كتابات
محمد علي باحميد
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 9 .. ص 41
رابط العدد 9 : اضغط هنا
المعلمون السودانيون “عناقيد العنب الأسود” كما وصفهم الشاعر العربي الكبير نزار قباني يستحقون منا أن نكتب عنهم كشخصيات أسهمت بقسط وافر في صنع الجيل الحضرمي الصاعد، وأن نخلد أسماءهم في سجل بناة ذلك الجيل إلى جانب إخوانهم من المعلمين الحضارم.
إنني أرى أنهم أكبر من أن أكتب عنهم هذه السطور، فتعريفي بهم هنا سيكون مجرد لقطات تحكي جزءًا محدودًا من عطاءاتهم التربوية، والتعليمية، والرياضية، رغما من أن تلك الأيام مرّت من غير أن نسجل شيئًا عنهم، كما أن الذاكرة قد انمحى منها الكثير مع تعاقب الأيام.
لقد كان لعطائهم التعليمي والرياضي آفاقٌ رحبة، أوجدوا لهما مجالًا للانطلاق في كل مدن وقرى وبلدان حضرموت، التي وصلوا إليها وأقاموا بها، وما ابتغوا من ذلك غير التعليم، والنهوض بالأجيال سبيلًا.
إنهم عاشوا في مجتمع حضرمي كانت حياته كلها شطفًا وشقاءً وعناءً، لكنه كان رمزًا للأمان والطمأنينة والسماحة لكل من يفد إليه … فهو بطبيعته مجتمع متضامن متكافل .. بسيط خيّر.
لقد فرض السودانيون بأخلاقهم وتواضعهم وحسن سيرتهم وجودهم على الساحة التعليمية والرياضية الحضرمية ساحلًا وواديًا، ولهذا ما أستطاع مرور السنين الطويلة أن يمحو أسماءهم وذكرياتهم، كما امتلكوا وبجدارة ناصية القدرة التعليمية، والعطاء التعليمي المبهرة، الذي ظل يشع حتى اليوم.
إن سلوكهم كما شاهدته وعايشته كله سمو؛ فهم يؤدون يومهم الدراسي وهم راضون، بعكس البعثات التعليمية العربية التي جاءت من بعدهم، وعندما يطلبون شيئًا يطلبونه بغير تعجيز، وعندما يكون هناك تقصير فلا يتذمروا أو يعاندون.
لقد انصهروا في المجتمع الحضرمي من أول قدومهم إليه وكأنهم ولدوا فيه؛ لأنهم يتمتعون بدرجة كبيرة من التسامح، والتواضع، ولأخلاق الفاضلة، ووجدوا في كل أنحاء حضرموت بيئة مدرسية، توفرت فيها الثوابت المشتركة بين المجتمع السوداني والمجتمع الحضرمي، وهي: اللغة، والدين، وبعض العادات والتقاليد، فأظهروا، ومارسوا فيها ما لديهم من إبداعات مختلفة وطاقات متميزة، كما توفرت لهم كل عناصر العملية التعليمية: من طلبة مجدين مثابرين، ومادة علمية، ومناهج مكثفة، وطرق تدريس لديهم، سهلت المعرفة، والاستيعاب عند الطلاب، وإدارة شاملة مستوعبة لدورها، ونشاطات متنوعة أداروها، وأشرفوا عليها فجّرت طاقات الطلاب ومواهبهم الكامنة لديهم. بعكس ما آل إليه مستوى التعليم اليوم ونعيشه، فنحن في شكوى دائمة يعلنها الكل، وفي مقدمتهم الطلاب أنفسهم، وأولياء الأمور على السواء.
لقد تسلح ذلك الجيل بالعلم والمعرفة في وقت كانت لا توجد فيه وسائل إعلام مرئية، وإنما كانت توجد وسائل سمعية ومقروءة وفي نطاق ضيق جدًا، بل كان الطلاب آنذاك مقتصرين في غالبهم على قراءة كتبهم المدرسية فقط.
