أضواء
أ.د. علي صالح الخلاقي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 9 .. ص 12
رابط العدد 9 : اضغط هنا
تمثل الصحافة مصدرًا مهمًا من مصادر التاريخ الوطني، التي لا يمكن الاستغناء عنها، أو تجاهلها؛ لدراسة التطور الاجتماعي، والسياسي، والثقافي للمجتمع في المرحلة الزمنية التي صدرت فيها، على اعتبار أن وظيفتها هي التوثيق للأحداث والوقائع، وتسجيلها، والاحتفاظ بها للأجيال المقبلة. وخلال مشاركتي في ندوتين علميتين نظمهما (مركز حضرموت للدراسات التاريخية والتوثيق والنشر)، الأولى في مارس 2017م، عن صحيفة (الرائد) الحضرمية، التي أصدرها الأديب الشاعر حسين محمد البار خلال المدة من 1960- 1964م، والثانية في 29 أبريل 2018م عن صحيفة (الرأي العام) الحضرمية، لصاحبها ورئيس تحريرها الأستاذ علي عبدالرحمن بافقيه، خلال المدة 1963- 1967م، قُيِّضَ لي تصَفُّح كافة أعداد صحيفتي (الرائد) و(الرأي العام) الحضرميتين، التي تم تصويرها في ملفات طبق الأصل بفضل تقنية وسائط الاتصال، ولم تُتَح لي الفرصة المشاركة في الندوة التي عقدت قبل ذلك (أبريل 2016م) والمخصصة لصحيفة (الطليعة)، التي أصدرها الأستاذ أحمد عوض باوزير، خلال المدة 1959- 1967م. وكما يلاحظ فإن ستينيات القرن الماضي هي مرحلة العصر الذهبي للصحافة الحضرمية التي صودرت -للأسف- بعد الاستقلال الوطني.
ولعل أبرز الأقلام النسائية التي لفتت انتباهي وأنا أتصفح أعداد صحيفتي (الرائد)، ثم (الرأي العام)، اسم مستعار تقنَّعتْ به كاتبة حضرمية، مبدعة وجريئة، سبقت عصرها، تخفت تحت اسم (س. ع. ب)، وكان لها حضورها القوي والمتألق في تلك الصحف الحضرمية. وأعترف أنني وقفت منبهرًا أمام ثراء قلمها السيال، وأفكارها الجريئة، التي تصدَّرتْ من خلالها للدفاع عن المرأة الحضرمية، وحقها في التعليم، وفي تثقيف نفسها وتنظيمها.. إلخ.
عرفت اسمها الحقيقي، سلامة عبدالقادر بامطرف، من مقالة كتبها الزميل الدكتور مسعود عمشوش، سلط فيها الضوء على سيرتها منذ ولادتها في مدينة الشحر سنة 1933م، ثم انتقالها مع أسرتها إلى المكلا بعد انتقال عمل أخيها الكاتب والمؤرخ محمد عبدالقادر بامطرف إلى المكلا، وهناك التحقت بالمدرسة الابتدائية للبنات، التي كانت تديرها المربية الرائدة المرحومة فاطمة عبدالله الناخبي، وبعد أن أنهت دراستها بتفوق عملت مدرسةً في المدرسة نفسها التي تخرجت فيها، حتى زواجها من المرحوم أحمد سعيد حداد، متعهد الصحف والكتب، والوكيل لمؤسسات نشر مصرية ولبنانية في حضرموت، وهو من ساعدها في الاطلاع على الكتب والصحف والمجلات لإثراء معارفها، وتعميق ثقافتها، إلى جانب تأثير شقيقها الكاتب والمؤرخ محمد عبدالقادر بامطرف، وتشجيعه لها؛ للنهل من ينابيع المعرفة والثقافة، فاكتسبت ذخيرة معرفية وثقافية عالية، مقارنة ببنات جيلها، مكَّنتْها من خوض غمار الكتابة بجدارة واقتدار، وانصبَّ اهتمامها بكل ما يتصل بالنساء، وقضايا المرأة وهمومها، وتشجيع الفتيات على التعليم، واللحاق بركب الرجل.
