نقد
أ.د. عبدالله حسين البار
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 9 .. ص 88
رابط العدد 9 : اضغط هنا
إشارةٌ:
(لغة الشّاعر عوض الشّقّاع لغةٌ ريّانةٌ حقًّا، وهو كثيرًا ما يفاجئ قارئه، ويحقّق له ما يسمّى بخيبة التّوقّع، الذي هو مبعثُ المتعة، ومصدرُ الشّعريّة في لغة القصيدة المعاصرة.)
الشّاعر العراقيّ علي جعفر العلاق في تعليقٍ مخطوطٍ بقلمه على قصائد من شعر الشّقّاع تيسّرت له قراءتها.
على هامش القراءة:
قبل بدء الحديث في جوهر الموضوع علينا أن نقف مع القارئ على طبيعة المتن، موضع القراءة؛ لئلا يتحيّر في إدراك أبعاده.
المتن الذي سنبحث في خصائصه الأسلوبية ما أسعفت الطاقة هو القصائد التي أبدعها الشاعر عوض ناصر الشّقّاع في عقد الثّمانينيّات من القرن العشرين (1980م – 1989م)، ويبلغ عددُها ثلاثًا وخمسين قصيدةً، كما احتوتها دواوينه الأربعة (طقوس النار والأحجار / عناوين لرحلة الغيوم / السائر في الظلمات/ متاهات في كتاب الرمل)، وَدَعْ عنك خامسَها وهو (الدفتر السقطريّ) فله حديثٌ مستقلٌّ في مقامٍ غير هذا المقام.
إنّ ثلاثًا وخمسين قصيدةً هي نتاج عشرة أعوامٍ تنبئ – بافتراضٍ، وبقليلٍ من الحساب العابر – أنّ الشّاعر ينتج خمسَ قصائد في كلّ عام ولا غير. وهو ما يولّد جملةً من الافتراضات الأخرى، منها أنّ الشّاعر من المحكّكين، الذين لا يقبلون كلّ ما يرد إلى خواطرهم من شعرٍ، بل يُرْجِعُون فيه البصر كرّتين. ولستُ بمستطيعٍ نفيَ هذه الصّفة عنه، فكلّ مبدعٍ عبقريٍّ عبدٌ لصنعته، فتراه يتعهّد إبداعه الشّعريّ كما تتعهّد الحسناءُ زينتها، ولعلّه أحرص عليه منها على زينتها في بعض الأحيان. وإنّ المتأمّل في قصائد الشّقّاع لا يغفل عمّا تحلّت به من محاسن ورواء.
على أنّ ثمّة افتراضًا آخر – يبدو في ظاهره على تناقضٍ مع الافتراض الأوّل – يتعلّق بموقف الشّاعر من الحياة، والتفاعل معها، وقد عرف فيها فنونًا من الإحباط، حتّى غدا مثلما وصف الشّاعرُ العبّاسيُّ دعبل الخزاعيُّ نفسه، أو كما قال هو: (أنا مسيحٌ حاملٌ صليبَه)، فامتلأت نفسه بالإحساس بالعبث ممّا أورثه انصرافًا عن ممارسة الإبداع، وعن الركون إليه بصفته مفزعًا تلوذ به النفس من نكد الدّنيا، الذي تخصّ به الحرّ من أمثاله، فتركه هاجسًا يقبله متى شاء القدوم إليه، لكنّه لا يسعى إليه حثيثًا.
أمّا إذا نظرتَ إليه من جهة نَفَسِ الأبيات فيها بان لك انتظامُها في بنية القصيدة القصيرة بلغة النقّاد الحداثيّين، أو المقطّعة بلغة بعض النقّاد الأوائل. فأقصر أبيات نصوصه في هذه المرحلة لا يقلّ عن الخمسة الأبيات إلا قليلًا، وأطولها لا يزيد على العشرين بيتًا إلا قليلًا. ولعلّ هذا عائدٌ لرغبة الذات في اختزال القول للاحتفاظ بوهج الانفعال واحتدامه، فلكم أفضت إطالة أبيات القصيدة عند كثيرٍ من الشّعراء إلى شيءٍ من البرودة والترهل، فيخبو وهج انفعالها ويبوخ احتدامه.
هذا كلّه في دائرة الافتراض، أمّا إذا نظرت إلى النصوص من خلال توزّعها على أعوام العقد كاملًا كما دلّت على ذلك تواريخ كتابتها، وقد أثبتها الشّاعر في ذيل كلّ قصيدة بان لك توزّعٌ على نحوٍ آخر، يجلوه لك الجدول الآتي:
العام عدد القصائد |
1980م 13 |
1981م 3 |
1982م 2 |
1983م 8 |
1984م 3 |
1985م 6 |
1986م 11 |
1987م 5 |
1988م – |
1989م 2 |
الإجمالي 53 |
ينبئ الجدول أنّ الأعوام (80/ 86/ 83) هي أخصب الأعوام بالإنتاج الشّعريّ للشّقّاع، نسبتها إلى ما أنتجه في الأعوام السبعة الأخرى هي (61%) في مقابل (39%) لعدد قصائد الأعوام الأخرى في هذا العقد. هل يمكننا القول إنّ لهذا صلةً بالتّغيّرات السياسيّة والاجتماعيّة، التي شهدتها مدينة عدن في المدة الزمنيّة من 1980م إلى 1986م؟ حيث مثّل القائمُ بالأمر اتّصالا غير منظورٍ بين الذات المبدعة والوعيّ الجمعيّ للانتماء الجغرافيّ الذي تعالى فغدا حضورًا سياسيًّا للجماعة التي تنتمي إليها الذات، ومشاركةً فاعلةً في حركة المجتمع من سنوات الصعود حتّى جحيم المأساة في 13 يناير 1986م. وهو اتّصالٌ لم يُحِطْ به الإدراكُ، ولا هيمن عليه الوعيُ هيمنةً كاملةً يومئذٍ، لكنّه ترك أثره على العالم الباطنيّ للذات، فانسابت معه على طريقتها في الانفعال بالحياة والتفاعل معها، فنسجت عوالمها التّخييليّة في تلك الأجواء، على الرغم من موقفها من الفرد، وإن كان هو الرجل الأوّل في ذلك الحين، وقد تجلّى ذلك الموقف في مثل قوله:
شكلتني مدينتي، ذاتَ حلمٍ شفقاً أزرقًا .. هوًى أرجواني
حدثتني عن الغرام ونامت جعلت “ما العملْ ؟” كتابَ “الأغاني”
فلّسفت موتَها الجديدَ لتنسى وأضافت إلى المعاني .. معاني
لعبةً أصبحت لكلِّ جهولٍ وجماعيّةً لأغبى أناني
ومثل قوله:
أَبَحْتَ شموخَك في غفلةٍ وعدتَ، ووجهُك سِفْرُ القنوطْ
تسلّ، إذا شئتَ بالانكسار فقد يبهج الهابطين الهبوطْ
لأنّك لم تُطِقِ الارتفاعَ يكون لزامًا عليك السُّقوطْ.
…إلى آخر ذلك من أمثاله.
على أنّ فاعليّة هذا التّفاعل مع الوعي الجمعيّ لم يقتصر على ابتهاج الذات بلحظات الانتصار فقط؛ فلعلّ مكابدتها لمرارة الهزيمة، وانهيار المشتهى في يناير 1986م قد فاق في أثره عليها أضعاف ما فعلته فيها بهجة العام 80م، وهو ما يجلوه قوله:
شناعاتٌ مواظبةٌ على تأليفها الأشنع
يدين الحفل كلّيًّا لرِجْل ِ الراقص الأبرع
تشوه وقتنا جدًّا تمادى عامنا الأصلع
خواءُ الخارج القمعيّ مثل الداخل المقمع
وقوله:
أأشكو سوايَ وأشكو الأنا ؟ كلانا كسرنا كلانا الكسيرْ
فسوءُ البداياتِ قد قادنا إلى نقطةٍ عند سوءِ المصيرْ
وهو يجمل ذلك في قوله من حواريّةٍ:
*لماذا الهزائمُ لا تنتهي ؟ – لأنّ انطلاقاتنا دائمة.
ولذلك غدت هذه الأعوام الثلاثة متنًا في تجربته الإبداعيّة في هذه المرحلة، وما سواها من سنوات ذلك العقد إلا حاشيةٌ على ذلك المتن.