أما جيل اليوم فنراه يتسلح بالخنجر والآلي بدلًا من الكتب والتراجم.. ويتشبع بدلًا من الآداب والخلق، بالقيم القبلية البائدة، وبدلًا من أن يحترم النشاط والعمل وقيمة الوقت، نجده يضيع الوقت بين القات والدخان والفضائيات الماحقة له.
صحيح كان المعلمون السودانيون معلقين بتدخين السجائر إلا أنها كانت بالنسبة لطلاب ذلك الوقت شيئًا غريبًا، بل كانت شيئًا محرمًا، لكن بعض الطلاب، وهم قليل جدًا يتعاطون السجاير خفية ومن وراء جدر؛ لأن المدخن في تلك الأيام يكون ناقصًا في أعين الناس، ومنبوذًا منهم، وخاليًا من الأدب، ومتمردًا في نظر أهله.
عندما نكون في حصصنا الدراسية فإننا لا نستطيع أمامهم أن نستخرج أيًّا من أفانين العبث والشقاوة بالرغم من أنه يوجد بالصف طلبة فكرة مبهرة يملكون قدرة فائقة في الحيلة والمشاغبة، إلا أنهم يجدون أنفسهم أمام أساتذة شداد غلاظ، يرتكز أسلوب تعليمهم على الشدة والترهيب والعقاب بدلًا من الترغيب والثواب. وعندما التحقت بسلك التدريس اقتبست منهم الشيء الكثير من طرف التدريس، وكذلك غلظتهم تلك مع الطلاب.
أما مسألة الغش في الامتحانات في أيامهم فهو يحطُّ من قدر وقيمة الطالب، ولذا يتجنب معظم الطلاب الخوض فيه، ويركزون على استذكار دروسهم بدلًا من التفرغ لإعداد أوراق الغش، وإضاعة الوقت الطويل.
لقد كان في عهدهم لا يتسامح مع الغش، بل عدم تسهيله وتيسيره، بل كان بعض الطلاب يومها يبلّغون عن زملائهم الذين يغشون، فتنزل عليهم العقوبات، وغالبًا ما تكون قاسية.
إن استنكار معظم الطلاب لمحاولات الغش في الامتحانات كانت رادعًا لأولئك الغشاشين من أن يستمروا في محاولة الغش المقيتة. إن التعليم القائم على الصدق والنزاهة والأمانة هو الذي يعد المتعلم الإعداد المطلوب والمرجُوَّ له في مستقبل حياته.
جاء المعلمون السودانيون إلى حضرموت شبابًا في مقتبل العمر.. يتميزون بصفاء الذهن والحيوية والنشاط، فكانت سنوات اغترابهم في حضرموت فترة مثمرة، ليست في مجال التعليم فحسب، وإنما كانت لهم قدرات شتى في مجال الرياضة، سواء كانت المدرسية والأهلية.
ففي المدارس تم تشكيل الفرق الرياضية، وتم تسميتها بأسماء رومانسية: كالشاطئ، والينبوع، والبحيرة، وبعضها بأسماء بعض الأعلام الأبطال: كخالد، وطارق، والوليد، وكان ذلك في ظروف مجتمعية، غير مستوعبة لمثل ذلك النشاط.
إن تشكيل تلك الفرق (المنازل) بالمدارس المتوسطة والثانوية كان هدفها تدريب الطلاب على ممارسة النشاطات الرياضية وإدارتها وفي مختلف الألعاب، حتى إذا ما تخرجوا سهل عليهم الاندماج في الأندية الرياضية الأهلية، وفي مختلف مؤسسات المجتمع المدني. وهذا ما قمت به ومارسته بعد تخرجي من المدرسة الثانوية؛ إذ شغلت منصب المسؤول الثقافي لبعض الأندية الرياضية بسيئون، ومنصب الرئاسة فيها.