أول مقالة لها لفتت انتباهي كانت في صحيفة (الرائد)، الصادرة في عدد 3 أبريل 1961م، بعنوان (غريب أمرك أيها الكاتب الذي لا يعرف حضرموت)، تردُّ فيه على كاتب ادعى أنه خبير حضرمي، ونشر مقالًا في صحيفة (القلم العدني – العدد 380)، يسيء إلى المرأة الحضرمية، ويتهمها بالجهل، وادعى أن الحضارم يعدونها أفعى، وأنه ليس في حضرموت امرأة مشهورة، وأن المرأة في حضرموت تعد من سقط المتاع، أو من رقيق الأرض، وليست شريكة حياة، ولا أمًا تنتج الرجال.. فانبرتْ تدافع عن المرأة الحضرمية، وتردُّ عليه بقوة الحجة، تقول: »قبل أن ندخل في صميم الموضوع – من أُمّك أيها الخبير، هلَّا كانت حضرمية ربَّتك حتى صرت خبيرًا، أم أنت ابن أفعى أسقتك سُمًا فنفثته على صفحات مجلة (القلم العدني)؟!.. ألم تعلم أيها الخبير المزعوم عن شهيرات حضرموت شيئًا؟!. إذًا فأنت لست بحضرمي ما دمت لا تعرف أن بحضرموت شهيرات؟. وماذا تعرف عن السيدة رابعة العدوية بمصر أنه تلد حضرموت مثلها، سلكت طريقها، وبلغت شهرتها في التصوف وبُعد الصيت؟ هل تعرف الشيخة سلطانة الزبيدية، التي يعرفها الصغير والكبير بحضرموت؟ فكيف وأنت الخبير الحضرمي كما تدعي لا تفهم عنها شيئًا وغيرها من العابدات الصالحات ممن تربَّعْنَ كراسي العلم الديني والتصوف؟.. في كل قبيلة حضرمية امرأة مشهورة بنبوغها ونشاطها العلمي والاجتماعي، فتِّشْ أيها الخبير الحضرمي كتب تاريخ حضرموت والمحلية يرد عليك عقلك.. وهل تنكر علينا نحن بنات حضرموت أيها الخبير الفذ تربيتنا لفحول الرجال، الذين جابوا مشارق الأرض، وأسسوا المشاريع الكبيرة، واقتنوا الثروات العظيمة حتى أُشير إليهم بالبنان، فهل هؤلاء الرجال ولدتهم صخور حضرموت الصماء، أم تربوا في أحضان أمهات كرام؟«([1]).
ولقد أحسن رئيس تحرير صحيفة (الرائد) الأستاذ حسين محمد البار في وصفه لها، حينما قدمها في الركن الخاص (حديث حواء)، الذي تحرِّره وتشرف عليه، بقوله: »هذا حديث حواء – تقدمه إلى مجتمعنا النسائي السيدة الفاضلة س.ع. ب. في أمتع صورة وأحفلها بالحكمة. وهي حين تقدم هذا الحديث فإنها تضع أصبعها على مكمن من مكامن الداء الذي يشقينا، ويبعثر مجهودات عرقنا الكادحة، وفي نفس الوقت يصف الداء لبنات جنسها الدواء الناجع، الذي يستهدف سعادة المجتمع وطمأنينة الأسرة.. إننا نرحب من الأعماق بهذا اليراع النسائي البارع، الذي لا نغالي إذا اعتبرناه خير قلم تحمله حضرمية عبر أجيال التاريخ الطويل لهذه البلاد«([2]).
لا شك أن رئيس التحرير قد أنصفها بهذا الوصف، الذي نجد مصداقًا له في جميع كتاباتها البارعة حقًا، والمكرَّسة لشئون المرأة وشجونها، ومنها موضوعها (تغلَّبي على عقدة الذهب) في ذلك العدد نفسه، ومن عنوانه يتضح أنه يتعرض لقضية تعاني منها المرأة عند زفافها، تتعلق باقتناء الذهب والمجوهرات.
