أضواء
عبد الكريم محروس ميزان
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 9 .. ص 9
رابط العدد 9 : اضغط هنا
جمعت إباضية حضرموت مع إباضية عُمان وشائج مختلفة من العلاقات والصلات الدينية والسياسية منذ قيام الإمامة الإباضية الأولى في حضرموت سنة 129هـ تحت قيادة الإمام الحضرمي طالب الحق عبدالله بن يحيى الكندي([1])؛ إذ حينها قدِمَ الإمام العماني الجلندي بن مسعود إلى حضرموت؛ للمشاركة في الثورة، وإقامة الإمامة، ومعه مدد آخرون نصرًا وتعزيزًا للثورة([2]).
وإذا كان الجمود والفتور قد أصاب هذه العلاقة بعد سقوط إمامة طالب الحق سنة 132هـ، ثم سقوط إمامة الجلندي بن مسعود في عُمان سنة 143هـ([3])؛ فإنه بحلول القرن الخامس الهجري ظهرَ من بعث الحياة في تلك العلاقة، ونفضَ عنها غبار السنين، وذلك في عهد الإمام الحضرمي أبي إسحق إبراهيم بن قيس الهمداني، مصنِفِ ديوان (السيف النقاد)، الذي تزامنت إمامته مع تولي اثنين من الأئمة مقاليد السلطة في عُمان، هما: راشد بن سعيد اليحمدي، والخليل بن شاذان الخروصي([4]). وكان من محاسن تلك العلاقة في جانبها التاريخي والسياسي إعادة النظر في ترتيب سلسلة الأئمة العمانيين بحسب المعطيات الجديدة للمصادر التاريخية العائدة لتلك الحقبة.
إن المتتبع للتاريخ العُماني يجد أن هناك حالة من شبه التسليم، تقررها الكتابات التاريخية، حول سلسلة الأئمة الإباضيين في القرن الخامس الهجري([5])، وهي الحقبة التي عُرِفت اصطلاحًا بالإمامة الثالثة([6])؛ حيث نلاحظ على تلك السلسلة أنها تبدأ بالإمام الخليل بن شاذان، ثم الإمام راشد بن سعيد، ثم الإمام حفص بن راشد([7])، بينما الذي ظهر جليًّا من كتابات إباضية حضرموت غير ذلك؛ حيث نجدها تقدِّم إمامة راشد بن سعيد على إمامة الخليل بن شاذان؛ لذا أعاد المهتمون بالتاريخ العُماني النظر في ترتيب تلك السلسلة، منطلقين مما جاء في ديوان (السيف النقاد)، وتؤازرهم في ذلك نتف مهمة وجدت في بعض المخطوطات.
كانت البداية الأولى لذلك التصويب قد انطلقت من حضرموت، عندما استطاع المؤرخ الحضرمي سعيد عوض باوزير من خلال دراسته المقارنة بين معطيات الكتابات العُمانية وما جاء في ديوان (السيف النقَّاد) أن يخرج بملاحظة في غاية الأهمية، عالجها بأسلوب المؤرخ الحصيف الباحث عن الحقيقة، فبعد استقرائه لشعر أبي إسحق، وحوادث ظهور الصليحي([8])، ثم استنجاد الإمام الحضرمي أبي إسحق الهمداني بالإمام العماني الخليل ابن شاذان، علـَّـقَ باوزير على تلك الحوادث قائلًا: ” إن ما رجَّحهُ صاحب تحفة الأعيان من وفاة الخليل سنة 425هـ، يتعارض تعارضًا واضحًا مع ما ثبت من أن الصليحي كان يدعو للمستنصر الفاطمي، الذي تولى الحكم في مصر سنة 427هـ، وأن الصليــحي أعلن ثورته في اليمن سنة 429هـ([9])، وأنه كتب للمستنصر يستأذنه في إظهار الدعوة له سنة 453هـ، في حين كان أبو إسحق يستنجد بالخليل بن شاذان على الصليحي هذا، فيجب أن يكون الخليل على قيد الحياة إلى ما بعد سنة 453هـ؛ ليصح استنجاد الهمداني به على الصليحي”([10])، ثم يستطرد باوزير قائلًا: ” لقد كان ترجيح صاحب تحفة الأعيان إذًا لتحديد وفاة الخليل يحتاج إلى إعادة نظر”([11]).