لقد خلق المدرسون السودانيون ومن خلال مشاركتهم في مجال الرياضة أجواء رحبة من المودة والألفة بينهم وبين من احتكوا بهم وعاشروهم من أبناء مختلف المناطق التي ذهبوا إليها في ساحل ووادي حضرموت، وكانت مشاركتهم في النشاط الرياضي يومئذ بلغت العنفوان. بل لعبوا أدوارًا كبيرة في الارتقاء بالمستوى الرياضي للأندية، وتدريب لاعبيها، واللعب معهم، فكانوا ركن كل فريق رياضي في أنحاء كثيرة من حضرموت.
ففي المكلا اشتهر الأستاذ صالح أحمد إبراهيم الذي عرف بـ(صالح رياضة)، وفي الشحر الأستاذ عثمان سليمان مصطفى لاعب ومدرب نادي شباب الجنوب. وفي غيل باوزير الأستاذ محمد طه الدقيل مدرب النادي الأهلي الرياضي، الذي خرجوا من تحت عباءته عبدالله وفرج آل باعامر، وعمارو .. وسعيد باشطح.
وفي سيئون كان الأستاذان حسن صالح جاويش وأحمد عبدالخالق أحمد لاعبي ومدربي نادي الأحقاف الرياضي بسيئون، وقد علا شأنهما في المجتمع السيئوني عندما لعبا ضمن فريق هذا النادي العريق.
وفي تريم وتاربه كان الأساتذة: ياسين حاج ماجد، وعلاء، ومجذوب، وفي شباب حوطة أحمد بن زين الأستاذ هاشم محمد مساعد، وفي فريق نادي اتحاد شبام الأساتذة: محمد الشيخ بكري، وحسين مصطفى الفكي، ومحمد نور عوض الله ومحمود شلال عبدالرحمن، وفي فريق شباب القطن الأستاذ علي منصور.
وقد قدم هذا العدد الملحوظ منهم عطاءاتهم ومهاراتهم في مجال الرياضة المدرسية والأهلية، ولهذا أجمع الناس في حضرموت كلما جاء ذكرهم في الثناء عليهم، والإشادة بهم، وأصبح الكلام عنهم لا ينضب أبدًا، لكن للأسف الشديد رحلوا عنا إلى وطنهم الأم، ولم نكرمهم بما يستحقون عندما كانوا بيننا.
وبما أنني ذكرت بالأسماء الرموز التي أرست مداميك الرياضة في حضرموت، فإنه يجدر بي ولزامًا علي أن أسجل هنا وأِشير إلى أسماء بعض الرموز التربوية والتعليمية التي أرست مداميك التعليم النظامي الحكومي في حضرموت، والذين يأتي في مقدمتهم الشيخ القدال سعيد القدال، الذي جاء إلى المكلا عام 1939م، وكان عمره ستًا وثلاثين سنة، ومكث بها حتى عام 1957م؛ إذ عمل ناظرًا للمعارف بالدولة القعيطية أحد عشر عامًا، وسكرتيرًا للدولة سبع سنوات، وهو إلى جانب عمله بتلك الوظيفيتين، فقد كان شاعرًا وأديبًا وسياسياُ محنكًا. وقد توفي رحمه الله عليه في الخرطوم عام 1975م.
بعد موته بسنين جاء ابنه محمد ليدرّس في جامعة عدن، ومن ثم في جامعة حضرموت، واستطاع أثناء إقامته بالمكلا أن ينبش ما استطاع نبشه عن تاريخ والده من أرشيف الدولة القعيطية السياسي والتربوي، وطلع علينا منه بكتاب يحكي لنا تجرية والده الغنية في حضرموت تحت عنوان (القدال باشا … معلم سوداني في حضرموت).