أما أكثر كتاباتها التي اطلعت عليها فكانت في صحيفة (الرأي العام)، حيث كانت تحرر -غالبًا- ركن المرأة (وراء النوافذ المغلقة)، المكرَّس لقضايا المرأة الحضرمية، وهمومها، وشجونها، وقد أبدت إعجابها بهذا الركن منذ بدايته، ثم غدت أبرز كاتبة فيه، بل ومحررته الرئيسة، تكتب فيه مقالاتها، وخواطرها، وقصصها القصيرة، ومنذ أول مشاركة لها فيه حددت جوهر مشكلة المرأة الحضرمية في معاناتها من الرجل؛ بوصفه المسئول الأول عمّا آل إليه حالها، وكتبت تقول: »إن هناك ما هو أدهى من النوافذ المغلقة، إنها العقول المغلفة بضباب كثيف من الجهل يحول دون رؤيتها لحقائق الأمور في عصرنا الحديث، إنها عقول نسائنا الضحايا. ونحن إذ نتساءل عمّن يكون المسئول الأول عمّا صار إليه حال المرأة الحضرمية.. تدهور لا نجد من هو أحق بأن نشير بسبابتنا إليه من الرجل (ومعذرة لصراحتي)، الرجل الذي استمرأ خنوع وخضوع المرأة له أجيالًا طويلة المدى، ثم هبَّ فجأة يطالب بحريته الكاملة، وكان الأولى به أن يقرن بكفاحه تدعيم قضية المرأة، ويعتبرها جزءًا لا يتجزأ من قضية هذا الوطن المنكود، كان الأجدر به أن يفك عنا قيود العبودية، عبودية الجهل التي نرسف في أغلالها، ويرد إلينا اعتبارنا وكرامتنا التي طالما أُمتهنت على يديه، بقصد وبدون قصد، ناسيًا أو متناسيًا أن كرامة المرأة من كرامة الرجل، وكذلك العكس«.. ثم طالبت حملة الأقلام بأن يشحذوا أقلامهم للمطالبة بحق المرأة في الكرامة العائلية أولًا، وعدم اعتبارها مجرد آلة للكنس والطبخ أو بهيمة مهمتها تتوقف عند حد الإنجاب. وقالت: »يجب أن تمدوا إلينا سواعدكم لتساعدونا على النهوض من كبوتنا أولًا، وبعد ذلك نحن كفيلات بالباقي، وأعتقد أن الوقت قد حان لكي يبرهن جنس الرجال على حسن نيته إزاء نصفه الآخر«([3]).
وفي ذات الاتجاه، طالبت تحت عنوان (الكاتبات مرة أخرى)([4]) بنات جنسها من النساء لاقتحام مجال الكتابة في الصحافة المحلية، والخروج عن صمتهن وتقاعسهن، وكسر حاجز الخوف من ردود الأفعال، بالتزود بالثقة، والاعتداد بالنفس، تقول: »إنني أتساءل عن السبب الذي من أجله تتقاعس سيداتنا عن الكتابة في الصحف المحلية، ولماذا يفضلن لأفكارهن أن تتوارى هكذا خلف تجاويف عقولهن. أهو الخوف من ألسنة الناس؟ إنني أعرف أن لسان المجتمع لا يرحم، وبخاصة مجتمعنا النسائي، الذي تمثله الأغلبية الساحقة من المواطنات اللاتي شاءت لهن الظروف القاسية أن يبقين على ما هن عليه من الجهل المطبق على عقولهن إلى الحد الذي لا يفرقن معه بين الصالح والطالح. بل إني لا أتجاوز الحقيقة إذا قلت إنهن قد يتمادين في الإساءة إلى كل من تحاول أن تطالب بفك قيود العبودية عن أعناقهن، لكن الخوف في رأيي هو مصدر من مصادر عدم الثقة بالنفس، لذا يتحتم علينا ونحن نخوض هذه التجربة أن نتزود بالثقة والاعتداد بالنفس. كما ينبغي أن ننظر إلى الأمور دائمًا من خلال زاوية أكثر واقعية، فنحاول أن نضع أعصابنا في ثلاجة، وذلك تقديرًا للظروف القاسية التي جعلت من المرأة الحضرمية عدوة لنفسها. ألا ليت سيداتنا يفقهن حقيقة الدور الذي ينبغي على المرأة أن تعد نفسها له، ليتهن يفقهن أن الواجب يقتضينا أن نهبَّ لنصرة الحق يدًا واحدة، ليتهن يفقهن ويؤمن أن استخلاص حقوقنا المهضومة إنما يتوقف على توحيد كلمتنا وتكتل صفوفنا«.