ومن هذا التنويه المهم أخذ المؤرخون العُمانيون يعيدون النظر في ترتيب سلسلة الأئمة لتصويب الخطأ إن تحقق، فلم يعد من المقبول عندهم أن يكون الخليل ابن شاذان هو الأول، وراشد بن سعيد هو الثاني، وبعدهُ حفص بن راشد. فكان المؤرخ سيف البطَّاشي أول من توصَّل إلى ذلك، منطلقًا مما قدَّمته كتابات الحضارمة قديمًا وحديثًا، ومعتمدًا على بعض المخطوطات العُمانية، التي بيَّنت حقيقة ذلك الخطأ، وأظهرت ضرورة إعادة النظر في تسلسل الأئمة، وتصحيح ما أشكل حول مُدد حكمهم؛ حيث قال: “وهذا خطأ ظاهر؛ حيث قدَّموا المتأخر زمنًا على سلفه”([12]). ثم يضيف قائلًا: ” فتعيين بيعة الخليل سنة 407هـ، ووفاته سنة 425هـ، لا مستند له إلا الظن والتحري؛ لعدم وجود تاريخ منضبط. والصحيح أن بيعته سنة 447هـ، فسقطت لفظة الأربعين من أكثر الروايات، ورجعوا بالتاريخ إلى الوراء”([13]).
ومن خلال هذه المعطيات الجديدة تبين أن الإمام حفص بن راشد هو من أئمة القرن الرابع، وبعده تولى راشد بن سعيد الذي توفي سنة 445هـ، ثم خلفهُ الخليل بن شاذان، وظل الخليل في الإمامة حتى سنة 474هـ تقريبًا، وتوفي في نزوى وبها قـُبـِر، ثم عقد العُمانيون البيعة للإمام راشد بن علي الخروصي سنة 474هـ([14])، وهذا الترتيب يجعل من الإمام الخليل معاصرًا لملك اليمن أبي الحسن الصليحي، المقتول سنة 459هـ في أرجح الأقوال([15]). وهو تصويب لقيَ استحسانًا وقبولًا من سماحة مفتي عُمان([16]).
ولم يقف البحث والتصويب على ما قـدَّمه البطاشي فحسب، فالمعطيات الأثرية المكتشفة حديثـًـا توشك أن تقدم لنا دليلًا ماديًا على ما ذهب إليه هذا المؤرخ؛ حيث عُـثِر على عملة معدنيةٍ قديمة، صكـَّها الخليل بن شاذان، ومن المحتمل أن تاريخها يعود إلى سنة 547هـ، فإذا ثبت ذلك فإنه يشكِّل مصدرًا مهمًا، يعضد بوضوح ما ذهب إليه البطَّاشي([17]).
ليس ما ذكره باوزير حول استنجاد أبي إسحق بالخليل هو المؤشر الوحيد، الذي دفع إلى إعادة ترتيب سلسلة الأئمة في عُمان، بل إن في الديوان ما يؤكد ذلك، مثل قول الشاعر:
سَلُــوا راشــــــدًا ثمَّ الخَليلَ خَـلِيلَهُ | أبالسَّيْفِ عَـزُّوا أمْ بِلَثْمِ العَواتقِ([18]) |
وقوله في القصيدة اللامية:
وارمُــــــــوا بِنا نحْوَ الخليلِ المْرْتَضَى | المُفْــــــــــــــزَعِ المأوى لِكلِّ دَخِيلِ |
ذاكَ الــــذي جَلـَّى عُمـــــــــــــــانًا بعـدَما | واراهُمُ غَيْـــــمُ الطـُّغى بِذُيُـــــــولِ |
ذاكَ الَّذي يخطُو خُطا مَــن سَـارَ في | وادي القـُرى أو آسكٍ وَنُخَــــــــيْلِ |
ذاك الَّذِي أبْدَى لنا مَا قَد مَضَــــــى | منْ راشدٍ والصَّلْتِ وابن رحيلِ([19]) |
ومن الأبيات السابقة يظهر جلـيًّـا تقدم إمــــــامة راشد على إمامة الخليل، خاصةً قول الشاعر: (سلوا راشدًا ثم الخليل… )، وقوله مادحًا الخليل: (ذاك الذي أبدى لنا ما قد مضى * * من راشدٍ والصلتِ وابن رحيلِ).