وإلى جانبه عمل وتعاون معه من أبناء وطنه الأساتذة الأفاضل: عوض عثمان مكي شقيق زوجة القدال، ويعتبر مؤسس الحركة المسرحية الحديثة بحضرموت، وحسين خوجلي، الذي تحمل مسؤولية إدارة المدرسة الوسطى بغيل باوزير لعشر سنوات، ويمتلك مهارات في تدريس مادة اللغة الإنجليزية، وسعيد أيوب القدال، والأستاذ محجوب زيادة حمّور المدير الأول للثانوية الصغرى -مدرسة المعلمين- بغيل باوزير، وإبراهيم مجذوب مالك، وكان مديرًا للمدرسة الوسطى بغيل باوزير لعام دراسي واحد 59/1960م، وأحمد بابكر العمدة، وعبدالباقي يوسف نعمة، المدير الأول للمعهد الديني بغيل باوزير.
وفي سيئون تحمل مسؤولية إدارة المدرسة الوسطى من السودانيين الأستاذ سيد أحمد الحردلو حسن، وذلك عام 1959م، سنة التأسيس لها، وكذلك الأستاذ حسن صالح جاويش عام 1965م، ثم الأستاذ عوض إسماعيل عام 1966م.
وفي المكلا تحمل مسؤولية إدارة ثانوية المكلا الأستاذ عبدالقادر القلودي، وعمل مدرسين بها الأساتذة: محمد أبوزيد، مدرس الأدب الإنجليزي، وكان أيضًا مشرفًا على القسم الداخلي بها. ولي مع هذا الأستاذ حكاية طريفة، وهي: لقد كان مقررًا علينا في منهاج التربية الدينية للصف الرابع كتاب (شبهات حول الإسلام) للكاتب الإسلامي المعروف محمد قطب، هذا الكتاب الذي دخل بي إلى عالم الكتب الواسع، ومثّل طلقة البداية لاقتناص بعض مؤلفات هذا الكاتب، فلم يمض ذلك العام الدراسي إلا وقد اقتنيت من مؤلفاته: (الإنسان بين المادية والإسلام)، و (جاهلية القرن العشرين) ، و(معركة التقاليد) من كشك كان يقف بجوار (فندق الشعب) بديس المكلا. وقد أخفيتها عند الأستاذ الخلوق، الذي كان يسكن في محيط حرم المدرسة خوفًا من أن تقع عليها أعين بعض الطلاب من جناح اليسار؛ إذ كان الصراع السياسي يومها يموج بينه وبين جناح اليمين داخل تنظيم الجبهة القومية، ومحتدمًا ومشتعلًا حتى النخاع. وما إن حلّ عليّ يوم الرحيل في نهاية العام الدراسي أخدت تلك الكتب من عند أستاذي القدير، وهربت بها إلى منزلي بمدينة سيئون، ولا تزال حتى اليوم تقف منتصبة في دولاب مكتبتي المنزلية.
والأستاذ محمد أبو زيد يعد من المعيار الثقيل بين مدرسي اللغة الإنجليزية، فقد حكى لنا من الأدب الإنجليزي رواية (روميو وجولييت) لشكسبير، وكان مدرسًا يخاطبنا بأدب جم، يفوق مخاطبة الوالد لأبنه، وهذه هي طبيعته. كما أن طيبته تدفعه كثيرًا إلى تقديم أي مساعدة ممكنة، فهو بحق كان معلمًا ورعًا له صلابة في الدين.
وهناك الأستاذ حسين إبراهيم مدرسًا لمادة الجغرافيا، والأستاذ محمد أحمد الفكي مدرس مادة الفنون، التي تعتبر مادة أساسية في المنهج السوداني للمرحلة الثانوية؛ حيث يدخل الطلاب امتحانًا فيها كأي مادة دراسية أخرى في نهاية المرحلة (الصف الرابع)، ويتم احتساب درجاتها. أما اليوم فهذه المادة أصبحت الأكثر مهانة بين المواد الدراسية الأخرى، مما جعل مدرسي الرياضيات، والعلوم يسطون على حصصها.
ومما يؤسف له أنني التقيت بالمعلم (الفلكي) في السنة الرابعة والأخيرة لإكمال المرحلة الثانوية، والتي جعلتني ألتفت وباهتمام إلى كل المواد الدراسية الأخرى، ولهذا لم أتمكن من الاستفادة من ذلك المعلم الاستفادة الكبرى.