وواصلت نهجها في الذود عن حقوق المرأة الحضرمية في التعليم والتنظيم وفي الحياة الكريمة، كما نستشف ذلك من عناوين كثير من مقالاتها، التي زينت بها ركن المرأة (وراء النوافذ المغلقة)، مثل: من المسئول عن فشل نادي المرأة([5])، الفتاة الحضرمية صفر على اليمين([6])، إلى ابنة الساحل([7])، أفكار جداتنا لم تعد مناسبة لنا([8])، المرأة ليست ناقصة عقل ودين([9])، عدم استقرار المرأة العائلي سبب المحنة الأخلاقية([10])، دعوا الفتاة تتعلم في الخارج([11])، جنبي طفلك الخوف([12])، أول مظاهرة تقوم بها الفتاة الحضرمية([13])، ونحن بحاجة إلى تنظيم النسل([14]).
كما أظهرت سلامة بامطرف موهبتها الأدبية وخيالها الإبداعي الخصب في الكتابة القصصية فأثبتت أنها رائدة أيضًا في كتابة القصة القصيرة على مستوى المرأة في حضرموت؛ حيث نشرت في (الرأي العام) ثلاث قصص قصيرة، عبَّرتْ فيها عمّا يدور بداخلها من أفكار ومشاعر، على لسان شخصيات ابتدعَتْها من وحي خيالها الأدبي، تحاكي من خلالها واقع المرأة الحضرمية، وهذه القصص، هي: شبع وبطرة([15])، وتجدد الحب([16])، والمفاجأة([17]). يصف د. مسعود عمشوش (أستاذ الأدب والنقد في جامعة عدن) تلك القصص بأنها: »تتميز بأسلوب لا نجده في القصص القصيرة الأخرى التي نشرت في ستينيات القرن الماضي، ففيها وظفت المؤلفة الأصوات.. فالراوي في قصة (شبع وبطرة) مثلًا، يمارس القص باللغة الفصحى، لكنه يتيح لأصوات الشخصيات أن تبرز في ثنايا صوته. لهذا نعثر في تلك القصة القصيرة الشيّقة على عدد من أجمل مفردات اللهجة المكلاوية، ليس في الحوار فقط، لكن داخل السرد أيضًا«.
ولأن سلامة بامطرف قد حصلت على قسطٍ من التعليم مكَّنها من تثقف نفسها، والنهل من ينابيع المعرفة والثقافة، فقد أدركت أهمية التعليم وقيمته بالنسبة للمرأة الحضرمية في حاضرها وفي مستقبلها، وفي الارتقاء بحياتها الخاصة، بل وفي حياة المجتمع عامة، وفتحت بكتاباتها الجريئة النار على النظرة الدونية تجاه المرأة وحرمانها من التعليم، وانتقدت الطريقة التي كان الرجل يتعامل بها مع المرأة، ولم تَسْلَم من سهام نقدها العوائق الاجتماعية، والقيود المتدثرة تحت عباءة العادات والتقاليد، ذلك أنه حتى الستينيات كان تعليم البنات أو ذهابهن للمدرسة يعد خروجًا على تقاليد المجتمع في ثقافة الكثيرين، ولم يكن يتعلم منهن إلا القلة القليلة. ولهذا كانت الدعوة والحض على تعليم الفتاة ضمن اهتماماتها الرئيسة في معظم كتاباتها، التي نشرتها في باب (حوار حواء) و(وراء النوافذ المغلقة) تحت اسمها المستعار (س.ع. ب). وحذرت من عواقب حرمان المرأة من التعليم، وتأثير ذلك سلبًا على مصير شعب اختص ذكوره بالعلم وإناثه بالجهالة المطبقة. وتحت عنوان (الفتاة الحضرمية صفر على اليمين)([18])، تطرَّقت إلى مشكلة الفتاة الحضرمية المغمورة والمحرومة من التعليم أسوة بالفتى، وكتبت تقول: »إننا نؤيد بشدة كل الحملات التي جند لها الكُتّاب أقلامهم من أجل تبصير أبناء هذا الشعب ومسئوليته بالعواقب الوخيمة التي تعود على الأمة من جراء حرمان المئات من الأطفال الأبرياء من حقهم الطبيعي في التعليم ما لم يتكاتف أولئك جميعًا ويبذلوا الجهود المخلصة لإيجاد وتنفيذ الحلول العملية التي تمكنهم من التغلب على هذه المشكلة العويصة«.
