كتابات
عادل حاج باعكيم
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 9 .. ص 50
رابط العدد 9 : اضغط هنا
يُعدُّ الحديث عن الأمور الوجدانية والروحيَّة في الأشخاص من الأمور ذات الطرق الوعرة، والقفار الموحشة, فليس من السهل استقراء وجدانية إنسان عادي، فما بالك بعلم ورمز من أعلام الزَّمان .
نتحدث في هذه العجالة عن تلك العلاقة الوجدانية التي ربطت بين علمين من أعلام حضرموت في القرنين الثالث عشر والرابع عشر للهجرة، وهما الإمام الجليل علي بن محمد الحبشي، والقاضي الأديب عبدالله بن محمد باحسن جمل الليل, وذلك من خلال بعض ما حواه ديوان القاضي باحسن (القوافي الزهيرة)([1]) من قصائد, وهذه العلاقة تُعدُّ أنموذجاً مصغَّراً من العلاقة العلميَّة والوجدانيَّة بين المدينتين (سيؤن والشحر) . قبل أن نتحدث عمَّا كان بين الشيخ وتلميذه من العلاقة نعطي ومضات من السِّيرة العطرة لكلا العلمين محور الدراسة .
الإمام المتفرِّد علي بن محمد بن حسين الحبشي, ولد يوم الجمعة 24 شوال 1259هـ، ونشأ في بيئة زاخرة بالعلم، فكان أخذه عن أكابر علماء عصره، منهم والده العلَّامة مفتي الشافعية بالحجاز محمد بن حسين الحبشي، والحبيب العلَّامة عبد الله بن حسين بن طاهر، والحبيب العلَّامة الحسن بن صالح البحر الجفري، والحبيب العلَّامة محسن بن علوي السقاف, وكما قرأ على الحبيب شيخ بن عمر السقاف، وعلى الشيخ الفقيه محمد بن عبد الله الخطيب, ورحل إلى الحجاز وأخذ بها عن السيِّد العلَّامة أحمد بن زيني دحلان، ثم اتصل وأخذ على يد شيخ فَتْحِهِ الحبيب العلَّامة أبي بكر بن عبد الله العطاس .
أخذ عن المترجَم بعد تشبُّعه وتشرُّبه العلوم نخبة من التلاميذ، منهم من مدينة الشحر العلَّامة محمد بن عمر بن سلم -مؤسس الرباط بمدينة غيل باوزير-، والشيخ حسن بن خميس السعدي، والشيخ النحوي محمد بن سعيد باطويح، والشيخ القاضي محمد بن عمر العماري، والسيِّد الورع أحمد بن عبدالله بن إسماعيل، وأخوه علي، بالإضافة إلى القاضي الأديب المؤرخ عبدالله بن محمد جمل الليل وغيرهم, ومن مؤلفاته (سمط الدُّرر)، و(الموائد الرمضانية)، و(مقدمة في الحج والعمرة)، وديوانه (الجوهر المكنون والسِّر المصون)، و(حزب الفتح الكبير)، و(الدعاء المستجاب بآيات الكتاب)، وله مكاتبات ورسائل أخرى, من أهم إنجازاته وإسهاماته في نشر التعليم وتطويره في حضرموت تأسيسه رباط العلم الشريف سنة 1296هـ, توفي ظهر يوم الأحد 20 ربيع ثاني 1333هـ رحمه الله .
أما التلميذ فهو السيِّد القاضي المؤرخ الأديب عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أبي بكر باحسن جمل الليل, ولد بمدينة الشحر سنة 1278هـ, وقد بشَّر به قبل مولده السيِّد العلَّامة عبد القادر بن أحمد بن طاهر العلوي، المتوفى سنة 1300هـ، وذلك بإرسال بيتين من الشعر إلى والد المترجَم، قال فيهما :
يا باحسن نِلْتَ المِنَنْ ولن ترى أدنى حَزَنْ
وعن قريبٍ يا أخي يأتي لك الابنُ حَسَنْ
قال صاحب تاريخ الشعراء معلقاً : يقول في تاريخه (أي باحسن) أن أهله استحسنوا أن يسموه عبد الله؛ تبركًا باسم جدِّه عبد الله، لا باسم حسن كما سمَّاه لهم .