هذا النتاج الشّعريّ لهذه السنوات العشر الأولى من رحلة الثلاثين عامًا فوق درب الشّعر هي التي سيدور عنها الحديث؛ لنتبيّن كيفيّات بناء لغة الشّعر فيها بالكشف عن عناصرها المكوّنة، من خلال جدليّة المواضعة والتوسّع، وطرائق تشكيلها في النصّ لتتمكّن من إنتاج الدّلالة، وتوليد المعنى.
مفتتح لقراءة النّصّ:
القضيّة الأولى والأساسيّة التي يثيرها شعر الشّاعر عوض ناصر الشّقّاع في أفئدة المتلقّين هي أنّه شعرٌ موزونٌ ببحرٍ وقافيةٍ.
وهل يضيره شيئًا أن يكون موزونًا ببحرٍ وقافيةٍ؟
لقد مضى زمنٌ كان فيه أدونيس – وهو في السمت الأعلى من أعلام الحداثة الشعرية في عصرها الحديث – يصم الوزنَ بوظيفة النّظم ولا غير، “فليس كلُّ كلامٍ موزونٍ شعرًا بالضرورة”، هكذا كان يقول. وهو حكمٌ جائرٌ، لا يقتصر جوره على ما سفّ من قصائدَ موزونةٍ ببحرٍ وقافيةٍ، بل يشمل القصائدَ القلائدَ، والمقلّداتِ الخوالدَ في تاريخ الشعرية العربيّة. فهل خلا قول القائل:
ويا رُبَّ يومٍ قد لهوتُ وليلةٍ بآنسةٍ كأنّها خطُّ تمثالِ |
يضيءُ الفِراشَ وجهُها لضجيعِها كمصباحِ زيتٍ في قناديلِ ذبّالِ |
كأنَّ على لبّاتِها جمرَ مصطلٍ أضاءَ غضًا جزلا وكفَّ بأجذالِ |
وهبّت له ريحٌ بمختلف الصّوا صبًا وشمالٌ في منازلِ قفّالِ |
من شعريّةٍ؟
أو هل صحّ وصفُ قولِ القائل:
رَعَوا ما رَعَوا مِن ظَمْئهم ثمّ أوردوا غُمارًا تسيلُ بالرِّماح وبالدَّمِ |
فَقَضُّوا منايا بينهم ثمّ أصدروا إلى كَلأٍ مُسْتَوبلٍ مُتَوخِّمِ |
بأنّه يخلو من نفحات الشعرية وعبيرها الفوّاح؟
وأين يقع منها قولُ من قال:
ما كان عمري بالجميل، وها أنا
في السيئات، فمن يلاقي العمر أجمل؟
بركت على ظهري الجمالُ، وأعظمي
سوسٌ .. وتعوي ذئبةٌ في كل مفصل
اليوم عكازي يبث هواجسي
والموت كالعكّاز : يحملني ويحمل
وقولُ من قال:
ما لقلبي غيرُ قلبي، ماله
يسلق الماضي على نار التمادي؟
أغنياتي كلُّها غيميَّةٌ
وحكاياتي سوادٌ في سوادِ
أرسم القلبَ لألقى حُزْنَه
أتحرّى الدمَ بحثاً عن عنادي
وقولُ من قال:
ضيعتُ شارعي القديمَ،أضاعني
كان الضياعُ خيارَه وخياري
للبّنِّ رائحةُ الغيابِ، مسافرٌ
في جيبه قدّاحةُ الأشعارِ
مزقي على كلِّ البيوتِ، وهامتي
مدفونةٌ في حوش “عبد الدارِ”
قد كنت في “دمّون” أنهل حلمه
بين الكؤوس ورفّة الأقمارِ
وعجيزةٌ لعنيزةٍ مسَّدتُها
حتى دفقتُ بحارَها ببحاري
صارت “عنيزة” نجمة مشهورة
يردي القبائل رقصها في البارِ
اليوم لا خمر لدي، وليس لي
أمر، وهرّأتِ الوحولُ جداري
فيم انطلاقي والتساقطُ داخلي
ودماي لبلابٌ على الأسوارِ
…إلى آخر ذلك.
انتظام القصيدة – إذًا – في وزنٍ، بحرًا وقافيةً كان أم تفعيلةً، لا يهبها شعريّةً لا تشعّ من لغتها، وخلوُّها منه لا يمنحها إيّاها ما دامت مفتقدةً فيها. لكنّ رافضي القصيدة الموزونة ببحرٍ وقافيةٍ درجوا على وصم الوزن فيها بوظيفة النظم كلّما رأوها منتظمةً في أشطارٍ متوازيةٍ، مثلما أنّ المتمسّكين بالوزن لا يرون في قصيدةٍ خلت منه .. بحرًا وقافيةً أو تفعيلةً .. شعرًا قطّ. والمسألة ليست على ذلك النمط من التفكير الحدّيّ القاطع، والكائن بين اختيارين إمّا وإمّا. إنّ الأدقَّ صوابًا هو النّظر في لغة القصيدة، وطرائق استخدام الدوالّ فيها، وكيفيّات تشكيلها، انتظمت في وزنٍ، أو خلت منه. وهو المحكّ في تبيان شعريّتها، ومنها يضوع أريجها العابق، ويأتلق نجمها الوضّاء.
على أنّ هذا لا يعني أن تغدو القصيدة بئرًا معطّلةً بعد أن خلت من الوزن، وقد كانت بوجوده فيها قصرًا مَشِيدًا، تأتلق في أبهائه كلُّ عناصر الإبداع والجمال.
وبعيدًا عن أيّ موقفٍ انطباعيٍّ من عنصر الوزن في القصيدة، فالذي لا مراء فيه أنّه واحدٌ من عناصرَ أخرى تتكوّن منها البنية الإيقاعيّة للقصيدة. وتلك العناصرُ – بما فيها الوزنُ – جزءٌ من بنيتها اللغويّة، التي يتشكّل منها كيانُ القصيدة كلّه.
والشّاعر حين يستخدم الوزن لا يستخدمه كما هو في عَروض اللسان، بل يشكّله على نحوٍ يجعل منه عَروضًا للنّصّ، شأنُه في صنع هذا شأنُه في استخدام البنية الإفراديّة، وتركيب الجملة، وتشكيل الصّورة الفنيّة تمامًا بتمام.
وهذه بديهيّةٌ يدركها كلُّ ذي معرفةٍ بأوزان الشعر، وكيفيّات تشكيلها في القصيدة، ولكن لن يضير المقام شيئًا إن عرضنا مثلًا يوضّح القصد ويبين عن غامض المسألة.
إنّ من بحور الخليل بحرًا اسمه (الكامل)، اتسقت تفعيلاته على هذا النحو:
متفاعلن / متفاعلن/ متفاعلن ×2
ل ل _ ل _ / ل ل _ ل _/ ل ل _ ل _ ×2
ولقد اشتملت عليه قصائدُ من قصائد هذه المرحلة من شعر الشّقّاع وعددها تسعٌ، خمسٌ منها جاءت على مجزوئه، وأربعٌ أُخَرُ جاءت على التّام منه في هيئتيه الأساسيّتين، وهما:
– عَروضه صحيحةٌ وضربها صحيحٌ، وهما قصيدتان: (أن تذكري وشيءٌ لا يُرى).
– عَروضه صحيحةٌ وضربها مقطوع، وهي قصيدةٌ واحدةٌ هي (النائي).
تلك ثلاثٌ من أربعٍ، أمّا الرابعة فقد جاءت على نسقٍ لم تألفه الشعريّة العربيّة في تاريخها قديمه وحديثه إلا في ضرب المجزوء منه، وهو أن تكون (عَروضه صحيحةً)، ويكون (ضربها مذيّلا)، والمقصود بالتذييل زيادة ساكنٍ إلى الوتد المجموع في التفعيلة، فتصبح (متفاعلن ل ل _ ل _) (متفاعلانْ ل ل _ ل _ه(، وقد جاءت منه قصيدة (خطواتٌ مرثيّةٌ).