على أن الشيء المهم الذي يعضد كل ما سبق هو ما جاء في المصادر الحضرمية الإباضية التي رأت النور حديثًا، فهي تذهب بتصويب البطاشي إلى حد القطع والجزم واليقين، وتزيل الريب عند كل متردد لهذا التصويب([20])، فقد أكد الشيخ إبراهيم الحضرمي الإباضي (ت بعد 475هـ)، في أكثر من موضع من كتابه (الدلائل والحجج) على الصحبة مع الخليل بن شاذان، مثل سفرهما مع مجموعة من العسكر من الرستاق إلى منطقة قريبة من صحار([21])، وفي موضع آخر وثـَّقَ الشيخ الحضرمي تلك الصحبة زمانيًا ومكانيًا؛ إذ كانا معًا في عُمان، في شهر رمضان من سنة 452هـ ينتظران غروب الشمس ليفطرا([22])، فيكفي بهذا دليلًا قاطعًا على بقاء الإمام الخليل حيًّا إلى شهر رمضان من سنة 452هـ في أقل تقدير، وليس سنة 425هـ كما رجَّحَ ذلك السالمي، واتخذه البعض مدخلًا وحجة للطعن والتشكيك في وجود شخصية أبي إسحق وديوانه([23])، بالرغم من أن الأمر كان مجرد تحرٍ وترجيح من السالمي، ولم يجزم في القول ويقطع، فهو يقول: “وإذا صحَّ ما تحرَّيْـتُـهُ في وفاة الخليل….. “([24])، ويظهر أن السالمي كان ينقل من كتابات سابقة له، هي الأخرى لم ينتبه مصنفوها لهذا الإشكال واللبس([25]).
ثبت المصادر والمراجع
[1]) هو عبدالله بن يحيى بن عمرو بن شرحبيل بن عمرو بن الأسود الكندي، كان صاحب علم وفقه ولسان فصيح، وتولى القضاء في حضرموت في عهد واليها الأمــــوي إبراهيم بـــــن جبلة، ثمَّ أصبح أول إمام للإباضية، اتخذ من صنعاء حاضرةً لإمامته، قـُـتـِـل في منطقة قريبة من صنعاء في أحد المعارك مع الجيش الأموي الذي قاده عبدالملك بن عطية السعدي سنة 132هـ.
[2]) السالمي، عبدالله بن حميد: تحفة الأعيان، مكتبة الاستقامة 1997م، ج1، ص85؛ الراشدي، مبارك بن عبدالله: الإمام أبو عبيدة وفقهه، مطابع الوفاء، 1993م، ص277.
[3]) الطبري، محمد بن جرير: تاريخ الطبري، طبعة دار المعارف، ج7، ص464؛ ابن الأُثير، علي بن محمد: الكامل في التاريخ، دار الكتب العلمية، 1987م، ج5، ص93؛ السالمي: تحفة الأعيان، ج1، ص95.
[4]) عن هذه العلاقة وتفاصيلها راجع، الحضرمي: الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن قيس: ديوان السيف النقاد، تحقيق بدر اليحمدي، شركة المعالم، 2002م؛ السالمي: تحفة الأعيان؛ عبدالكريم ميزان: إباضية حضرموت من القرن 2هـ إلى القرن 7هـ، (رسالة ماجستير غير منشورة)، جامعة حضرموت، 2015م.
[5]) الأزكوي، سرحان بن سعيد: كشف الغمة، وزارة الثقافة مسقط، 2012م، ج6، ص15؛ السالمي، تحفة الأعيان، ج1، ص296.
[6]) الأزكوي: كشف الغمة، ج6، ص15. وهناك من يسميها الإمامة الرابعة، انظر الهاشمي، سعيد بن محمد: دراسات في تاريخ عُمان، دار الفرقد، 2013م، ص151؛ المنتدى الأدبي: نزوى عبر التاريخ، مسقط، 2007م، ص134، 135.