ووجهت اللوم إلى حاملي الأقلام الغيورين على مصالح الأمة، وتساءلت: »ما نصيب الفتاة من كل هذه الحملات الموجهة لصالح الفتى وحده؟ وهل كتب عليها أن تظل العضو المشلول في كيان أمتها؟!.. وهل كتب على المرأة الحضرمية أن تشاهد ركب الحضارات العالمية يمر من أمامها وهي قعيدة عاجزة عن اللحاق به؟!..« وتقول: »إننا لم نسمع بمن يطالب بفتح المزيد من المدارس المتوسطة للفتاة، اللهم تلك المناقشة على صفحات (الرأي العام) حول تعميم اختلاط البنت الصغيرة والولد الصغير في مرحلة التعليم الأولية، وربما كان ذلك حلًا لمشكلة التعليم الابتدائي فقط، وبعدها تتخلف الفتاة عن اللحاق بزميلها لتحجز في البيت بينما يواصل الفتى دراسته… ولم نسمع حتى الآن بمن يطالب جديًا بتوفير التعليم على مختلف مراحله للفتاة أسوة بالفتى..« وتتساءل: »فماذا بالله سينتهي مصير شعب اختص ذكوره بالعلم وإناثه بالجهالة المطبقة؟. سوف يترتب على ذلك نفور فتى المستقبل من الزواج… وحتى لو فكر الشاب في الزواج فإن تفكيره سيتجه حتمًا إلى البحث عن زوجة مثقفة واعية ولو اضطر للبحث عنها خارج حدود وطنه، ومن ثم سيترتب على ذلك الإجراء تفاقم عدد أرقام العوانس وارتماء البعض الآخر تحت أقدام أول طالب زواج يطرق عليهم الباب ويجب أن نضع في اعتبارنا أنه لن يتقدم للفتاة الجاهلة في المستقبل سوى الشيوخ من ذوي العقليات المتخلفة الذين يرضي غرورهم أن يضموا إلى مجموعة أثاث منازلهم زوجة صغيرة متفتحة ونتائج هذا الزواج غير المتكافئ من ناحية السن معروفة… وبالطبع لن تقتصر المشكلة على تلك النواحي فحسب وإنما ستتعداها إلى شل حركة الفتاة التطورية وتسيء إلى معنى التحرر والحرية في مفهوم الفتاة الجاهلة وبالتالي لن تمكنها من أن تنهج النهج الصحيح سواء في محيط الأسرة أو في المجالات الوطنية الأخرى وستظل حملًا ثقيلًا ينوء به كاهل الرجل في وقت غشت فيه أختها العربية ميادين الأعمال المتعددة وأصبحت عاملًا فعالًا يعود بالخير العميم على الأسرة والوطن«. وتختتم بالقول: »ترى هل وضع الرجال كل هذه الاعتبارات في أذهانهم وهم يقومون بالحملة تلو الحملة لصالح الفتى وحده ونحن معشر النساء لا اعتراض لنا على ذلك. ولكن أليس من حقنا أن نتساءل ونقول إلى متى سنظل أصفارًا على يمين الأرقام«([19]).
وإلى جانب تعليم الفتاة في الداخل أثارت الكاتبة مسألة ابتعاث الفتاة للتعليم في الخارج، والذي كان حتى ذلك الحين حكرًا على الأولاد، وتصدرت لهذه القضية بكل جرأة في مقالة طويلة بعنوان (دَعُوا الفتاة تتعلم في الخارج)([20])، تحدثت فيه عن أهمية التعليم في وقتنا الحاضر، والذي أصبح من ضروريات الحياة، بل إنه صمام أمان لحياة الإنسان، وسلاح في يده يقيه تقلبات الأيام وغدر الزمان من غير أن يضطر إلى إذلال نفسه، وإراقة ماء وجهه، فالعلم هو حفظ كرامة الإنسان -رجلًا كان أم امرأة- مصانة لا تهان.