وبالنظر في طرائق القصائد الأربع وزنًا لا نجد واحدةً منها انتظمت في إطار تفعيلات البحر كما رُسِمَتْ صورتُها في دائرته العَروضيّة وهي (الدائرة المؤتلفة)، وإنما تشكّلت وفق مقتضيات لغة النّصّ وحركتها الإبداعيّة، وتأبّت على الانتظام في هيئاتها الموروثة، فأضافت إليها صورًا لم يكن لعَروض اللسان بها عهدٌ، وهي (متفاعلن / متفاعلن / متفاعلانْ×2):
أمشي على خطِّ العذاب المستقيمْ فجديدُ أوجاعي شبيهٌ بالقديمْ أسلو جحيم الذّات أبحث خارجي فوجدتُ أنّ الآخرين هم الجحيمْ ما خطوةٌ إلا لها مرثيّةٌ وحقير أشيائي له همٌّ عظيمْ |
وفي هذا ما يشي بنزوع الإبداع إلى الخروج على المألوف، ناهيك بتحرّره – رؤيةً وموقفًا وتشكيلًا لغويًّا صورةً وتركيبًا – من أسر الماضي؛ لتتشرّب روح العصر ومكوّناته المتحوّلة، واقرأ له قوله في قصيدته (النائي):
تتسرّب اللحظات بين أصابعي فكأنّ عمري كائنٌ من ماءِ
وأحسّ أنّى في الجسوم ممزقٌ فكأنّما كلّ الورى أشلائي
أبداً أحنّ إلى اكتمالٍ نافذٍ ليسير هذا الكون تحت حذائي
ومثله قوله في قصيدة (شيءٌ لا يرى):
نادى العبيرُ فسرتُ خلف ندائه لكنّ بابَك والطريقَ تنكّرا فتفرَّق الأمل الجميل شراذمًا عبر الشوارعَ والعذابُ تجمهرا كنتِ البلادَ إذا البلادُ تأنقت كنتِ الزمانَ إذا الزمانُ تعطّرا |
ومثله قوله في قصيدة (أن تذكري):
قدرٌ عليَّ : بدايةً ونهايةً أن أعبر النهر الذي لم تعبري أمتصُّ غربة عالم متوجّعٍ وأذوقُ خيبة عالم متوتّرِ وأراك في كلِّ الظروف حكايةً تندى بأحداقي، وإن لم تشعري |
وفي هذا المتغيّر الأسلوبيّ وفي سواه من متغيّرات أسلوبيّة، اشتملت عليها لغة الشّعر في قصائد الشّقّاع في هذه المرحلة من تاريخه الإبداعيّ ما يستوجب درسه والوقوف على خصائصه الأسلوبيّة؛ لمعرفة طرائقه في بناء لغة الشعر عقدئذٍ، وكيفيّات تشكيلها في النّصّ، فندرك من مستويات الكلام فيه شيئًا، ومن هياكله شيئًا آخر، ومن أقسامه شيئًا ثالثًا. وسنبدأ أوّل ما نبدأ بـ
شعريّة اللغة وحداثتها:
القَدامةُ وصمةُ كلّ قصيدةٍ ينسجها شاعرها على منوال البحر الواحد والقافية الواحدة.
قالوا ذلك في شعر الشّقّاع مثلما قالوه في شعر البردّونيّ من قبلُ.
ومن عجبٍ أنّ قائلَ مثل ذلك الحكم لم يتقرَّ لغةَ النّصّ، ويستكشف خصائصها، ويبين عن محاسنها، أو يكشف عن مقابحها إن وجدت، (فهكذا تورد الإبل)، وليس كما يصنع (سعدٌ وأصحابُ سعد).
فلقد يمنح شاعرٌ قصيدته لغةً ذات شعريّةٍ ظاهرة وإن نسجها في بحرٍ واحدٍ وقافيةٍ واحدةٍ، فالاعتبار هنا بتشكيل اللغة، وطرائق استخدامها فهو الجوهر، وعليه الاعتماد في تبيان محاسن القصيدة، أو مقابحها، وما خلاه فَعَرَضٌ لا قيمة له في ذاته. وهو على أيّة حالٍ ليس باعثَنا على الكتابة هنا، وإنّما همّنا الحديث عن شعريّة اللغة في شعر الشّقّاع وحداثتها.
وإنّ من مظاهر (الشعرية) في شعر الشقّاع في هذه المرحلة أنّ لغته لا تحيل إلى مرجعٍ مّا تشير إليه دوالُّها، ويتحدّد به المقصود، بل هي تحوّم في فضاء الدلالة، فيتجدّد مردودها الإنتاجيّ بتجدّد قرّائها. حقًّا هي تمتح من الواقع المعيش، لكنّها تنزاح عنه، وتتخطّى عناصره، فتتشكّل فيه على نحوٍ خاصٍّ؛ لتخلق عوالمَ تخييليّةً، وكائناتٍ لا وجودَ لها بتشكّلها اللغويّ إلا في الشعر. قال:
تـثـب الأشواق فـي أوردتي كـجـيـادٍ عادياتٍ في السهولْ |
مـن غبار الحزن.. من جيفته تطلق الدنيا شـعـاعاً.. وحقولْ |
لـم تـعـد ذاتية الأمس سوى ورق يـهـذي .. وتـاريخ يبول |
أوغلت الدفقة الشعريّة في المجاز، فشكّلت اللغةُ عوالمَ على غير ما ألف الواقعُ المتشكِّلُ الموجود. فالأشواق – وهي معنويّةٌ في الأصل – تتخذ هيئة الكائن الحيّ الذي يثب ويقفز، وتستحيل الأوردة إلى فضاءٍ مكانيٍّ يتلاءم مع هُويّة الفعل المسندُ إليه الفاعلُ (الأشواق). ثمّ يجيء دالّ (الحزن) في البيت الثاني، فيتحرّر من تجريده اللغويّ؛ ليغدو جمادًا يتولّد عنه (غبارٌ) يوحي بالعقم والجفاف وانعدام الرواء والنماء؛ لتتمدّد من بعد صورته، فيستحيل كائنًا حيًّا انعدمت فيه الحياة فغدا (جيفةً) لا حياة فيها، ولا تجدّد لها. ولكنّ الصورة لم تقف عند ذلك، بل انسربت إلى (المفارقة)، فإذا الحياة تتفجّر من ثنايا ذلك العدم، وإذا الآمال تشعُّ بجديدٍ، وإذا الدّنيا تتجدّد خلاياها بحياةٍ خلاقّةٍ في الحقول.
يتراسل مع ما سلف هذا التّضادُّ، الذي ينشأ بين (الحاضر) البائس، الذي جوهره غبارٌ وجيفٌ، لكنّه يلد مستقبلًا كلّه إشراقٌ ونماءٌ، و(الماضي) الذي كان مجيدًا فغدا (ورقًا يهذي .. وتاريخًا يبول) في منظورٍ وجوديٍّ يتجاوز الماهية إلى عتبات الكينونة. ويأذن بتعالي (التداوليّ) على معطيات (الشّعريّة) ومكوّناتها من غير أن يقوى على إلغائها. وفي هذا ما يشي بتماسّ لغة الشّعر عند الشّقّاع بالعصر، ومنظوماته الفكريّة، وما تماهى معها من دوالّ تبين عن خصائصه الفلسفيّة.
وقريبٌ من ذلك ما نجده في قوله:
عاشقٌ من أوّل الحزنِ أتى عندما يُطفَأُ – شوقاً – يتوهج
نـارُه يُمتشق الموجُ بها صمتُه أنشودةُ السِّيفِ المضرَّج
فاضت الأسرارُ من نظرته فحكاياه شموسٌ تتبرَّج
وهب البحرُ له فطرتَه : كلَّما يلمحُ أنثى .. يتموّج !
هنا تستعصي (الشعريّة) على معطيات المجاز الموروثة؛ لأنّ وضعها في إطاره يفسد صنيع الشّاعر وقد أحكم نسجها، ويقرّب هُويّةَ إبداعه وقد أغرب تخييلها. فالعاشق يبدو (شمسًا) تتوهّج، ثمّ تُطفأ لتتوهّج، ووهجها أشواقٌ في أعماقه، ثمّ تصير النارُ بعضَه – (“ناره” في تركيبٍ إضافيّ، ويتجلّى ضميرُ الغائبَ في بنية التجريد للدلالة على المتكلّم لأنّ “عاشق” في مفتتح القول خبرٌ لمبتدأٍ يمثّله ضميرٌ مستترٌ هو “أنا”) – وهي ذاتُ فاعليّةٍ فبها (يُمتشق الموجُ)، وهو موجٌ منزاحٌ عن أصله؛ إذ غدا سيفًا صارمًا لا عهد للناس به، فهو نتاج اللغة ووليدها. وتفعل (المقابلة) فعلَها في التركيب اللغويّ فيصبح الصمتُ أنشودةً، وتُنسب إلى السِّيف، ويغدو الجماد من بعدُ كائنًا حيًّا يتضرّج بالدماء حين تُسفك. أتراه لهذا كانت الأسرار عميقةً في عينيه؟ وإنّما فاضت منهما الأسرار؛ لأنّ صدره بها زاخرٌ عامر.