وإلى جانب هؤلاء كوكبة أخرى، وقائمة طويلة لا يمكن حصرها.
وعندما افتتحت مدرسة سيئون الثانوية عام 1965م كان المدير الأول لها الأستاذ عبدالفتاح أحمد عيسى، الذي قام بعمل متواصل، لم يتوقف أو ينقطع لترسيخ وضعها؛ إذ استطاع توفير الأولويات الأساسية قدر المستطاع؛ لتسيير الدراسة على الوجه الأكمل، فكان بجهده هذا الرجل الأول، الذي أسس، والقائد الأول لنشأة التعليم الثانوي في وادي حضرموت.
إننا نحتفظ له حتى اليوم بشعور طيب، بالمودة، والعرفان الجميل، والامتنان التام لكل ما قدمه.
لقد عمل تحت إدارته الأساتذة: إسماعيل مكي كنني مدرسًا لمادة العلوم، وصالح محمد شبّور، الذي لم يكن بيننا له كارهٌ، فقد وسعنا بحسن خلقه، وتواضعه، ولين معاملته، وكان أثناء تأديته لدرسه يعطيه شيئًا من المرح والمزاج بمقدار ما يُعطى الطعام من الملح. وقد قال عنه شاعر الصف الزميل أبوبكر محسن الحامد عندما مرض وغاب عنا أيامًا:
(ما للشبابير غابت عن مجالسنا .. أواه لو يرجع الشبور أواه)
وإلى جانب هذين المدرسين (كنني، وشبور)، يقف مدرس آخر، هو الأستاذ ميرغني النور جاويش، الذي كان نموذجًا للمعلم الحقيقي، فكان صوته يجلجل عندما يقرا علينا بعض النصوص الشعرية، والتي غرست في داخلي محبة الأدب، وقراءة الشعر.
في ذات يوم دخل إلى الصف، وكان يتأبط مجلة لم نعرفها من قبل، هي مجلة (الآداب) البيروتية، لصاحبها سهيل إدريس، فقرأ علينا منها رائعة نزار قباني، قصيدته السياسية النارية (هوامش على دفتر النكسة)، وفور انتهائه منها تملكني الإعجاب بها، وقمت ومعي بعض الزملاء بنسخ القصيدة بوساطة (ورق الكربون)، وتم توزيعها على عدد كبير من الطلاب. فبهذه القصيدة سمعنا منه ولأول مرة شعرًا لم نعرفه، ولم نقرأه من قبل، ألا وهو (الشعر الحر).
بعد سماعي لهذه القصيدة تعمق الولع، واستحكمت حلقاته بشعر نزار قباني، فولَّيتُ وجهي شطر شعره السياسي، وبقيت على هذا إلى ان رحل عن دنيانا.
عُرف الأستاذ ميرغني بالانفعال، وشدة الحرارة، فهو يمكن وصفه كالحطب ينتظر أن تلامسه النار فيشتعل، لكن عصبيته تلك تغوص في محيط عطاءاته ومهاراته المتعددة والمتنوعة. فعندما علمنا باسمه تحول اسمه إلى مادة يتندّر بها الطلاب، ويؤلفون حولة النكات؛ حيث طفا فوق أسماء المعلمين الآخرين، فمنهم من كان يقول (مرغْني) (بايمرغك)، حتى دخل علينا الصف في يوم من الأيام، وكأني به قد سمع ما تلوكه ألسنة الطلاب حول اسمه، فأمسك بالطبشورة وكتب اسمه على السبورة، ناطقًا به (أميرغني)، وقال لنا وبحزم هذا هو اسمي فالتزمنا الصمت.
كان خطَّاطًا بارعًا، يكتب بكلتا يديه خطًّا عربيًّا منضبطًا، وبرسم واحد له، فهو عندما تصل يده اليمنى بالطبشورة إلى وسط السبورة تجده يكمل الكتابة في النصف الآخر منها بيده اليسرى، من غير أن تلحظ أي تباين بين الحروف، أو خلل في نوعية الخط، أو قواعد كتابته.