ولاحظت أن الناس تنبهوا أخيرًا إلى هذه الحقيقة فتسابقوا إلى تسجيل أبنائهم بالمدارس، واهتموا بإرسال أبنائهم في بعثات إلى الخارج؛ لينالوا حظًا أوفر من العلم. لكن الأمر اقتصر على الأبناء دون البنات، وهذا مما يدعو إلى الأسف، ويعطينا أصدق صورة على أن الرجل لم يتسنَّ له الخلاص ولو من بعض رواسب الماضي الكريهة؛ حيث ينظر إلى المرأة على أساس أنها تابع للرجل، ومكانتها دائمًا لا تزيد عن مكانة الخادم من المخدوم.
ووجهت سهام نقدها إلى أولئك الذين شاء لهم الحظ أن يتنوروا ويتثقفوا فيما ظلت عقلياتهم متحجرة لا تبشر بأمل، وغلب عليهم الوسط الذي نشأوا فيه، الوسط الذي لا يفرق بين المرأة وبين قطعة أثاث أو بقرة تدور في الساقية التي يسمونها تجاوزًا (البيت) فجُبنوا حتى من مجرد تشجيع المرأة على المطالبة بحقوقها العادلة.. ولو أرادوا لجعلوا من الفتاة الحضرمية شيئًا آخر عن هذه الفتاة التي تعزل حتى من بنات جنسها. وكتبت تقول: »ولكن أنى لهذه العقليات أن ترضى للمرأة بغير حياة الذل والهوان معتقدين أنهم على صواب، وإلا فما الذي يمنعهم أو يحول دون بعث بناتهم إلى الخارج ليتلقين العلم إذا لم يتوافر لهن ذلك في بلدهن، ماذا يمنعهم وأغلبهم عامرة جيوبهم بالمال وبيوتهم تناطح السحاب.. إنه خير وأبقى للآباء أن يموتوا دون أن يخلفوا لأبنائهم وبناتهم سوى العلم ويتركوا خلفهم البيوت الشاهقة والأموال المكدسة فلا يمضي وقت طويل إلا وقد تبدد المال الذي أنفقوا حياتهم في جمعه بفضل الأبناء الذين خلفهم آباؤهم وهم في أغلال الجهالة يرسفون، لا يعرفون كيف يحافظون عليه.. «، وتمنت في الختام أن تذوب مثل هذه العقليات المتحجرة لتحل محلها عقليات متحرِّرة تؤمن بأن تعليم الفتاة حق لا ينازع، ولا يقبل فيه مساومة، حق أباحه لها الدِّين من غير حدود، وحرَّمه عليها دعاة الباطل ممن يرون في انزواء المرأة وتعليمها المحدد أكبر حافظ لها من الانزلاق وبئس ما يتوهمون([21]).
وقد لقيت هذه الدعوات لابتعاث الفتيات للتعليم خارج حضرموت استجابة مشجعة، وبدأت تؤتي أُكُلها؛ حيث قامت إدارة المعارف بالمكلا بابتعاث ست طالبات إلى عدن للدراسة والتدريب، وهذه خطوة جبارة في سبيل رفع مستوى تعليم البنات في حضرموت([22]). وتلى ذلك سفر »أول بعثة من الطالبات الحضرميات إلى العراق«؛ للالتحاق بالمدارس المتوسطة في بغداد([23]). ثم مغادرة خمس طالبات حضرميات إلى السودان وتوزيعهن على المدارس هناك([24]).
كما رحبت الكاتبة بمشاركة الفتاة في الإضرابات والمظاهرات الطلابية، التي عمّت حضرموت مطلع عام 1964م تنديدًا باعتقال السلطات الاستعمارية للزعماء السياسيين والوطنيين في عدن، وتحت عنوان (أول مظاهرة تقوم بها الفتاة الحضرمية)([25])، أشادت بذلك اليوم التاريخي الحافل في تاريخ الفتاة الحضرمية، وكتبت تقول: »الإثنين 6 يناير 1964م، كان يومًا حافلًا وتاريخيًا في حياة الفتاة الحضرمية، إنها تباشير الفجر المشرق، حملته لنا السنة الجديدة، فلأول مرة في تاريخ المرأة الحضرمية، منذ أجيال، تبدأ الفتاة الحضرمية في المكلا، بتحطيم القيود التي كُبِّلت بها أعوام طويلة باسم التقاليد البالية.. تلك التقاليد التي تفرض على المرأة والفتاة أن تكونا بمنأى عن كل الأحداث الهامة التي يتعرض لها الوطن.. لقد هبت المرأة الحضرمية تواكب الزمن، وتشارك بإيجابية في أحداث وطنها العربي الكبير والصغير.. وكانت مظاهرة اليوم المؤلفة من بضع فتيات من طالبات المدرسة المتوسطة بالمكلا أول خطوة مباركة، تخطوها الفتاة الحضرمية نحو هذا السبيل.. ولقد شاهدت موكب المتظاهرات والمتظاهرين يمر أمامي ذهابًا وإيابًا، فلم أستطع وقتها أن أحبس دموعي، وبعد أن تفرقت المظاهرة هرعت إلى قلمي لأعبِّر عن شعوري إزاء ذلك الحدث -التاريخي-، فخانني التعبير ولم أجد ما أقوله سوى هذه الكلمة الصغيرة«.
