبعض القبائل وأخرى تختص بأصحاب قرى معينة هدفها استقبال الوافد الجديد ومساعدته في توفير عمل مناسب له، كما تقوم بإرشاد ونصح أعضائها وتأديب المخالفين والسالكين منهم سلوكًا مشينًا يضر بسمعة قومه (18/ ص56)، وكذا الأخذ بأيدي المهاجرين من أقاربهم من خلال تقديم الرأسمال الضروري لفتح دكاكين لهم، كما كانوا وما زالوا يساهمون في المشاريع الخيرية في حضرموت كالمدارس، والمساجد، والمستشفيات، والتعليم، والعناية بمنشآت الري، وشق الطرق، ومشاريع المياه (21/ ص100)، ويقومون بإرسال المعونات المالية لأقاربهم وغير أقاربهم من المحتاجين وبالذات في شهر رمضان. وكذا تأسيسهم للجمعيات الأهلية التي ترعى شؤون أعضائها.
إن روح التعاون والتضامن هذه هي امتداد لما اعتادوا عليه من الروح الجماعية في حياتهم العامة في حضرموت مثل التعاون في بناء ورعاية منشآت الري، وفي بناء السقايات، وحفر النقاب، وتأسيس ديار الصدقة، وإخراج الصدقات لخدمة الغير، والتضامن فيما بينهم في الأفراح والأتراح، ولمعرفة نموذج من هذا التضامن ينظر: (8/ ص59، 60، 84). ثم إن الغيرة الوطنية كانت أيضًا أحد الدوافع وراء كل ذلك أملًا في رؤية حضرموت كسائر الأوطان آمنة ومستقرة كحال الأوطان التي عرفوها.
رابعًا: تعلقهم بمهنة التجارة: وهي من الخصال التي امتاز بها الحضارم مثلهم مثل الصينيين والهنود. فقد كان ميلهم للعمل التجاري ظاهرة بارزة في مهاجرهم عامة، سواءً أكانوا في شرق أفريقيا (تنزانيا، أو كينيا، أو أوغندا، أو الصومال) (6/ ص169، 170)، فحسب إحصاء عام 1924م في زنجبار -تتبع حاليًا تنزانيا- لوحظ أن أكثر المهن شيوعًا عند الحضارم هي التجارة؛ حيث أتت في المرتبة الأولى، وقد قدر عدد التجار وقتئذٍ بحوالي 405 تاجر (6/ ص178). والأمر لا يختلف مع المهاجرين الحضارم في جنوب شرق آسيا حيث يقول عنهم فان دن بيرخ إنه من النادر أن تجد في الأرخبيل الهندي من الحضارم من لا يهتمون بالتجارة بهذا الشكل أو ذاك (15/ ص93). أما في الحجاز فقد كانت التجارة من المهن الشائعة عند الحضارم وقد تبوؤوا مراتب عالية في مجال التجارة لم يستطع حتى التجار الهنود أن ينافسوهم فيها (21/ ص40)، واستمرت هذه العادة عند الحضارم حتى بعد قيام العربية السعودية. والاستثناء كان أن الحضارم الذين اتجهوا إلى الهند عمل الغالبية منهم في السلك العسكري في نظام حيدر أباد، مع ذلك كان من بينهم من امتهنوا التجارة وامتلاك العقارات (13/ ص143)، وكان من أسباب ميلهم للعمل التجاري هو أن العمالة الوافدة من حضرموت هي عمالة ليست لديها خبرات فنية، ومن ثمَّ ما كان أمامهم سوى أن يمتهنوا المهن البسيطة التي لا تدر لصاحبها إلا عائدًا متواضعًا. ثم إن نظرة الحضرمي إلى المهجر يعني كسب أكبر قدر من المال وهو مقياس لنجاح المهاجر في نظرهم، ومن ثمَّ كان العمل في التجارة هو قبلتهم لما يمثله كأفضل مصدر للكسب الكبير والسهل، ولا يحتاج منه سوى إلى تدريب بسيط يمكن أن يستوعبه بالعمل عند أحد أقربائه، ومبلغ من المال يتكفل بتقديمه له دينًا أحد أقاربه كذلك، أو أن يعمل شريكًا مقابل قيامه بإدارة متجر ما. ولكن ما يأخذه البعض على الحضارم ميلهم الكبير نحو الادخار وعدم الاتجاه نحو توسيع استثماراتهم، فهم دائمًا حذرون عند الإنفاق على مشروعاتهم، ولا يغامرون في الدخول في مضاربات تجارية كبيرة، وهذه فلسفتهم في التعامل مع السوق على قاعدة (الحذر ولا الشجاعة)، ولكن رغم ذلك فقد شهد لهم بالنجاح في مجال التجارة، ومن أسباب نجاحهم ما تحلوا به من جدٍ ومثابرة في العمل، وتحليهم بأخلاق المهنة، الأمر الذي مكنهم من تحقيق سمعة طيبة في العمل التجاري.