كانت صلته بالرياضة قوية، فعندما انتقل إلى المكلا مدرسًا بثانويتها انضم إلى سلك التحكيم لمباريات كرة القدم. وفي عدن عمل في السلك الدبلوماسي السوداني كما أخبرني بهذا أحد الزملاء.
لقد عمل المعلمون السودانيون بحضرموت ولم يكن عليهم رقيبٌ إلاَّ من ضميرهم، فكانوا بحق معلمين أفاضل، أعطوا حضرموت أكثر مما أخدوا منها.
لقد جعلوا الطلاب يقبلون على المدرسة صباحًا وعصرًا وليلًا وهم في غاية الحماس والشوق والانشراح؛ لأنهم كانوا معلمين مثابرين، ويتمتعون بحيوية العطاء الفياض، مما جعل الطلاب ينجذبون إليهم، ويحملون الذكريات لهم، فهم رجال كرام يبذلون ما يقدرون عليه، فكانت إفادتهم، والاستفادة منهم متعددة وكثيرة، بل إن السنوات التي عاشوها بيننا لا يمكن أن تقاس بطولها أو قصرها، ولكن يمكننا أن نقيسها بما عملوه خلالها، وما حفورة في ذاكرة أجيالنا.
إن نشاطهم في المدارس المتوسطة والثانوية لم يقتصر على حشو إذهان الطلاب بالمعارف والمعلومات، بل زودوهم بالكثير من ألوان المهارات.. والقدرات والنشاطات المتعددة المختلفة، بل يمكنني القول -وبصوت عال- إن النهضة التعليمية الحكومية … والحركة الرياضية المدرسية وجزءًا كبيرًا من الرياضة الأهلية، هن جميعًا نبت من غرس المدرسين السودانيين، استمر طويلًا يغذي الحياة التعليمية.. والرياضية في حضرموت.
إن هذه السطور هي ذكريات، ظلت تتوهج في الذاكرة رغم ما تراكم فوقها من غبار السنين، وبما أنها ذكريات قد طويناها أرى لابد لنا أن ننشرها ونتذكرها، بعكس من يقول إنه ماض علينا أن نميل التراب، وأن نسدل ستائر النسيان عليه.
لاشك أن معظم أولئك المعلمين اليوم قد توالى رحيلهم عن دنيانا، ومنهم من امتد به العمر حتى يومنا ولم يعد يخرج من بيته إما لمرض أقعده، أو شيخوخة طالته.. فرحم الله من مات منهم، وأعطى الأحياء الصحة والعمر المديد.
لقد أردتُ من كتابة هذه السطور عنهم أن يظل علم البعثات التعليمية السودانية يرفرف بعد فراقهم لنا، لا أن تطويه الأيام والسنون.
لقد رحلوا إلى وطنهم الأم، وانطوت صفحتهم، ولكن ظلت لهم مكانتهم الخاصة بين تلاميذهم وطلابهم الذين تلقوا العلم على أيديهم، كما ظل إيقاعهم الرياضي يدق حتى اليوم، فنحن نكنُّ لهم كل التقدير والتبجيل والاحترام، وستظل مباني (بنداعر) وثانويتي المكلا وسيئون تذكرنا بهم، وشاهدًا على بصماتهم التي تتراءى لنا في كل منعطف وزاوية فيها، وكلما وقفنا في ساحاتها الرحبة والواسعة.
وأختتم هذه السطور بما قاله الدكتور غازي القصيبي عليه رحمه الله في مذكراته (حياة في الإدارة) حيث قال: ” علاقة الطالب بالمدرس علاقة حميمة فريدة، تستمر عبر السنين. لا تزال فرحتي بالغة عندما يتقدم أحد مني ويخبرني انه كان من طلبتي، وفرحتي لا تعرف الحدود عندما أجد طالبًا من طلبتي وقد نبغ في ميدان من الميادين”.