تلقى القاضي باحسن تعليمه في مدينة الشحر، وسيئون، وتريم، وغيرها من مناطق القطر الحضرمي, بدأ التلقي في أحد كتاتيب مدينة الشحر، ثم جعل يبحث عن العلماء، فأخذ عنهم، واستفاد منهم، واتصل بهم, إلى أن توسَّع في فهم بعض العلوم، منها: الفقه، والتفسير، والحديث، والنحو، وبقية فروع العربية، والتصوف, من أشياخه الأفاضل: والده السيِّد الفاضل محمد باحسن المتوفى سنة 1296هـ, والشيخ الولي عمر باسلامة المتوفى سنة 1300هـ, والسيِّد القاضي محمد بن أحمد بن محمد الشاطري المتوفى سنة 1319هـ, والحبيب العالم شيخان بن علي السقاف المتوفى سنة 1314هـ, والسيِّد العالم الفاضل عبد الله بن سالم عيديد المتوفى سنة 1306هـ, والحبيب جعفر بن محمد العطاس المتوفى سنة 1323هـ, والعلَّامة القاضي ناصر بن صالح بن الشيخ علي ابن هرهرة المتوفى سنة 1300هـ, والإمام المسند عيدروس بن عمر الحبشي المتوفى سنة 1314هـ, والإمام علي بن محمد الحبشي المتوفى سنة 1333هـ كما تقدَّم, والحبيب العلَّامة علوي بن عبد الرحمن المشهور المتوفى سنة 1341هـ, والحبيب عبد الله بن محسن السقاف المتوفى سنة 1313هـ وغيرهم.
تولى القضاء والمأذونية في الشحر، وكان محمودًا في عمله ذاك, أمَّا عن مؤلفاته فمنها (نشر النفحات المسكيَّة في أخبار الشحر المحميَّة)، و(تنبيه العقلاء بشرح ما جرى على بعض أبناء الفضلاء) و(مقامات أدبية)، وديوانه (القوافي الزهيرة)، وله فتاوى ومكاتبات غير مجموعة, توفي ببندر الشحر يوم الإثنين 17 ربيع الثاني سنة 1347هـ .
والآن وبعد أن تعرفنا على نُتَفٍ من سيرة الإمام الحبشي، والقاضي باحسن نعرِّج على النقطة التي تدور حولها هذه العجالة، وهي العلاقة الوجدانية بن الشيخ وتلميذه .
بعد أن تلقى القاضي باحسن بدايات التعليم في مدينته الشحر، بدأ يسعى خلف العلماء في قطرنا الحضرمي، فكان يختار من بينهم الدُّرر الثمينة؛ ليقتني منها ما أمكنه, ومن المعلوم أن من أبرز العلماء في ذلك الزمان الإمام علي بن محمد الحبشي، الذي كان حامل لواء العلم بمدينة سيئون, عندما علم المريد بخبر هذه الجوهرة النادرة، والكنز الثمين، شدَّ العزم، وذهب يسعى إليه راجياً منه قبوله بين تلامذته ومريديه فكان له ذلك .