هذا غيض من فيض كتابات سلامة عبدالقادر بامطرف، التي كان لنشأتها في محيط يتعاطى العلم والمعرفة والثقافة، أثره البالغ في حبها للعلم والمعرفة والاشتغال بالتدريس، ثم الاهتمام بالأدب والصحافة واقتحامها لميدان الكتابة الصحفية والأدبية الهادفة، متكئة على قاعدة تعليمية، وخلفية ثقافية ومعرفية، بحيث أسهمت تحت اسمها المستعار (س. ع. ب) مساهمة فاعلة في الصحف الحضرمية خلال ستينيات القرن الماضي، حتى إنه كان لها متابعوها من القراء والقارئات، ممن اضطرت للاعتذار لهم لعدم تمكنها من مواصلة الكتابة عند تعرضها لوعكة صحية، وتمنت لها الصحيفة الشفاء العاجل، لتعود إلى مواصلة كتاباتها([26]).
ويمكننا القول إن سلامة بامطرف، رائدة تنويرية في مجال الفكر الاجتماعي، وفي الدفاع عن حقوق المرأة وقضاياها، وحقها في التعليم وفي الحياة الكريمة، فهي أول كاتبة حضرمية تهتم بشؤون المرأة اهتمامًا شخصيًا متصلًا بالحياة العامة، ودعت إلى تأسيس نادٍ ثقافي خاص بالمرأة، وكرست كتاباتها الصحفية لقضايا المرأة الأكثر إلحاحًا في عصرها، كما لم تفعل أي كاتبة حضرمية من قبلها، وتخلت عن ذاتيتها لصالح الهوية الجمعية لكل الحضارمة، وللدفاع عن حقوق المرأة بشكل خاص، فضلًا عن إسهاماتها في مجال كتابة القصة القصيرة، وهو ما يجعلها رائدة الكتابة القصصية (النسائية) في حضرموت.
لا نعلم عن حياتها شيئًا بعد مرحلة الستينيات، ولا ندري لماذا توقف يراعها عن العطاء، ولو استمرت بالكتابة بذات الحيوية والنشاط لأثرت حياتنا الثقافية بدرر كثيرة من كتاباتها الإبداعية وأفكارها النيرة، لكننا للأسف لم نعد نقرأ لها شيئًا، ويبدو أنها عاشت بقية حياتها الأسرية بهدوء بعيدًا عن أوجاع مهنة المتاعب وهمومها، حتى اخترمتها المنية في 7 يوليو عام 2015م. وكان رحيلها أيضًا بهدوء عن دنيانا، وهي التي حركت المجتمع الحضرمي بما أثارته من قضايا المرأة وحقوقها في الصحف الحضرمية خلال ستينيات القرن الماضي. ومثلها مثل كثير من المبدعين لم تلتفت الدولة إلى تكريمها في حياتها، ومع ذلك يحسب للجنة الوطنية للمرأة مبادرتها الطيبة والتفاتتها القيمة لتكريمها عام 2005م بمنحها درع الريادة في مجال الصحافة؛ تقديرًا لدورها الريادي في تعليم الفتاة وفي الكتابة الصحفية في حضرموت.
