تراث وآثار
حسن عيديد طه عيديد
حسن عيديد طه عيديد .. أخصائي آثار .. مدير عام الهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية فرع شبام ووادي حضرموت
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 8 .. ص 69
رابط العدد 8 : اضغط هنا
يُـقِـرُّ الباحثون جميعًا أن علم الآثار هو المصدر الحقيقي لصياغة التاريخ، ويأتي ذلك من خلال المصادر الحقيقية، والمتمثل في المواقع والملتقطات الأثرية من نقوش وكتابات وقطع أثرية ومبانٍ، تحكي قصة حضارة أيِّ مدينة في أي بقعة من بقاع الأرض.
والمدن اليمنية كثيرة يكاد الباحثون والكتاب والمختصون في علوم الآثار يجمعون على أن جميع مدننا اليمنية ليست مؤكدة في تاريخ نشأتها، وإنما بنيت معلوماتها عن طريق التواتر من بعض المصادر التاريخية، أو من بعض المصادر النقشية التي لازالت بحاجة إلى تحقيق وتأكيد .
وفي وادي حضرموت عرفت مدن قديمة من عصر ما قبل الإسلام، وجاء ذكرها في عدد من النقوش اليمنية القديمة (المسند)، ولعل أبرز هذه النقوش نقش الارياني 32-33 ، الذي يذكر مدينتي شبام وتريم، وهما مقصد الحديث. كما أن لهاتين المدينتين سجلًّا تاريخيًّا وحضاريًّا، بدءًا من فترة ما قبل الإسلام وانتهاء بعصر الإسلام المبكر والتاريخ الحديث .
تتحدّث المصادر التاريخية أنّ مدينة تريم وردَ ذكرُها كأول إشارة لها من خلال نقوش المسند الموسوم بنقش ارياني 32 ، وهذا النقش يعود إلى نهاية القرن الثالث ـ بداية القرن الرابع الميلادي. كما جاء ذكرها عند الهمداني في كتابه (صفة جزيرة العرب) ص170 بأنها مدينة عظيمة من غير الإشارة إلى تاريخ وجودها، وجاء ذكرها عند الحموي كإحدى مدينتي حضرموت.
وإذا رجعْنا إلى مدينة شبام فإنها لا تختلف كثيرًا عن شقيقتها تريم، فكُلُّ مَنْ كتب عن مدينة شبام حاول أن يجتهد بنفسه حول سبب تسمية شبام بهذا الاسم، شأن بقية المدن اليمنية الأخرى، فخرجت بذلك نظرياتٌ عِدَّةٌ وتأويلات . فالهمداني مؤرخ اليمن المتوفى 335هـ قال في كتابه (صفة جزيرة العرب): “أما شبام فهي مدينة الجميع وسكنها حضرموت” ص169 .
ويقول بعضُهم إنّ وجود شبام كان في الفترة الممتدة من بين حكم ياسر يهنعم 325م وبداية حكم الملك ذمار علي يهبر الثاني 335م أو 340م ( شكري محمد سعيد ص133) .
إذًا نحن مازلنا أمام نظريات وافتراضات ليست مؤكّدة؛ لأنه إلى اليوم لم يتم الكشف عن هُـوِيَّة هذه المدن وبدايات نشوئها الحقيقي، ولن يتحقق ذلك إلّا من خلال المصدر الوحيد الذي يفصح عن تاريخ هذه المدن، وهو الاكتشافات الأثرية من خلال الحفريات العلمية والمنهجية، التي تنفّـذها بعثات الآثار ومختصُّوها وغير ذلك، وتظل الافتراضات مجرَّدَ نظرياتٍ محلّ دراسةٍ وتحقيق .
مكتب الهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية فرع شبام ووادي حضرموت هو من المكاتب الحكومية، المعنيّة بتنفيذ سياسة الحفاظ على المدن والمعالم التاريخية في وادي حضرموت، ومن أبرز اختصاصاته تنفيذ مشاريع الترميم للمباني التاريخية وتنفيذ مشاريع البنى التحتية للمدن التاريخية في وادي حضرموت ولاسيّما مدينة شبام؛ باعتبارها من المدن المسجلة في قائمة التراث العالمي (اليونسكو) .