مكث القاضي باحسن في بساتين أستاذه الحبشي، ورياض رباطه المسمَّى بـ(رباط العلم الشريف) مدَّة من الزمن، يرتع، ويتزود من ينابيع المعرفة, بعدها عاد إلى مدينته، وتولى نيابة القضاء بها، ثم أضاف له السلطان غالب بن عوض القعيطي المأذونية أيضاً، فأصبح قاضياً ومأذوناً في آنٍ واحد. كان لذلك الشيخ -الحبشي- حضور في كلِّ دقائق مريده, جعله ذلك ينسج الشعر كلما اشتدَّ به الشوق إلى ربوع من يحب, فقال يوماً- حينما اشتد به ذلك الشوق يمتدح شيخه الإمام الحبشي – قصيدة عبَّر فيها عن مكنونات وجدانه, جاء في مطلعها :
ما لقلبي يجول في خفقانه
ما بهذا عهدته ما لشأنه
خلته كالغريقِ في لُجِّ بحرٍ
أو كفُلكٍ يموج في طوفانه
إلى أن قال : إنَّني مشغف بحبِّ غَزالٍ
صادني واعتدى عَليْ بسنانه
فأنا مغرمٌ به طول وقتي
هل تراني أكون من غلمانه
يا بروحي من شاذن قد تولَّى
مهجتي وانبرى يجر عنانه
تائهاً لاهياً وليس بلائي
نحو حبِّ له غدا في امتحانه
يا عجيب العجيب إذ كان غيري
يتواسى بالجودِ من إحسانه
ما دوائي إلا الوصال وإلا
أنا مأسوره بقيدِ رصانه
إن شكوت الحبيب شكواي عارٌ
عند أهل الهوى وفي ذا إهانه
هكذا قاضي المحبِّين أقضى
ولهذا شيَّدت له أركانه
يا مليك الجمال رفقاً بحالي
إنني لا أطيق حمل الرزانه
إن حكم الهوى محين فمن ذا
يحمل الصبر من أذى أعوانه
فأحسن اللُّطف بي فديتك روحي
واجعل الصَّب رائقاً في أمانه
فمتى كنت بي شفيقاً فإني
حزتُ فوزي وطاب أنسي بآنه
أي وإلا فقد ركنت إلى من
شيَّد الله في العُلا بنيانه
ثم قال: الإمام الهُمام غوث البرايا
جهبذي العلوم في عِرفانه
بحر علم يموج في كلِّ فنٍّ
فلذا يعلوا على أقرانه
حائز الفضل كم له من هِباتٍ
سابغاتٍ كالسحبِ في هتَّانه
فهو في ذا الزمان معدوم ند
كيف أن قد يكون عقد جُمانه
مذ نشا في الأنام ساعا منيباً
في المعالي وناف عن أقرانه
من أبي بكر المعالي تلقَّا
ها وأرواه من كؤوس دنانه
وختم قصيدته بقوله :
يا ابن خير الورى وافاك نظم
من كثير الذنوب يرجو أمانه
عبد سوء فعله كلُّ نقص
ضيَّع العُمر في هوى طغيانه
ما له حيلة إلى الفوز إلا
حُبُّكم حيث كان داخل جنانه
فاقبلوني وستِّروا عن عيوبي
إن ذا النقص غارق في رهانه
وأدركوني بسرعةِ الغوث منكم
وأعذروا من أطال في هديانه
إنني أشتاق قربكم يا سروري
بل وأنسي إن حان حين أوانه
هذه القصيدة قالها باحسن في الشحر؛ حيث اشتدَّ به الوجد هناك، ثم أرسلها إلى سيئون, وذلك يوم الخميس 4 شهر ربيع الأول سنة 1309هـ – كما جاء في الديوان -, والقارئ لهذه القصيدة يتبين – ومن الكلمات الأولى – أن باحسن قد عُجِنَ قلبه بحب شيخه الحبشي .