وفي الختام.. أكرر الدعوة التي سبق لي أن وجهتها للزملاء في (مركز حضرموت للدراسات التاريخية والتوثيق والنشر)، خلال مشاركتي في الندوة العلمية (صحيفة الرأي العام الحضرمية – الرسالة والرؤية) لتبني جمع مقالاتها وكتاباتها القصصية جميعها وتوثيقها، وَتَتَبُّع سيرتها الذاتية ومحطات حياتها العملية واستقصائها من خلال ذكريات أقاربها وكل من عمل معها من الرجال والنساء ممن ما زالوا أحياء يرزقون، وإصدار ذلك في كتاب خاص عن سيرتها وأعمالها لتستلهم منها نساء وفتيات عصرنا الدروس والعظات، وتحفزهن لارتقاء سلالم المجد بثقة واعتداد، فقد كانت -رحمها الله- امرأة طموحة، معتدة بنفسها، لم تقبل العيش في هامش الحياة، بل فرضت نفسها باقتدار، ووقفت تنافح بقلمها وفكرها ضد التقاليد البالية، التي تقيد حرية المرأة وتحرمها من حقها في التعليم، وأظهرت بسلاح العلم والمعرفة، قدرة المرأة على العطاء والتأثير في الحياة العامة، إذا ما أُتيحت لها الفرصة وفُسح لها المجال، ومثلها تستحق أن تُوَثَّق سيرتها العطرة وكتاباتها الهادفة، ويكفيها فخرًا وتخليدًا أنها كانت رائدة الكتابة النسوية في حضرموت.
[1] – صحيفة الرائد، العدد (24)، 3 أبريل 1961م، ص 7، ركن (حديث حواء).
[2] – صحيفة الرائد، العدد (135)، 26 أغسطس 1963م، ص3 ركن (حديث حواء).
[3] – صحيفة الرأي العام، العدد (7)، 23 أغسطس 1963م، ص3.
[4] – صحيفة الرأي العام، العدد (15)، 18 أكتوبر 1963م، ص3.
[5] – صحيفة الرأي العام، العدد (7)، 23 أغسطس 1963م، ص3.
[6] – صحيفة الرأي العام، العدد (8)، 30 أغسطس 1963م، ص3.
[7] – صحيفة الرأي العام، العدد (10)، 13 سبتمبر 1963م، ص3.
[8] – صحيفة الرأي العام، العدد (11)، 20 سبتمبر 1963م، ص7.
[9] – صحيفة الرأي العام، العدد (12)، 27 سبتمبر 1963م، ص3.
[10] – صحيفة الرأي العام، العدد (14)، 11 أكتوبر 1963م، ص3.
[11] – صحيفة الرأي العام، العدد (19)، 15 نوفمبر 1963م، ص3.
[12] – صحيفة الرأي العام، العدد (21)، 29 نوفمبر 1963م، ص3.
[13] – صحيفة الرأي العام، العدد (27)، 10 يناير 1964م، ص4.
[14] – صحيفة الرأي العام، العدد (35)، 13 مارس 1964م، ص3.
[15] – صحيفة الرأي العام، العدد (13)، 4 أكتوبر 1963م، ص3.
[16] – صحيفة الرأي العام، العدد (17)، 1 نوفمبر 1963م، ص2.
[17] – صحيفة الرأي العام، نشرت على حلقتين في العدد (25)، 27 ديسمبر 1963م، ص2. وكذا العدد (26)، 3 يناير1964م، ص2.
[18] – صحيفة الرأي العام، العدد (8)، 30 أغسطس 1963م، ص3.
[19] – الصحيح أن يقال: صفر على الشّمال؛ لأنه لا يُساوي شيئًا، أو قليل النفع، أما قولها: »صفر على اليمين« فهو خطأ كان ينبغي التنبه له خاصة وأنه ورد في عنوان المقال.
[20] – صحيفة الرأي العام، (19)، 15 نوفمبر1963م، ص3.
[21] – صحيفة الرأي العام، (9)، دسبتمبر 1963م، ص3.
[22] – صحيفة الرأي العام، (26)، 3 يناير 1964م، ص1.
[23] – صحيفة الرأي العام، (61)، 18 سبتمبر 1964م، ص1.
[24] – صحيفة الرأي العام، (80)، 1 فبراير 1965م، ص1.
[25] – صحيفة الرأي العام، (27)، 10 يناير 1964م، ص4.
[26] – صحيفة الرأي العام، العدد (23)، 13 ديسمبر 1963م، ص2.