وتكون الشعرية بخرق المألوف كما في قوله:
لفتتها من بن “ذي ناخبٍ” وخطوها الحنّا ولحن الزّفافْ
فاللفتة حركةٌ، والخطوة وقعٌ، وكلاهما لا يتوافقان مع المرئيّ الذي يمثّله المذوق/المشروب (البنّ)، والمشموم (الحنّاء)، وإن يكن في (لحن الزفاف) ما فيه.
لكنّ تدبّر الدلالة يبين عن ائتلافٍ ينبثق من ثنايا الاختلاف، يتمثّل في هذه النشوة، التي تحدثها (القهوة) في إطار المجاز المرسل، وهذه البهجة التي يلدها مشهد الحنّاء يخضب كفّي الحسناء وقدميها، وهو ما يضاهي ما تحدثه لفتة المحبوبة وخطوها في فؤاد من أبصر ورأى.
وفي مثل ذلك النزوع لتوغّل الدّوال في الشّعريّة يغدو اتّصالها بالمواضعة محدودًا، كما نجد في قوله في موضع آخر :
أهمي، كدمع الليلة المتحدِّرِ وأجفّ – وحدي – كالصباح الأصفرِ
هنا يسهم المجاز الذي أوغلت فيه اللغة في خروجها من دائرة المواضعة، فنجد في الفعل المضارع (أهمي) المسند إلى الفاعل (ضمير المتكلم أنا) ما يمنح الإنسان ماهية الجماد (السحاب)، في حين أن قوله (كدمع الليلة المتحدّر) ما يمنح الجماد (الليلة) ماهية الإنسان (تساقط الدمع). ومثله ما يهبه الفعل المضارع (أجفّ) من منح الإنسان، وهو المسند إليه في هذه الجملة ماهية الجماد (التراب)، على أن في التركيب الإسناديّ في قوله في بنية التشبيه (كالصباح الأصفر) ما يمنح الجماد (الصباح) ماهية الكائن الحي غير الإنسان (النبات)؛ من حيث إن الاصفرار مرحلة في تحول النبات بعد الجفاف. هنا تتداخل الأشياء والأحياء في تراسلٍ دلاليٍّ يتجاوز حدّ المواضعة في اللغة.
ومما يتصل بما نحن فيه أنّ الجملة في شعره قد تقف عند حد الصّفر من الكلام، فيتطابق المنطوق مع المصدوق في إطار المواضعة، كما نجد في قوله:
لبسوا أحدث الثياب .. وقلبي يلبس الشعر والهموم الجديدة
ففي قوله: (لبسوا احدث الثياب) تطابقٌ بين المنطوق والمصدوق؛ حيث إن الظرف الزّمانيّ متصلٌ بِعِيْدٍ من الأعياد، وهو ما يقتضي البهجة، التي من صورها التعبيريّة الحديث عن لَبْس أحدث الثياب، وليس لهذا القول صلةٌ بالشعرية، لكن الإبداع يتجاوزه إلى الإيغال في درجات الشعرية العليا، فنجد: (قلبي يلبس الشعر والهموم الجديدة)؛ حيث تبارح الدوال دائرة المعجم ومواضعاته؛ لتتخلق في أفقِ المجاز، الذي به يُمْنَحُ المعنويّ ماهية الحسيّ الملموس، ويتجلّى الإسناد على غير المألوف في اللغة.
أمّا ما نجده في قوله:
أحاور عاصفة في جذوري واقرأ زلزلة في يقيني
فأنكش شعري عن مطلعٍ وأستلّ قافية من جبيني
دعيني أواصل عزف الصخور لأطلقها في المدى الياسميني
فعائدٌ إلى أنّ اهتزاز درجة التطابق بين الدالّ ومدلوله المرجعيّ أفضى إلى تحرّره من إسار المعجم، فيوغل بالبنية اللغوية في دائرة المجاز الاستعاري، فيغيب المرجعُ، وتتجلى الشعرية، (أحاور عاصفةً/أقرأ زلزلةً/ أستل قافيةً/ أواصل عزفَ الصخورِ). وهنا تتجاوز الصورة حدّي التشابه والتماثل؛ لتسكن في دائرة التماهي بين العناصر المكوّنة لبنية الصورة الاستعاريّة. وفي تركيبها اللغويّ تتداخل الحقول الدلالية، التي تنتمي إليها مفرداتُ البيت، فنجد الإنسانيَّ (أحاور/ أقرأ/ يقيني) يتداخل مع الطبيعيِّ (جذور/ عاصفة/ زلزلة). أما في قوله: “أواصل عزف الصّخور” فإنّ الفنون تتداخل من فنون مسموعة إلى فنون مرئية.
وإنّ من مقتضيات الشعريّة خروج الدّال من دائرة المواضعة إلى دائرة التّوسّع بعيدًا عن محدّدات المجاز ومكوّناته، كالذي نجده في قوله:
سلوتِ المحيطَ الجسورَ الغيورَ وأقعيتِ فـي البركةِ الراكدةْ
هنا تنسلخ الدّوالّ من دائرة المواضعة وما ألزمتها بها من معنى؛ لتتلبّس معانيَ أخرى غير التي عُرِفت بها، فيأخذ (المحيط) -وهو جمادٌ- ماهيّة الإنسان، فيتشخّص الجلال، ويتعظّم من جهة الاقتران اللغويّ بين صفاتٍ تشير إلى بشرٍ (الجسارة والغيرة) واسمٍ هو في أصله ينتمي للجماد. يقابله في هيئةٍ مضادّةٍ صورة الإنسان وقد أخذ ماهيّة الحيوان والجماد في آنٍ؛ لتشخيص دلالة الحقارة والدناءة، وهو ما يولّده الاقتران اللغويّ بين صفات البشر، (يومئ إليها ضمير المخاطبة)، وما أضيف إليها من أفعال حيوانٍ (أقعى)، وصفات جمادٍ (البركة الراكدة).
وقريبٌ منه ما نجده في قوله:
تجيءُ بسلَّةِ الأفراحِ نشوى وتطرد ذلك الحزن الخرافي
هنا يقترن المجرّد (الأفراح) بالجماد (سلّة) اقترانًا إضافيًّا؛ ليتجسّم الأثر، الذي يحدثه مجيء المحبوبة في الذات المتكلّمة. وهذا استخدامٌ للدوالّ تنوّعت طرائقه في قصائد الشّقّاع في هذه المرحلة، فنجد حنين الزنبقة إلى القطاف في اقترانٍ فعليّ يدلّ عليه قوله:
ملامحها على وهج انفعالي كزنبقة تحن إلى القطافِ
حيث اقترن كائن حيّ غير إنسان (الزنبقة) بمجرّد ذي صلة بصفةٍ من صفات الإنسان، وفي هذا ما يرشّحها للتشخيص.
وجميع تلك الدوال قد اقترن بعضها ببعضٍ، في إطار انزياحها عن مراجعها، فتجلّت شعريّتها من ثنايا ذلك الانزياح.
على أنّ القول بالانزياح قانونًا للشعريّة لا يعني أن ليس ثمّة سواه، فلقد تتجلّى الشعريّة من ثنايا التماثل والتناسب على مستوى التّأليف أو التوزيع، وهو المستوى الأفقيّ في تركيب الكلام، وهو ذو صلةٍ بالسبك النحويّ، كما دلّ عليه أصحاب اللسانيّات النصّية، وسنقف منه على ظاهرة التوازي، التي يرى ديبوجراند وديسلر أنّها تتشكّل من خلال “إعادة البنية مع ملئها بعناصر جديدةٍ”. وهي ألصق بالوظيفة الشّعريّة، التي تنشأ من خلال إسقاط محور التماثل الخاص بمحور الاختيار على محور التوزيع كما يرى جاكوبسون، وهو يعدّ بنية التوازي بعض منتجات ذلك القانون. ويعود اهتمامه بها إلى يقينه من أنّ “بنية الشعر هي بنية التوازي المستمرّة”.