الخلاصة:
أولًا: إن اسم حضرموت اسم موغل في التاريخ، إذ يرجع إلى قرون ما قبل ميلاد المسيح، وبدأ تسمية لشعب (قبيلة)، ثم تطور حتى أصبح اسمًا لناحية واسعة من شرق اليمن، ولا يُعرف بالضبط المعنى الحقيقي للفظة حتى الوقت الحاضر.
ثانيًا: إن الحضرمة هو انتماء أثنوثقافي، وهو الذي يحدد حضرمية الشخص، وليس الانتماء إلى أصل النسب وهو انتماء يتشكل عفويًا من خلال الاحتكاك بالوسط الاجتماعي، عبر التنشئة الاجتماعية في المنزل، والمدرسة، والشارع.
ثالثًا: إن هويتنا تتكون من عدد من الانتماءات المتدرجة، وهي الانتماء القبلي، والانتماء الجهوي، والانتماء القطري، والانتماء القومي، والانتماء الديني، وكل هذه الانتماءات أشبه بدوائر متداخلة، وكل دائرة أوسع من الدائرة الأخرى.
ربعًا: إن الانتماء ليس له شكل واحد فقط، فقد يكون للشخص انتماء واحد فقط، وقد يكون له أكثر من انتماء فقد يكون حضرميًا ويافعيًا، أو سعوديًا وحضرميًا، وقد ينصهر الشخص في وسط اجتماعي ما ويحاول أن ينسى أو يتناسى انتماءه الأول.
خامسًا: إن الجاليات الحضرمية التي هاجرت إلى شرق أفريقيا أو الهند أو جنوب شرق آسيا، تمكنت من التكيف مع تلك المجتمعات، ولكنها لم تستطع الاندماج إلا بعد مجيء أجيال المولدين. وهم على نوعين، الأول ما زال متمسكًا بأصوله بوصفه عربيًا حضرميًا، ويعبر عن ذلك من خلال الاحتفاظ ببعض التقاليد الحضرمية، وقلة انصهرت في نسيج تلك المجتمعات.
سادسًا: لقد تميز الحضارم عمومًا بخصائص معينة في طباعهم منها الأمانة والاستقامة الخلقية، والاعتدال في الأكل والمشرب والمسكن. ثم ميلهم نحو التعاون والتضامن فيما بينهم في خدمة بني جلدتهمسواءً من هم في المهجر أو من هم في داخل حضرموت، وأخيرًا الرغبة في امتهان العمل التجاري في المهجر سعيًا من أجل الكسب الوفير، وقد نجحوا نجاحًا باهرًا في ذلك.
المراجع:
22) الخيصة، نشرة شهرية ثقافية يصدرها منتدى الخيصة بالمكلا، العدد (الثاني)، 1996م.
23) حدثني بذلك الرأي في أحد الحوارات العامة معه.
24) حوار مع خالد عبدالله بن دحدح، كان أحد أعضاء الجالية الحضرمية في تنزانيا، 45 سنة، المكلا، يوليو 2009م.
25) حوار مع علي الكرار الحداد، طالب إندونيسي في دار المصطفى، 25 سنة، تريم، نوفمبر 2009م.
* أقصد بالإثنية هي مجموعة من الناس لديهم شعور بتميزهم الاجتماعي قبليًا، أو جهويًا، أو قطريًا، أو قوميًا، أو دينيًا، ولديهم رابطة تتجلى في الاسم، وعادة ما يصاحب ذلك التمايز؛ تمايز ثقافي. وهي ظاهرة اجتماعية تتشكل تاريخيًا دون إرادة الناس.
* المقصود بالثقافة هي الأشكال التقليدية لخبرات العمل، والمسكن، واللوازم المنزلية، والملبس، والطعام، إضافة إلى نظام القيم، والأدب الشعبي؛ من أشعار وحكايات وأمثال وحكم. وفنون؛ من غناء ورقص. وطب شعبي وغير ذلك، أي نمط حياة المجتمع التي تكرسها الممارسة اليومية.