عظمت المحبَّة بين الرَّجلين إلى درجةٍ لا نستطيع وصفها, فقد كان القاضي باحسن يشهد شيخه الحبشي في كلِّ من كان يراهم ممن تعرَّف عليهم في حضرة شيخه, فقال عندما وصل السيِّد الشَّريف عبدالله ابن الإمام علي الحبشيإلى بندر الشحر في 16 شهر شعبان سنة 1309هـ قصيدة يمدح بها شيخه الإمام الحبشي, جاء في مطلعها:
جاءت تجرُّ ذيول التَّيهِ والعُجُبِ
هيفاءُ ميَّاسة الأعطاف كالقَضِبِ
تختال في مشيها زهواً وقد خجلت
شمسُ الضُّحى إذ نفت عن وجهها الحُجُبِ
تسفرُ عن غُرَّةٍ تحكي الهلال إذا
أقام معتدلاً لم يلفه شَوَبِ
رشيقة القدِّ لا داني لها مثلٌ
وفي مباسمها نوع من الضَّرَبِ
في لحظها سحر هاروت فكم رشقت
صبًّا بأسهامها أضحى إلى العطبِ
فيا لها غادةٌ من حُسنِ منطقها
مالت غصونٌ لها من غيرِ ما طربِ
فقلتُ لمَّا سباني حُسنُ منظرها
الله أكبر كم ذا فيكِ من عَجبِ
أَومَت إليَّ بطرفٍ ناعسٍ دعجٍ
وافترَّ مبسمها الخالص الذَّهبِ
فقلتُ كُفِّي رعاكِ الله من وَلهي
فإنني لا أسوغ الجدَّ باللَّعِبِ
إلى أن قال :
مالي ومالك إنِّي قد ولهتُ بمن
في حُبِّهم غاية المأمول والطلبِ
من لهجت ألسنُ الشُّعرا بمدحهم
أهل الكمالات والتَّفضيل والقُرَبِ
نسلُ البتولِ وأبناءُ الرسولِ هم الـ
قوم الفحول فها هم غُرَّة الحُقَبِ
فما مديحي لهم والله شرَّفَهُمْ
نصُّ الكتابِ الذي يعلو على الكُّتُبِ
فهم نجومٌ لأهلِ الأرضِ قاطبةً
وهم أمانٌ من الأوصابِ والنَّكبِ
منهم إمام الورى الغوث الذي ابتهجت
بنوره سائر الأعجامِ والعربِ
سِرُّ النبوة أكسيرُ الوجودِ ومن
سما بمجدٍ له عالٍ على الشُّهُبِ
أعني به حَبَشيُّ الأصل من رسخت
أقدامه في علوم الكسبِ والوَهَبِ
أبو المهذَّب عبدالله سيِّدنا الرَّاقي
إلى رتبةٍ من دونها الرُّتبِ
طودُ العلومِ ولاقَّاحُ الفهمِ ومقدامُ
القدوم بلا شكٍّ ولا رِيَبِ
به هدى الله كم منحائر وكفى
شرَّ الأعادي وزالت عنَّنا الكربِ
وهو الغِياث الذي لا زال نائِلُهُ
يرفل في حالةِ الأفراح والخِصَبِ
يا سيِّدي يا عليَّ القدر يا سندي
هيَّا بكم علَّ أن يقضى لي الأربِ
فأنت كهفي ومأمولي ومستندي
وليس لي سببٌ بل أنتمُ سببي
إلى آخر ما قال في تلك القصيدة الرائعة .
ومن مظاهر ولع القاضي باحسن بشيخه الحبشي أن قام بتعجيز وتصدير قصيدة شيخه الإمام الحبشي التي مطلعها ( يا جامع الشمل يا كنز العديم ) وسبب اختيار باحسن لهذه القصيدة واضح وهو ولعه بها, كما أنه يشعر أنها من روح شيخه الذي يطلب دائماً الاجتماع به – في الحقيقة أم في غيرها – حيث أراد بتعجيزه لها أن يمزج الشوقين والرجاءين معاً ليتم اللقاء هنا وهناك, وذلك كان بتاريخ 17 شوال سنة 1312هـ, قال في مطلع هذا التعجيز والتصدير :
يا جامع الشَّمل يا كنز العديم أسألك بأسمائك يا الفرد العليم أسلك بنا نهج من هم في تريم بهم نرى الفوز في دار النعيم من كلِّ عارف صراطه مستقيم مجذوب للقرب في الحضرة لزيم مثل الإمام الذي مجده فخيم مقدَّم القوم ذو الجاه العظيم يا مرحبا جاءتنا حكمة حكيم فيها الهنا والبشارة من قديم عسى بها يشتفي القلب السَّقيم ينزاح عنَّا الكدر ذاك الوخيم | يا مستجيب الدُّعا عند الطِّلاب افتح لنا يا إلهي كلَّ باب من كلِّ عارف إلى التقوى أناب أجدادنا نعم هاذيك النَّساب زاكي المزايا نقي صافي الجناب سكران أسكره كاسات الشراب شيخ المعارف مزيل الارتياب فقيهنا هو إمام أهل الكتاب أضحى لها القلب يا ندمان حاب حَوَت من أسرارنا فصل الخطاب نحظى بكلِّ المقاصد في المئاب يعود في الأنس ما قد كان غاب |
إلى آخر ما قال .