[7]) الأزكوي: كشف الغمة؛ ابن رزيق، حميد بن محمد: الشعاع الشائع، وزارة التراث، مسقط، 1984م، ص67؛ مؤلف مجهول: قصص وأخبار جرت في عُمان، وزارة التراث، مسقط، 2002م، ص73؛ السالمي: تحفة الأعيان، ج1، ص269؛ الهاشمي: دراسات، ص151؛ المنتدى الأدبي، نزوى عبر التاريخ، ص135.
[8]) هو علي بن محمد الصليحي، مؤسس الدولة الصليحية في اليمن قُتِل سنة 459هـ، شمل حكم دولته مناطق واسعة من اليمن ووصل نفوذها إلى مكة، انتهت هذه الدولة سنة 532هـ، مذهبها شيعي إسماعيلي. عمارة بن علي اليمني: المفيد في أخبار صنعاء وزبيد، مكتبة الإرشاد، صنعاء، 2010م، ص87؛ السروري: محمد عبده، الحياة السياسية ومظاهر الحضارة في اليمن في عهد الدويلات المستقلة، مطابع الأهرام، ط الأولى، 1997م، القاهرة، ص3 وما بعدها.
[9]) هكذا ورد عند باوزير في المعالم قيام الصليحي سنة 429هـ نقلًا عن عمارة اليمني. والصحيح سنة 439هـ، وصحَّح ذلك المؤرخ الأكوع محقق مفيد عمارة. راجع عمارة اليمني: المفيد، ص92. أما صاحب تحفة الأعيان فالمقصود به المؤرخ العُماني عبدالله بن حميد السالمي.
[10]) معالم الجزيرة العربية، ص253.
[11]) نفسه: ص253؛ صفحات، ص66.
[12]) البطاشي، سيف بن حمود: إتحاف الأعيان، مكتبة المستشار الخاص، مسقط، 2016م، ج1، ص551.
[13]) نفسه، ج1، ص556.
[14]) الحضرمي: السيف النقاد، ص32، تعليقات المحقق؛ البطاشي: إتحاف الأعيان، ج1، ص558، 559.
[15]) الحمادي، محمد بن مالك: كشف أسرار الباطنية، مركز الدراسات والبحوث اليمنية، صنعاء، 1994م، ص122؛ عمارة: المفيد، ص87، 88، 92؛ ابن سمرة، عمر بن علي: طبقات فقهاء اليمن، دار القلم، بيروت، ص88؛ الجندي، محمد بن يوسف، السلوك في طبقات العلماء والملوك، مكتبة الإرشاد، صنعاء، 1993م، ج2، ص485، 487.
[16]) البطاشي: إتحاف الأعيان، ج1، ص559.
[17]) الهاشمي: دراسات، ص150.
[18]) السيف النقاد، ص319.
[19]) نفسه: ص383، 384.
[20]) من هؤلاء المترددين الدكتور سعيد الهاشمي، الذي ظل يعتمد الترتيب القديم للأئمة في كتابه دراسات في التاريخ العُماني، ص122، 151، 154. وهو يقول إن الذي تولى الإمامة بعد راشد بن سعيد ابنه حفص وليس الخليل بن شاذان، وفي ذلك يقدم بعض الحجج والأدلة.
[21]) إبراهيم بن عبدالله الحضرمي: الدلائل والحجج، وزارة التراث، مسقط، 2012م، ص217. صحار قصبة عُمان تقع على بحر العرب تتميز بهوائها الطيب ونخيلها. الحموي، ياقوت بن عبدالله: معجم البلدان، دار صادر، بيروت، 1977م، ج3، ص393؛ ابن المجاور، يوسف بن يعقوب: تاريخ المستبصر، مكتبة الثقافة، القاهرة، 1996م، ص131. أما الرستاق فهي الأخرى بلدة عُمانية، وأصل الاسم فارسي ويعني القرية أو السواد، تقع شمال عُمان، تبعد عن مسقط حوالي 160 كم، تشتهر بغابات النخيل. لوريمر: دليل الخليج العربي، القسم الجغرافي، ج6، ص2010.
[22]) الدلائل والحجج: ص298.
[23]) الحامد، صالح بن علي: تاريخ حضرموت، مكتبة الإرشاد، صنعاء، 2003م، ج1، ص267، 272.
[24]) تحفة الأعيان، ج1، ص306.
[25]) من هذه الكتابات: كشف الغمة للأزكوي، الشعاع لابن رزيق، قصص وأخبار لمؤلف مجهول.