وفي شعر الشّقّاع تتجلى صورٌ شتّى لهذا التوازي بين التراكيب، تتنوّع بناها اللغويّة بتنوّع المواقف، ومقاصد الذات من تركيب الكلام. فلقد تجيء في هيئة “الموازنة”؛ من حيث تماثل تركيب الجملة في الشّطرين، كما في قوله:
تـتـلـقّـانـي بعمرٍ خـالدٍ | أتـلـقّـاهـا بـعُمْـرٍ لن يطولْ |
تتكوّن الجملة في الشّطر الأوّل على النحو الآتي: (فعل مضارع، يتلوه فاعلٌ، يدلّ عليه ضميرٌ مستترٌ، يعود على الغائبة، يلحق بهما مفعولٌ به، يدلّ عليه ضمير المتكلّم المتّصل، ثمّ حرف جرٍّ واسم مجرور، وتختتم الجملة بنعتٍ)، يماثله في الشّطر الثاني التكوين نفسه ما خلا موضعين، هما: التبادل في المواقع بين الفاعليّة والمفعوليّة بين ضمير المتكلّم المستتر، الذي يدلّ عليه استخدام همزة المضارعة، وضمير الغائبة، الذي يتجلّى حاضرًا في المقول اللغويّ. واستخدام الجملة الفعليّة في موضع الصّفة (لا يطول)؛ من حيث إنّ الجمل بعد النكرات صفات.
لكنّ التّأمّل في حبك الكلام ومحتواه يكشف عن بنية (التّضادّ) في ثنايا بنية (التماثل)؛ حيث يدلّ معنى البيت على تقابلٍ ضدّيٍّ بين الخلود والفناء، واتّساع مجد البلاد، وضيق تاريخ الفرد، ومن هنا يتأبّى المكوّن الأسلوبيّ على أن يكون مجرّد حلية صوتيّةٍ؛ ليتّصل بمنابع الدلالة، فغدا واحدًا من وسائل إنتاجها في النّصّ.
ومثله في سياقٍ آخر قوله:
أهابُها وهي اقترابٌ قصيّْ وأشـتـهـيها وهـي بُعدٌ قريبْ
تتكوّن الجملة هنا من فعلٍ وفاعلٍ، يدلّ عليه ضمير المتكلّم، ومفعولٍ به، يدلّ عليه ضمير الغائبة الحاضر في المقول اللغويّ، ثمّ حرف عطفٍ (الواو)، واسم (الضمير هي)، وهو مبتدأٌ خبره الاسم الذي يليه، ثمّ اسمٌ نعتٌ للخبر. وفي الشّطر الثّاني التكوين ذاتُه تمامًا بتمام. لكنّ دلالتي الجملتين متضادّتان على تماثلهما في إطار السبك النّحويّ. فالمحبوبة في الشطرين واحدةٌ، لكنّ الذّات المتكلّمة هي التي تتشظّى في رؤيتها للمحبوبة في حالتي الحضور والغياب، والقرب والبعد، وهو ما أفضى إلى تقلّب موقف الذّات من المحبوبة في حالة الهيبة حيث الإجلال والإكبار والسموّ بها عن الخيالات الدنيئة، والتصوّرات المرذولة، وحالة الاشتهاء حيث الابتذال، والتّدنّي، والسّقوط.
ولقد تكون الموازنة في تركيب الجملتين في شطري البيت وسيلته في إتمام المعنى، وتكميل أبعاد الصّورة؛ حيث لا يمكن إتمامه، ولا تكميلها إلا بالموازنة، كما نجد في قوله:
كنتِ البلاد إذا البلاد تأنقت كنتِ الزمان إذا الزمان تعطرا
وهنا يتجاوز التماثل في الموازنة مستوى التركيب النحويّ إلى حدّ التّوازي على مستوى البنية الصّرفيّة (الزّمان/ البلاد، تأنّقت/ تعطّرت) ممّا يأذن بخلق إيقاعٍ لا يخفى على أذن المتلقّي.
ولقد تكون الموازنة وسيلة الإبداع في تكامل الدلالة في إطار جدليّة السبب والنتيجة، كما في قوله:
أما غرست مشاتل أغنياتي أما قطفت عناقيد اعترافي؟
حيث (الغرس) سببٌ، و(القطف) نتيجةٌ.
ومجيء التّوازي في إطار الموازنة لا يمضي على نسقٍ واحدٍ في شعر الشّقّاع، بل تتنوّع طرائقه في التشكيل، ففي قوله:
الشناعات خارجي تتزيّا والسفالات ترتقي في كياني
تتكوّن الجملة في الشطر الأوّل من اسمٍ، يتلوه ظرفٌ مضاف إلى ضمير المتكلّم، ثمّ فعل مضارع. بيد أنها في الشّطر الثّاني من البيت تتكوّن من اسم، يتلوه فعلٌ مضارعٌ، ثمّ جار واسم مجرور مضاف إلى ضمير المتكلّم. فتراءت كثافة التوازي مخفّفةً بسبب ما أحدثه سبك الكلام من تغييرٍ في ترتيب عناصر الجملتين بتقديمٍ وتأخير.
ولقد يفضي التوازي في شعره إلى نوعٍ من التّنازع في الإسناد إن جاز نقل المصطلح من دائرة الأفعال إلى دائرة الأسماء، كما نجد في قوله:
ووهمُ الحُبِّ .. وهمُ النَّصرِ .. مثلُ النَّومِ في الشَّمسِ
فالتوازي بين المتضايفات (وهم الحبّ) و(وهم النصر) أفضى إلى تماثلٍ في التركيب من جهة السبك النحويّ، وإلى اتّحادٍ في التصوير من جهة التشكيل البلاغيّ (مثل النوم في الشمس)، فكلاهما نحوًا وبلاغةً فيه سواء.
ومن التوازي ما يكون تقسيمًا، كما في قوله:
أحبَّ الحبيباتِ
يومي شذًا
وخطوي غناءٌ
ودربي غصونْ.
حيث تقسّم البيت إلى أربع جملٍ، تساوت ثلاثٌ منها في بنيتها اللغويّة، فهي اسمٌ مبتدأٌ مضافٌ إلى ضمير المتكلّم، ثم اسم خبر للمبتدأ. وإنّما كان ذلك كذلك لتماهي الموقف الشّعوريّ للذات المتكلّمة بالوجود وأشيائه بعد أن وجد في المحبوبة ما افتقده في الآخرين:
محطَّتُها، وحدها، لم تَخُنْ وكلُّ المحطَّاتِ صارت تَخُونْ
ولقد تكون الموازنة ثماثلًا على مستويي بنية التركيب، وبنية الدلالة ممّا يسهم في خلق تكاملٍ في المعنى، كما في قوله:
لأنَّ جمالَكِ فوقَ الجمالِ لأنَّ جنوني فوقَ الجنونْ
فالجلال الذي يتحلّى به جمال المحبوبة لا يضارعه إلا جنونٌ، مثل جنونه، فيتساوى الفعل ونقيضه مما أفضى إلى تساوي عناصر الجملتين وتوازنهما من جهة التركيب.
ولقد تصاعد هذا التوازي في شعره في هذه المرحلة حتّى وصل أقصى مداه في قصيدة “التّفّاحة”؛ حيث تشكّل على ثلاث صورٍ، أولاها: صورة الموازنة في إطار التقابل الضّدّيّ، كما في قوله:
لهذا الخروج الصريح الشجيّ لهذا الدخول البهيج الحزين
لهذي الشموس التي عن يساري لهذي المرايا التي عن يميني
لهمٍّ يطاردني كلّ يوم لهجسٍ أطارده كلّ حين
وثانيتها: صورة الموازنة في إطار التماثل والاستواء بين بنية لغوية ودلالة معنوية، كما في قوله:
أحاور عاصفة في جذوري واقرأ زلزلة في يقيني
وثالثتها: صورة الموازنة في إطار التخالف التركيبيّ بتقديمٍ وتأخير، كما في قوله:
فأنكشُ شَعْري عن مَطْلع ٍ وأستلُّ قافيةً من جَبِيني
وقصائد الشّقّاع في هذه المرحلة على الرغم من انتظامها في بحرٍ وقافيةٍ تتماسّ في كثيرٍ من ظواهرها اللغويّة مع طرائق شعراء الحداثة في استخدام اللغة، ومن ذلك ظاهرة اللبس في تعيين الوظيفة النحويّة للدوالّ.