ونحن ههنا سنحاول أن نبرز بعضًا من اكتشافات الصدفة من القطع الأثرية والشواهد التاريخية، التي ترسم لنا الأسطر الأولى لتاريخ نشأة المدينة ولاسيّما مدينتي شبام وتريم؛ حيث جاءت هذه الاكتشافات بالصدفة أثناء قيام مكتب الهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية بشبام بأعمال ترميم لمبانٍ تاريخية في تلك المدينتين .
أوّلًا ـ الاكتشاف الأثرية في مدينة شبام :
في مدينة شبام التاريخية وأثناء تنفيذ أعمال مشروع البنية التحتية، والذي يُـعَـدُّ من المشاريع الرائدة في المدينة؛ حيث بدأ تنفيذه منذ عام 2007م، ولكن البداية الفعلية له كانت من عام 2010م، وهذا المشروع يتكوّن من مكوّناتٍ عِدَّة، تهدف إلى حماية المدينة من أي مخاطر مع إدخال بعض التحديثات في مجال الخدمات، التي تتناسب مع المدينة، ومنها مكوِّن المجاري والصرف الصحي، ومكوِّنات الكهرباء والاتصالات والمياه والإنارة، وتنفيذ هذا المشروع يعتمد على إجراء حفريات في كل أجزاء المدينة بأعماق مختلفة تصل ما بين 1- 2متر .
وبطبيعة الحال فإنَّ القائمين على تنفيذ المشروع، وهم: المشروع اليمني الألماني (GIZ )، والهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية بشبام، والصندوق الاجتماعي للتنمية، ومختلف الشركاء، لم يغفلوا عن مدى أهمية الحفريات وخطورتها، التي ستتم في مدينة قديمة كمدينة شبام؛ حيث تمّ تكليف مهندس ومختص في الآثار لرصد أي مكتشف أثري أثناء عملية الحفر، وبالذات عند التنفيذ في الأعماق وخاصة مكوّن المجاري .
من خلال هذه المكتشفات التي تم العثور عليها بالصدفة أثناء تنفيذ مشروع البنية التحتية بشبام تم اتخاذ إجراءات إدارية عاجلة، تتمثل في رفع دراسة وتصور لتنفيذ مشروع سُمِّي بـ(مشروع تحديد العمر الزمني لمدينة شبام)، يتمثل في إجراء مجسات وحفريات في وسط ونواحي مدينة شبام؛ للخروج بحقائق علمية منهجية في تحديد العمر الزمني لتاريخ نشوء مدينة شبام، يقوم بتنفيذ هذا المشروع خبراء ومختصّون في علم الآثار بالتنسيق مع الهيئة العامة للآثار بسيئون، وتمويل الصندوق الاجتماعي للتنمية ـ صنعاء، لكنّ المؤسفَ له أنّ هذا المشروع لمْ يُنَفّذْ إلى اليوم.
ثانيًا ـ اكتشافات مدينة تريم :
في مدينة تريم يسعى مكتب الهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية شبام ووادي حضرموت إلى التدخل في ترميم وصيانة بعض المعالم التاريخية، وكان من أبرز المشاريع في تريم مشروع استكمال وترميم قصر الرناد التاريخي، الذي تحدثتْ عنه المصادر بأنه من القصور التي يعود تاريخ نشأته منذ عصر ما قبل الإسلام، ويقع الحصن وسط المدينة القديمة، بجوار جامع تريم، ويعتبر أقدم الحصون في المدينة، ويتربع الحصن على الهضبة الواقعة وسط البلدة، وقد شهد جميع المراحل التي عاشتها البلدة، بدءًا من عصر ما قبل الإسلام؛ حيث يتردّد عند كثير من المؤرخين أن حصن الرناد يرجع بناؤه إلى عهد قديم قبل الإسلام، وقد ذكر ذلك السيد علي ابن الإمام عبدالرحمن بن محمد المشهور، أن حصن الرناد بني قبل البعثة المحمدية بأربعمائة عام، ويذكر الشاطري في كتابه (أدوار التاريخ الحضرمي) أن حصن الرناد بتريم بني على أنقاضه قصر سلطاني، ويقال إنهم عثروا فيه على رأس حيوان من الرخام الأبيض الجميل، وتوجد به كتابات مسندية .