وممَّا أدهشني في تلك العلاقة الوجدانية التي كانت بين الشيخ والمريد هو أن القاضي باحسن عندما بلغه خبر وفاة ابنه سالم، وهو حينئذ بمدينة سيئون قال قصيدة يمدح بها شيخه الإمام الحبشي؛ وذلك ليسلي بها نفسه ويصبِّرها، ويجعلها تستكين من هول ذلك الخبر الفظيع, قال باحسن في الديوان ما نصه :” قال – عامله الله بإحسانه – وهو إذ ذاك بسيئون حين بلغته وفاة ولده السيِّد سالم, فقال يمتدح السيِّد الشَّريف الجليل الحبيب علي بن محمَّد الحبشي – نفع الله به – في ربيع الأول سنة 1310هـ”, والقصيدة التي نتحدث عنها هي :
عبرتي عبرتي لما قد دهاني
مذ ترحَّلتُ عن رُبَا أوطاني
قد دهتني همومٌ والله منها
ما يشيب الرَّضيع ممَّا عراني
يا لقومي ولم أقل يا لقومي
حيث أني أجول في أحزاني
غير أني حللتُ في ربعِ من قد
ترجمت فضله حروف المثاني
من ترقَّى صُهى ذرا المجد حقًّاً
عالي المجد ذو العطا الربَّاني
سيِّدي قدوتي ملاذي وغوثي
ملجئي من جميعِ إنسٍ وجانِ
يا حبيبي هذا عبيدك يرجو
منك عطفاً مع رحمةٍ وامتنانِ
جا إليك يرجو نوالك فضلاً
قل نعم سائلي عُطيت الأماني
أنت والله في المعالي عليَّا
ما مديحي بل فيك كلَّت لساني
غير أني أقول في كلِّ حينٍ
أنت في العالمين عقد جُماني
فاقضِ يا سيِّدي شؤوني جميعاً
إنني لا رجوتُ غيرك ثاني
واسأل الله أن يبدل عُسري
منه باليُسرِ لي ويصلح شأني
وعليك السَّلام منِّي دواماً
دائم الدَّهر في مدى الأزمانِ
هذه القصيدة تجسِّد عمق العلاقة التي كانت بين باحسن والحبشي, فعندما يغيب العالم بأسره وبجملته من أمام باحسن، ولم يشاهد في هذه الأرض بأكملها سوى شيخه الحبشي، فلا داعي بعدها نُعدِّد الشواهد والأدلة التي نعضِّد بها قولنا: ” إنهما ارتبطا وجدانياً، بل عجنت محبَّة الإمام الحبشي في كلِّ وجزءِ القاضي باحسن”، مع أن في ديوان باحسن الموسوم بـ (القوافي الزهيرة)، الذي قمنا بتحقيقه مؤخراً قصائد عديدة لم نتطرق لها في هذه العجالة, إلا أننا سنختم حديثنا هذا بالمرثية التي نظمها القاضي باحسن في شيخه .