ولقد شاع استخدامها منذ سبعينيّات القرن الماضي، وغدت خصيصةً أسلوبيّةً في شعر كثيرٍ منهم. وهي من ظواهر اللغة التي يستحقّ تجلّيها في أشعارهم درسًا، لكنّنا – في مقامنا هذا – لا نهدف لقراءة النصّ على مستوى التّعاقب، وإنّما غايتنا قراءته على مستوى التزامن؛ لبيان ظواهر اللغة، وطرائق تشكيلها في قصائد الشّقّاع في مرحلة الثمانيّنيات من القرن العشرين. وأنت واجدٌ صورة لهذا اللبس في مثل قوله:
فتحتُ الكتاب فكانت هناك
صحارى .. سحابًا .. حمامًا .. ملاكْ
(صحارى .. سحابٌ .. حمامٌ .. ملاكْ)
هنا تقف الجملة حائرة بين الإفصاح والإغماض، فترك تعيين الوظيفة النحويّة للدوالّ لتفاعل المتلقي مع المنطوق / المكتوب وقدرته على جلاء اللبس. وهو يبدأ في الظهور من لحظة إحالة ضمير الغائبة على غير مذكورٍ، فَمَنْ تلك التي أضمرها في البيت بقوله: (كانت)؟ وما تكون؟ وهنا لا بدّ من اختيارٍ لاحتمالٍ من احتمالين يقتضيهما السّياق، وهو أنّ (كانت) هنا ناقصةٌ ، وأنّ ضمير الغائبة – وهو اسم كان – محذوفٌ. وعليه فالدوال الأربع التالية (صحارى سحاب حمام ملاك) أخبارٌ متعدّدة لاسم كان المحذوف.
لكنّ السياق يحتمل أن تكون (كانت) تامّةً، وعليه فالدوالّ الأربع مرفوعاتٌ؛ لأنّها في موضع الفاعليّة.
وإنّ بين الاحتمالين فرقًا. فالاحتمال الأوّل لا يبعد بالدوالّ عن دائرة التماثل الاستعاريّ بين المتحدّث عنها في موضع (المستعار له)، والدوالّ الأربع في موضع (المستعار).
أمّا في الاحتمال الثّاني فتتراسل العلاقة بين الجملة الخبريّة في مستهلّ البيت (فتحتُ الكتابَ) – وهي الجملة النواة لتوليد ما تلاها من جملٍ – والجملة التالية لها (كانت هناك…)، ويسهم حرف العطف (الفاء) في تحقيق التعقيب والتلازم بين الجملتين، فلولا (فتح الكتاب) ما تجلّت كينونةٌ لشيءٍ.
هذا أمرٌ، وثمة ثانٍ هو الاتكاء على المفردة في إنتاج المعنى؛ بوصفها وحدةً مستقلّةً بعيدةً عن دائرة التركيب، وهو خلاف ما عليه الحال في الاحتمال الأول. وهنا يتداخل المشهود مع الغيبيّ، وعالم الجفاف والإقفار، مع عالم الإخصاب والنماء … إلى آخر ما هنالك من ذلك. بيد أنّ هذا لا يتمّ إلا بخروج الدوال من دائرة الإسناد الاسميّ إلى دائرة الإسناد الفعليّ، وبه تتحوّل الجملة من حالة الثبوت والسكون، التي يشفّ عنها استخدام بناء الجملة الاسميّة إلى حالة التجدّد والتغير، التي يقتضيها استخدام بناء الجملة الفعليّة.
قريبٌ من هذا ما نجده في قوله:
قلق الشيء الذي أرقبه مطرٌ دامٍ .. صحارى .. وخيول
يشي تركيب البيت بحالة من التماثل بين (قلق المُنتظَر) وما تلاه من دوالّ (مطر دامٍ .. صحارى .. خيول)، وهو تماثلٌ لا ينفي التنافر الدلاليّ، الذي تنتجه المفردة وقد غدت وحدة إنتاج المعنى. فالمطر عطاءٌ يسهم في تجديد الحياة، لكن وصفه بالفعل الدائم (دامٍ) عطّل قدرته على فعل ذلك، وحال دون فاعليّته في إحداث التجديد؛ لأنّ سيلان الدم يعادل الموت. والصّحارى جفافٌ، وفضاءٌ لا سبيل للتائه فيه من خلاصٍ، فهي ضياعٌ يعادل الموت. والخيول قوّةٌ، لكنّها تعادل العدم ما دام كلّ ما يحيط بالمتكلّم داخلَ النصّ يحاصره بالجفاف والإقفار والموت.
وليس ببعيدٍ عمّا سلف ما نراه في قوله:
هواكِ نشيدٌ .. نخيلٌ .. عيونٌ.. هواكِ نهارٌ عل “ميفعة”
فهو قريبٌ من قريب.
وفي شعر الحداثة تنضفر جدلية الوضوح والغموض، والبساطة والتعقيد؛ من حيث إنّ مفردات النصّ ميسورةٌ مأنوسةٌ لكنّ الغموض والتعقيد يجيئانه من طرقٍ أخرى. ولا يخلو شعر الشقّاع من صورٍ لهذه الجدليّة، لكنّنا نقف من تلك الصور على واحدةٍ بعينها، وهي تتعلّق بطرائقه في استخدام ضمير الغائب أو الغائبة على حسب السياق. فالأكثر عنده استخدامه معزولًا عن مرجعه الذي يشير إليه، ممّا يأذن باندفاع الدلالة إلى منطقة الغموض والتعمية، قال:
كانتْ تُناديني.. وكنت المجيبْ في لهفة الطفل وحزن الغريبْ
طلعتُها- كانت – ألوهيَّةً خطوتها – كانت – غناءً وطيبْ
في ضحكها أمومةٌ واشتهاءْ لصوتها – كان – مذاق الحليبْ
أهابُها وهي اقترابٌ قصيّْ وأشتهيها وهي بعدٌ قريبْ
مضت ففي الحجرات أمسيّةٌ حزنى .. وفوق الباب صبحٌ كئيبْ
هنا امرأةٌ حضرت، فنادت، فأجاب نداءها المتكلّمُ في النصّ، ووصفها، وتفاعل معها قربًا وبعدًا، هيبةً واشتهاءً، ثمّ مضت مخلّفةً في الوجود الضيّق المحدود زمنًا مغايرًا ومختلفًا: (في الحجرات أمسيةٌ حزنى/ فوق الباب صبحٌ كئيب)، ونحن لا نعلم من تكون؟ أهي حبيبةٌ مقصودةٌ؟ أهي امرأةٌ عابرةٌ في طريقٍ؟ أهي كائنٌ حيٌّ؟ أم هي فكرةٌ ذات تأثيرٍ عميقٍ في نفسه؟ فغدت مرجعًا في فضاء النصّ، لكنّ الوصول إليه غير متيسّرٍ، ولا ممكنٍ إلا بمثل ما سلف من الاحتمال والافتراض.
ولقد تكون إحالة ضمير الغائبة على مجهولٍ، كما في قوله:
وجهها – كان – مظلة وسحاباتٍ مطلَّة
وبـروقـاً .. تـرعـش الآمـالَ مـن أوّل وهـلـة
… يأذن النظر في عنوان القصيدة – بوصفه نصًّا موازيًا – بتقريب صورة المرجع ويحدّده، وهو في هذه القصيدة (المحبوبة) كما تدلّى كالثريّة في أعلاها. لكنّ تعيين العنوان للمرجع لا يحلّ مشكلة تحديد هُويّة المحبوبة، من تكون؟ وما تكون؟ أهي امرأةٌ أم وطنٌ؟ أم هي حلمٌ مشتهى؟ وما أشبه ذلك من أسئلةٍ لا جواب لها.
على أنّ الاتكاء على العنوان لتحديد المرجع لا يطّرد في قصائد الشقّاع في هذه المرحلة، فإذا بالقارئ يتعثّر بعودة الضمير الغائب على غير مذكورٍ في النصّ، وعليه أن يحدّده كما تمكّنه قدرته على التأويل. من ذلك كما في قوله:
وجهها في المدى البديعْ نشوةٌ تغمر الجميعْ
رعشةُ الفجر والنَّدى مثلما يُقبل الربيع
أيقظت صبوة الهوى كدتُ، من خلفها، أضيعْ
وإنّ في إغماض المرجع العائد عليه ضمير الغائب أو الغائبة ما يرتقي بمعنى القصيدة كاملةً من دائرة الغنائيّة، التي يمثّلها شيوع ضمير المتكلّم في النصّ إلى دائرة السرديّة التي يجلوها استخدام ضمير الغائب مذكّرًا كان أم مؤنّثًا.
