حكايات
فائز محمد باعباد
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 8 .. ص 112
رابط العدد 8 : اضغط هنا
بين أسوار قصيعر العتيقة وفي حواريها وأزقتها وبيوتها الطينية القديمة جرت في خمسينيات القرن الماضي قصة غاية في العجب! ليست من نسج خيال أو أساطير، بل حقيقة وقعت في زمن ابتعد، لكن صدى الحقيقة المفجع ما زال يتردد باحثًا عن أجوبة لم يجدها رغم مرور سنوات طوال، إنها حكاية عاشور أحمد بن حميد، هذا الرجل الغامض، الذي قتل في أحد بيوت قصيعر القديمة بجوار السوق الفوقية سوق قصيعر الصاخبة ذلك الزمن، عندما تسأل عنه تأتي إليك الأجوبة متناقضة متباعدة، فلتعذروني إن أخطأت في تقديمه، فهذا الرجل رجل المتناقضات الأول في حكاياتنا المشقاصية، قيل أصله من الشحر، وقيل من غيل باوزير، والغيل أرجح، قيل كان ظالمًا عربيدًا فاسقًا متحرشًا بالنساء والفتيات..، وقيل كان رجلًا صالحًا عاديًا، حتى كان يعلّم بعض الأولاد القراءة والكتابة، وقيل كان محاميًا فطنًا ذكيًا يكسب القضايا لموكِّليه بالشرع والقانون، وقيل كان محاميًا سمسارًا محتالًا، يستغل قربه من رجال السلطة القعيطية والقضاء لكسب القضايا والاستيلاء على الحقوق.
ينسب للشاعر الشعبي المشقاصي الكبير علي بن حسن باعباد أبيات أرسلها لابنه أو لزوجته يحذرهما فيها من عاشور على ذمة قضية بينهما، فيقول:
برسل سلامي معك يا طير قل للبرك…
قل له يصرف تصاريف الذي قد ملك…
عاشور ما هو سهب يلقي دباديب لك…
دهن يشل القلادة والعلم والمتك…
إذن عاشور في نظر معاصره الشاعر علي بن حسن محامٍ محتال، قد يستولي حتى على (القلادة والعلم والمتك) وهي حلي لنساء ذلك الزمن -والحلي آخر ما قد تملك أي أسرة- فالحذر إذن والانتباه من رجل كهذا، لكن للإنصاف تبقى تلك وجهة نظر الشاعر الذي ربما كان على خلاف مع عاشور على قضية ما.
سكن عاشور منطقة (معبر)، وملك فيها بيتًا وزرعًا، ومارس فيها حياة سكانها وأسلوب عيشهم، وكان قليلًا ما يذهب لبلده ومسقط رأسه، ويبدو أنه كان لا أهل كثير له هناك ولا ذرية، كان يذهب صباحًا إلى قصيعر المدينة لمتابعة القضايا أمام (محكمة قصيعر والريدة القعيطية)، واستأجر بمحاذاة السوق الفوقية السوق الرئيسة في قصيعر آنذاك بيتًا، كان قريبًا من (حصن القاضي)، يعود البيت لأسرة آل باشراحيل، وكان يبقى في هذا البيت أحيانًا ولا يعود لبيته في معبر. -و(حصن القاضي) كان ملاصقًا في منتصف السور الغربي لقصيعر القديمة طمس اليوم ولم يعد له وجود-.
جرّت بعض القضايا وأسلوب المحامي الملتبس الكثير من العداوات لعاشور، الذي لم يكن ليبالي بها، وهو القريب من رجال السلطة وفي حمايتها، هذا الشعور بالأمان الزائف المتكئ على كتف القوة والحكم الغافل عن الانتباه لانتقام الخصم الضعيف أوقع الرجل في المهالك، كأنها لم تطرق مسامعه (لا تحتقر كيد الضعيف فربما تموت الأفاعي من سموم العقارب).
اختفى عاشور في غمرة قضاياه القانونية الشائكة ولم يسأل عنه أحد، ظن أصدقاؤه أنه ذهب لمسقط رأسه في مهمة عاجلة، ولافتقاد وسائل الاتصال مرَّتْ عشر أو يزيد من الأيام والليالي لم يكتشف أحد أين ذهب المحامي (الشاطر) حتى فاحت رائحة جريمة غريبة في مجتمع قصيعر البسيط المسالم، وصلت المعلومة الأمنية لمسامع السلطة القعيطية، هناك رائحة نتنة وإن كانت خفيفة تنبعث منذ يومين أو ثلاثة من بيت عاشور بن حميد المغلق بالأقفال والمفاتيح -كما يرى على الباب من الخارج-، ظن بعض المتفائلين أن حيوانًا نفق داخل البيت هو مَنْ سبَّب هذه الرائحة، في حين ساورت السلطات الشكوك فكلَّفَتْ قوة لكسر الأقفال ودخول البيت ليتم اكتشاف ما لم يكن في الحسبان، المحامي عاشور بن حميد مقتول بطريقة وحشية، قيل كانت جثته ممزقة وقريبة من التحلل، وقيل أيضًا إن القاتل رش في أحشاء القتيل وفي جسمه الممزق مِلْحًا كي يتأخر انبعاث الرائحة، جُنَّ جنون السلطات القعيطية لهذا الخرق الأمني الفاضح، فسيق العشرات للتحقيق، وتم احتجاز البعض ممَّنْ تربطهم قضايا خصومة مع عاشور من أبناء قصيعر والريدة ومناطق أخرى، ومرت الأيام والشهور وخرج المتَّهَمون من السجون الواحد تلو الآخر، ومرت السنون ولم تثبت الجريمة على أحد، وقيّد الزمن القضية ضد مجهول. ظلَّتْ قضية عاشور على ألسنة الناس ردحًا من الزمن في قصيعر وفي المشقاص عامة، كثير من أبناء قصيعر الطيبين اعتبروا أن عاشور مات مظلومًا، وحتى إن البعض ظلَّ يردِّد مقولة أصبحت كالمثل (نصفة عاشور) كلما أصابت قصيعر مصيبة أو اجتاحتها جائحة، إن الله لن ينصف لعاشور من قصيعر بالتأكيد؛ لأن قصيعر بلدة مسالمة لم تقتل أحدًا، وأن الله لا شك سينصف المقتول عاشور من قاتله -رجل أو رجال- في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، لكن يجب على أهل الجور والفساد المتكئين على كتف السلطة والقبيلة ممَّنْ سرقوا المال العامَّ، ونهبوا الأرض، وهتكوا العرض أن يتعظوا.