قال باحسن تقديماً لتلك المرثية – التي نسجها بتاريخ 8 جمادى الأولى سنة 1333هـ – ما نصُّه :” قال مرثياً للسيِّد الإمام الجليل الفاضل, سلالة الأفاضل, العارف بالله ورسوله, القطب الشهير, سيدنا وبركتنا الحبيب علي بن محمد بن حسين الحبشي نفعنا الله بسرِّه ولا حرمنا بركته آمين “, والآن لابد علينا أن نختتم بالأبيات وهي :
سيف المنيَّة أضحت منه سطواتُ (كلُّ ابن أنثى وإن طالت سلامته) لا تعزز بصفا الأيام مبتهجاً ما أنفس العمر لولا الموت يرخصه يكفيك إنَّا وإن قمنا على وجلٍ أفٍّ لدارٍ صفاها بعده كدرٌ بينا جرى المرءُ في تاراته فرحاً يا هل ترى هل لهذي الدار من آسفٍ فأربا بنفسك ممَّا أنت آملهُ أو ما علمت بطود العلم دكَّ وقد حبيبنا طيِّب الذات الكريم ومن ملجا الوفود وإكسيرُ الوجود السيِّد الغوث قطب الوقت من رسخت عالي المقام عليُّ الذات سيِّدنا العالم العامل القطب الشهير ومن بحرُ العلوم رحيق القرب مشربه لا أستطيع امتداحاً حيث قلت فقد ماذا أقول إذا عدَّت فضائله فلتبكه كتب الحدَّاد أجمعها كانت به ساحة الأشراف زاهرةً كأنَّ طلَّابَةَ العلمِ الذين به وكيف لا وعليُّ القدر قائدهم وإنَّما حكمة الأقدار جارية آه على ذلك الشهم الذي انصدعت آه على ذلك الفرد الذي ابتهجت فالله يغمر قبراً ضمَّ جثَّته ويخلف الكلَّ بالخيرات أجمعها بحقِّه نسأل الرحمن يشملنا وصلِّ ربِّي على المختار شافعنا والآل والصحب والأتباع أجمعهم ما قال مكلوم قلبٍ زاده حرق | فكم له في الورى بالقهرِ غاراتُ لابد أن تنقضي للعمر أوقاتُ فللدهور صروفٌ بل وحالاتُ وما ألذَّ الصفا لولا المنيَّاتُ أيامنا والليال مستعاراتُ بل كل أيامها تمضي كدوراتُ لا وفاجأته في الحال آفاتُ كلَّا وإن أقبلت منها مسراتُ منها وتكفيك للزجر إشاراتُ بكت عليه الأراضي والسمواتُ له على هامة العليا مقاماتُ ومرآة الشهود وينبوع الكراماتُ أقدامه وله في المجدِ عاداتُ زاكي الصِّفات الحميدات السنيَّاتُ في الخافقين له بالنور شاراتُ فعن معاليه تنبيك الفتوحاتُ أثنت على ذاته السبعُ القراءاتُ وقد أتت بمزاياه الزِّياداتُ ولتبكه في الدُّجى منه المقاماتُ وفي الرياض لأهل العلم راياتُ إذا استداروا على التدريسِ هالاتُ وقد رعتهم من الله العِناياتُ في طيِّها لذوي الأبصار آياتُ قلوبنا وأذابتها الحراراتُ بنوره الأرض وانجالت ظلاماتُ بسابغ الرَّحمات المستجيداتُ فضلاً وتمحى به عنَّا الخطيَّاتُ بعفوه وتوافينا السَّعاداتُ ما حنَّ رعد وما سحَّت غماماتُ ومن بهم تندفعْ عنَّا المُلِمَّاتُ سيفُ المنيَّة أضحت منه سطواتُ |
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين([2]) .
[1] – هذا الديوان قمنا بدراسته وتحقيقه مؤخراً وسيطبع قريباً بإذن الله تعالى .
[2] – أصل هذا المقال محاضرة ألقاها الكاتب ضمن فعاليات ندوة “دور رباط العلم الشريف في نشر الإسلام وخدمة العلم, تلاميذه وخريجيه أنموذج”, نظمها رباط العلم الشريف بسيوون بمناسبة الذكرى 106 لوفاة مؤسسه الإمام الحبشي, بتاريخ 5 يناير 2018م .