وإذ وصل الحديث عن شعريّة اللغة وحداثتها إلى هذه المنطقة من الاستخدام اللغويّ فلنكتفِ بما سلف من حديثٍ عنها ولننتقل إلى النظر في
طرائق تشكيل ضمير المتكلّم ووظيفته في النصّ.
هيمن ضمير المتكلّم بتشكيلاته اللغويّة كلّها على شعر الشقّاع في هذه المرحلة – أعني عقد الثمانينيّات من القرن الماضي – هيمنةً غلّبت الوظيفة التعبيريّة للخطاب الشعريّ على سواها من وظائف الكلام.
وبدا حضور الذات المتكلّمة في النصّ طاغيًا على حضور العالَم من حوله أفرادًا وجماعاتٍ. فلا كون إلا كونها، ولا داخل إلا ما يعتمل في جُوّانيّتها، عنها يدور الحديث، وإليها يساق، لها أوّله ولها آخره. والعلّةُ في هذا الإيغال في محيطاتِ الذاتِ وأدغالِها اكتشافُها وجودًا سياسيًّا يحاصرها ويصرّ على إقصائها ونفيها، ويضع وجودها كلّه على هامش المجتمع وحواشي الحياة. فتقاصرت عن أن تكون متنًا متّحدًا مع سواه من متون المجتمع كما كانت تتمنّى وتروم. هذا على مستوى الإنسان فيه. يتراسل معه إحساسُ (الشّاعر) في داخله بالانسلاخ عن أصداء التحديث الشعريّ على مستوى الوزن؛ حيث وجد (الشاعر الشقّاع) هُويّته الإبداعيّة في إطار البحر والقافية في جيلٍ آثر شعراؤه الانسرابَ إلى الشعر في إطار التفعيلة، أو في إطار ما عُرِفَ بقصيدة النثر، وفي هذا خروجٌ على السّرب يفضي في الزمن الثوريّ إلى عزل كلّ نصٍّ لا يتفاعل مع التجربة الأدبيّة في اتجاهها العام. ناهيك باحتضان المجتمع لتوجُّهٍ يرى الأدب وظيفةً ولا غير. فاندغم (الإنسان) في (الشّاعر) ليشكّلا ذاتًا واحدةً، ثمّ تضخّمت هذه الذّات، فغدت جماعةً حين مسَّ وجودَ الجماعة ما مسَّ وجودَ الفرد في داخله إنسانًا ومبدعًا من إقصاءٍ ونفيٍ وتهميش.
ولقد تجلّى حضور الذات في النصّ على مستويات من اللغة، منها ما جاء في مطالع القصائد، واتخذ هيئاتٍ متنوّعةً، هي:
1- حضور الذات على هيئة همزة المضارعة:
لو يقول الليل شيئاً لو يقولْ آه كم أشتاق للفظ البتول
أنسابُ كاللَّحنِ الشَّفيفْ في ليلِ أحزاني الكثيفْ
كما تومض الأنجم السّاهدةْ أناديكِ.. لكنْ بلا فائدة
أمشي على خطّ العذاب المستقيمْ فجديد أوجاعي شبيهٌ بالقديمْ
… إلى آخر ما هنالك من ذلك.
2- حضور الذات على هيئة الضمير الدال على الفاعليّة:
صباح الخير: يا غيري الذي سميتُه نفسي
ويا أحجار أخطائي التي سميتُها حدسي
رأيتُ في الشارع وجهاً حبيب ألفتُه يوماً.. وأمسى غريب
فتحتُ الكتاب فكانت هناك
صحاري .. سحاباً حماماً .. ملاك
3- حضور الذات على هيئة (ياء المتكلّم)، وهو يدلّ في مظانّ على المفعوليّة:
كانتْ تُناديني.. وكنتُ المجيبْ فـي لهفة الطفل وحزن الغريبْ
يطالبني الأمس أنّ أرجعه يناشدني الشعر أن أبدعه
لا تقابلني بقلبٍ منفتحْ أيهاّ الوقت أرحني .. واسترحْ
رَمتني على الرمّل إحدى القُرى فكان جبيني كتَابَ التَّعبْ
… إلى آخره.
على أنّه يجيء في مظانّ مضافًا إلى سواه اسمًا كان أو ظرفًا:
مرّت الأعوام فوقي كالقطارْ ودهاني قلق، عشب ونارْ
عيناكِ عندي فرصة للرَّحيلْ يا حلوة تجئُ عند المَقِيْلْ
بشاشةُ الدنيا وألوانها حمامةٌ ترسل أحلى هديلْ
“نوار” ضاعت من يدي يالانهيار المعبد!
الشوق يكمن في دمي.. مثل الحسام المغمد
والحزن يعزفني .. فيا أرجاء روحي : رددي!
…إلى آخر ذلك.
4- حضور الذات على هيئة ضميرٍ مستترٍ يؤوّل بالضمير المنفصل (أنا):
ناءٍ على هذا الطريق النائي أنهدّ من ألفي الحزين ليائي
أي (أنا ناءٍ)، والدليل على ذلك حضور ضمير المتكلّم في عجز البيت (أنهدُّ/ ألفي/ يائي).
غير من كنتِ تنادين أميرا غير من غنّى لكِ الشعر المثيرا
أي (أنا غير مَنْ…)، والدليل على ذلك قوله بعد أبياتٍ ” ضاع تاريخي وضيّعتُ المصيرا”.
5- حضور الذات في هيئة الضمير المنفصل (أنا)، وهنا يظهر في النصّ فعلًا وقوّةً كما في قصيدته (هُويّة):
وتسألني (من أنا)؟ فاطمة – أنا طائر الفطرة الهائمة
أنا بيت شعر يجوب المساء يسبِّح للحلوة النائمة
أنا فكرة دوخت عصرها أنا نكبةٌ لم تزل قائمة
6- ولقد تتجلّى الذات على هيئة (التجريد)، وهو إخلاصُ الخطاب للآخر والمقصودُ به المتكلِّم، وهو من مكوّنات (اللسان)، التي انتظمت في (الكلام) فزيّنت ديباجته، ورقّقت حواشيه. ولشعراء العربيّة طرائقهم في استخدامهم إيّاه تدلّ على حساسيّة مرهفةٍ بالمكوّنات الأسلوبيّة، وسننها اللغويّة في اللغة العربيّة. وهو يجيء في شعر الشقّاع على هيئة مخاطَب، كما في قوله:
لم تلقَ يوماً مثلها فاحفظ ” للبنى ” فضلها
ماذا تريدُ؟ ومن تراوِدْ؟ أنت المطارَد .. والمطارِدْ
كابدتَ .. كابدتَ الدروب ولا تزال هنا تكابدْ!!
أو يجيء في هيئة ضمير الغائب:
أيُّها النائم في حضن الجبل أعط للنائي عناوين الأمل
كيف تنساه وقد كان هنا عاشقاً بالباب، يسقيك الغزل؟
يعود بأقماره الساهدة يهزّ مدينته الراقدة
يرتل مأساته في الظلام ويطلق أشواقه العائدة
… إلى آخره.
وكما يُفتتح البثّ الشعريّ في قصيدة الشقّاع بضمير المتكلّم يُحتتم به، قال:
غير أنّي في هواها سائرٌ وسأفنى بين سيري والوصول
وهنا تتقلّب الذات على هيئات الضمير في مستوياته اللغويّة كلِّها، فجاءت في موضع الابتداء (أنّي)، وفي موضع الفاعليّة (سأفنى)، وفي مقام الإضافة (سيري).
وقريبٌ منه قوله:
قد محوتُ العشق من ذاكرتي وكبير الهمِّ ينسيك الصغارْ
ولقد يستتر الضمير لكنّ في النصّ كاملا ما يشير إليه، كما في قوله مختتمًا قصيدة (المحبوبة):
” عنترٌ” يشعل حربًا كي يلاقي وجه “عبلة”
وهنا يحدث اللبس بتحديد المقصود بـ(عنتر) في حشو البيت حين تقرأه معزولًا عن أبيات القصيدة الأخرى، لكنّ النظر في تلك الأبيات يدلّك على أنّ المقصود بالخبر هنا هو ضمير المتكّلم المنفصل (أنا) الواقع في منزلة الابتداء في النصّ، ومن ذلك قوله:
سأناديها إلى أن يجد التاريخ ظلَّه.