إنّ مشروع ترميم حصن الرناد قد بدأ عام 2007م بتمويل من السلطة المحلية بمحافظة حضرموت وإشراف مكتب الهيئة بشبام، وقد تمّ إعداد دراسة متكاملة لتوثيق القصر من حيث رسم لمساقط طوابق القصر، وكذلك توثيق لكافة العناصر الزخرفية والمعمارية الطينية الموجودة في ثنايا القصر، وتمّ تشكيل فريق عمل فنّيٍّ مختصٍّ بأعمال الترميم، وفريق أثري مختصّ في الجوانب الأثرية .
أثناء تنفيذ أعمال الترميم في باحة وسور القصر الداخلي من الجهة الجنوبية تمَّ العثور على أساسات حجرية ظهرت في جدار السور، عبارة عن أحجار متراصة مع بعضها البعض، بارتفاع حوالي متر، وعند فحص نوعية الأحجار تبيّن أنها تعود إلى أساسات فترة ما قبل الإسلام، وهذا يعطي دلالة أن قصر الرناد تعود نشأته إلى ما قبل الإسلام، وأن طوابق البناء السفلية هي جزء من مبنى قديم، كما عُـثِـر على مذبح حجريٍّ بطول متر، وكذلك ظهرت أجزاء من جدران حجرية أثناء رفع كمية الأطيان في ساحة القصر مما يؤكِّد أنّ القصر مرَّ بعِدَّة فترات تاريخية منذ ما قبل الإسلام والفترة الإسلامية وبخاصة ولاة الدويلات اليمنية في عهد دولة بني زياد (204 – 426هـ / 819 – 1035م)، الذين حكموا تريم، وخاصة في عهد الحسين بن سلامة آخر حكام الدولة الزيادية (393 – 426 هـ / 1003 – 1035م)، كما تذكر المصادر أن السلطان عبدالله بن راشد، أحد أشهر سلاطين الدولة الراشدية، أنّه جدّد عمارة القصر، ويقال له إذ ذاك (مصنعة الرناد)، وكان ذلك في سنة 600هـ/ 1203م. وفي حوادث تاريخ شنبل يذكر أن في سنة 622هـ سقط جانب من مصنعة تريم الأيسر، من بناء عبدالله بن راشد، فبناه مسعود بن يماني في منتصف القرن السابع الهجري، وجعل فيه بابًا (انظر تاريخ شنبل). أمّا آخر تجديد فيه فكان في سنة 1352هـ / 1933م في عهد حاكم تريم آنذاك محمد بن حسن الكثيري، والذي دعا المهندس علوي بن أبي بكر الكاف ليشرف على عملية إعادة البناء.
إن هذه الاكتشافات الأثرية التي كشفت بالصدفة تعطي دلالة على قدم قصر الرناد، ولكنّها ليستْ كافية لدراسة قصر كهذا بحجمه ومساحته وإنّما فرضت علينا مخاطبة الجهات المختصة لإجراء حفريات أثرية منظَّمة وعلمية حتى نخرج بمعلومة صحيحة مؤكّدة عند الحديث عن البدايات الأولى لنشوء قصر الرناد.
ولكن المؤسف له أيضا أنّنا لم نستطع تنفيذ أي أعمال أثرية بسبب غياب الوعي الأثري لدى السلطات العليا بالمحافظة .
إنّ أي حديث عن نشوء المدن القديمة لابد أن يكون مقترنًا بدلائل وشواهد أثرية، وهي الفيصل والمرجع لصياغة تاريخ المدن بطريقة نحفظ فيها تاريخنا من تأويلات ونظريات ليست مؤكدة. نتمنّى أن يكون للمراكز العلمية دورٌ في توثيق تاريخنا وحضارتنا، بالتعاون مع جهات الاختصاص الحكومية، وعمل دراسات ميدانية علمية ممنهجة حتى نستطيع أن نشارك في عملية صياغة تاريخ وحضارة الشعوب . انتهى ،،،،،،
في تاريخ اليمن ، نقوش مسندية وتعليقات ، مركز الدراسات والبحوث اليمني ، الطبعة الثانية، 1990م.
ادوار التاريخ الحضرمي، جزءآن، دار المهاجر، الطبعة الثانية ، 1403/1983
تأسيس مدينة شبام وتاريخها السياسي في العصور الوسطى ، مجلة سبأ العدد 8 ديسمبر 1999م(ص: 126 – 152 ) .
صفة جزيرة العرب، تحقيق محمد بن علي الاكوع، مكتبة دار الإرشاد،الطبعة الاولى1410هـ \ 1990م .