وقد تتقلّب الذات بين هيئات اللغة من المفعوليّة إلى الفاعليّة، كما في قوله في ختام قصيدةٍ:
هاتف بالباب يستعجلني فدعيني أعزف اللحن الأخيرا
ففي حين يقع ضمير المتكلّم الممثّل بالياء في موقع المفعوليّة في موضعين تراه في الموضع الثالث يتعالى إلى موقع الفاعليّة تحدّيًا للتلاشي والفناء، وما حديثهم عن تغريدة البجع بمنسيٍّ أو مجهول، وهي فاعليّةٌ تبدو دالّةً على حرصٍ من جهةِ المبدِع على استحضار الذات لتوكيد حضورها، ففي بعض قصائده تغيب الذات عن مطلع القصيدة، كما في قوله:
لحبيبٍ مثل وجه الصبح أبلجْ لغرام أحزن القلب وأبهج
غابت الذات في موضع الافتتاح، وحضر الآخر/ المحبوب بهاءً وغرامًا، حزنًا وبهجةً، لكنّ ذلك لم يتمدّد ليزداد حضور الآخر، فوقف عند هذا الحدّ؛ ليفسح المجال أمام الذات المتكلّمة؛ لتحضر في هيئة الفاعليّة ومقام الإضافة:
أجمع الآن لظى تجربتي كي أصوغ الحب أسلوباً ومنهج
ثم يفيض حضورها على مكوّنات العالَم كلّها وتفاصيله، ولا تقف في تطوافها إلا عند اختتام القصيدة لتعلن أنّها تبتدئ الغناء وتنهيه بفاعليّتها كما مضت بها التجربة وصعدت بها الرؤى:
لحبيبي أبتدي هذا الغناء ثم أنهيه لعصرٍ يتهدَّجْ
ومثلما افتتحت القصيدة بضمير الذات في بنية التجريد اختتمت به مخاطَبًا وغائبًا:
تمشي حواليك الجموعُ وأنت في الأزمات واحدْ
فالمخاطَب هنا هو المتكلّم، وهو المتحدَّث عنه بضمير الغائب في قوله في خاتمة قصيدة (العائد):
يلوك الشوارع يمضي إلى قصيدته: جثة هامدة
أليس هنا عمره كلّه تجمّع في بقعة واحدة؟
ولقد مثّل ضمير المتكلّم بهيئاته اللغويّة كلّها جوهر موقفٍ شعريٍّ كاملٍ، تجلّى في قصيدة الشقّاع “هُويّة”:
وتسألني (من أنا؟) فاطمة
– أنا طائر الفطرة الهائمة
أنا بيت شعر يجوب المساء
يسبِّح للحلوة النائمة
أنا فكرة دوخت عصرها
أنا نكبةٌ لم تَزَلْ قائمة
هنا ضمير المتكلّم المنفصل (أنا) مبتدأ الأشياء ومنتهاها، وعلاقته بها علاقة إسنادٍ اسميّ ممّا يدلّ على ثبوت النواتج الدلاليّة، التي تضمّنتها دوال الجمل في الأبيات، فهناك (الهيمان والتيه والدوار والنكبة التي لم تزُلْ). لكنّ توالي هيئات ضمير المتكلّم في أبياتٍ تاليةٍ من القصيدة عينها يكشف عن علاقة إسنادٍ فعليٍّ، تتغيّر به النواتج الدلاليّة؛ من حيث التجدّد، والتنوّع، والتغيير: (أغنّي لشيءٍ غريبٍ/ أمشي على الحقبة العائمة/ سأفتح جمجمتي…/ سأنفيك من داخلي مرّةً/ ألقاك في الجولة القادمة/ أريدك فعلا…). وفي هذا ما ينبئ أنّ جوهر الإشكال الشعريّ في القصيدة يتراسل مع جوهر الإشكال الوجوديّ للذات الشّاعرة إن لم نقل إنّه منبثقٌ منه، يؤكّد هذا التأويل ما نجده في ثنايا القصيدة من علاقةٍ ثنائيّة بين الذات والجماعة، يبرزه هذا التجانس بين ضميري التكلّم للمفرد (أنا) وللجماعة (نحن)، (لنا هدف اللحظة الحاسمة/ انطلاقاتنا دائمة). وإنّما بدا ذلك على ذلك النحو لأنّ إشكال الجماعة الوجوديّ – في هذا الموقف الذي انبثقت منه القصيدة – يتماثل مع إشكال الذات الوجوديّ تمامًا بتمام. بيد أنّه في غيرها من القصائد تقوم الثنائيّة بين الذات والآخر متنوّعة متعدّدة. فهي مختلفةٌ ضديّةٌ في موطنٍ، وهي مؤتلفةٌ منسجمةٌ في موطنٍ آخر. تدلّ على الرفض في مقامٍ، وتدلّ على القبول في مقامٍ آخر.
على أنّ ظهور الآخر في أيّة قصيدةٍ للشقّاع لا ينفي طغيان حضور الذات في النصّ وهيمنتها عليه حتّى ليتلاشى الآخر وإن كان في أصل التجربة محورها الفاعل. في قصيدة (سمرقنديّة) يقول:
مساء الخير يا شهدي ويا ترنيمة الوردِ
سمرقنديّة جاءت بكل عذوبةٍ عندي
زحام الشارع العدنيّ أطلعها بلا وعدِ
كلؤلؤةٍ رماها البحر بين الجزر والمدِّ
وفي هذا ما يأذن بالانسراب إلى عالَم الآخر لاكتشاف مكوّناته، وتبيان خصائصه، واستكناه أبعاده. لكنّ ذلك لم يكن لأن في كونه ضمورَ الذات وتلاشي فاعليّتها، وهو ما لم تقبل به، فانصرفت عن تجسيد صورة الآخر كما دلّ عليها الواقع المشهود، وأبان عنها حدث المجيء؛ لتبرز صورة للآخر – وهو هنا تلك السمرقنديّة – كما رسمتها الذات، التي تجلّت في الخطاب من خلال ضمير المتكلّم الدّال على الفاعليّة (أخذتُ/ رأيتُ/ لمحتُ/ قرأتُ)، ومن خلال الياء ضميرًا للمتكلّم (لديّ/ عروبتي…). ولعلّ في مثل هذا الصنيع الإبداعيّ ما يفضي إلى القول بأنّ حضور الآخر في شعر الشقّاع في هذه المرحلة من تاريخه الإبداعيّ لا يزيد على كونه وسيلةً تسعف الذات على جلاء جوّانيّتها ولا غير. فغلبت النجوى على بثّه الشعريّ، وانحصرت (الرسالة) في (الباثّ)، فلم تستكمل دورتها بين باثٍّ ومتلقٍّ كما يقتضي شرط الاتصال بين الذوات، فغدت صوتًا منطلقًا في فضاء اللغة من أن يتعيّن متلقّيه، أو تتحدّد هُويّته. ومن هنا تتعالى لغة النصّ عن المستوى التداوليّ لتوغل في الشعريّة. وتغدو الشعريّة عبيرًا يضوع من ثنايا اللغة.
هذا الرصد لحركة الذات في النصّ على مستوى ضمائرها لا يمنعنا من السؤال عن طبيعتها في شعر الشقّاع آنئذٍ. والحقّ أنّها – إن صدقت النصوص، وصحّ الحدس – مزيجٌ من الرومانسيّة والوجوديّة؛ فلقد رفضت الواقعَ الموجودَ؛ اشتهاءً للمرتجى المنشود من عالَمٍ مفقود، فبدت كالمنبتّ لا ظهرًا أبقى، ولا أرضًا قطع. فظلّت الذات في منزلة (الرفض)، ولم ترق إلى منزلةٍ سواها. أتراه لهذا غابت صورة الجماعة من شعره، وحضورُها فيه دالٌّ على الانتماء؟ لقد أعلن الشاعر يومًا أنّ ما نحن فيه (عالَمٌ غيرُ عالمي) وإن اشتهى السّيادة المطلقة فيه:
أبدًا أحنّ إلى اكتمالٍ نافذٍ ليسير هذا الكون تحت حذائي
أتراه يطمح إلى ما طمح إليه أبو الطيّب في قديم الزمان:
أريد من زمني ذا أن يبلّغني ما ليس يبلغه من نفسه الزمنُ؟
أم تراه يحذو حذو البردّونيّ في قوله:
أريد ماذا يا زمانًا بلا نوعيّةٍ لم يدر ماذا يريد؟
لقد يصحّ هذا، ولقد يصحّ سواه. وأيًّا كان عمق التعليل ومداه فإنّ الظاهرة هي من الظهور في شعره بحيث لا تخطئها عين النّاظر فيه.